غزة- منذ 470 يوما لم يغادر شبح الموت سماء غزة، يختطف الأبناء والأحبة، وتعبث يداه في حياتهم فتقلبها رأسا على عقب، لكن الغزيين اليوم يقفون على أعتاب مرحلة فارقة، حيث تفصلهم ساعات قليلة عن بدء سريان هدنة طال انتظارها، لتحمل معها بصيص أمل بوقف نزيف الدماء وآلام الدمار.

مزيح معقد من الفرح والخوف والحزن، ومشاعر تتصارع بين شوق للأمان وتوجّس من المجهول القادم، وبين حزن مؤجل ودموع لم تجد وقتًا لتنهمر.

وهي لحظات مصيرية مليئة بالهواجس، يحبس فيها الغزيون أنفاسهم، في ظل استشراس الاحتلال الذي ينتهج الإبادة حتى النفَس الأخير حيث استشهد بغاراته منذ إعلان اتفاق وقف إطلاق النار 123 فلسطينيا نصفهم من النساء والأطفال، بحسب إفادة الدفاع المدني للجزيرة نت.

غزيون يحتفلون مع إعلان التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار (الجزيرة) أوان الحزن بلا خوف

في مستشفى المعمداني، حيث لا تزال تشيع رائحة الموت، يصف الطبيب علي الغليظ، الذي لم يبرح موقعه، مشاعره مع اقتراب الحرب من نهايتها قائلا "هو مزيج من المشاعر المحتدمة، كنا على قائمة الموت، لكن الله أرجأنا لحكمة نجهلها، ونعلم أن الطريق الذي نسير عليه محفوف بالتضحيات".

والغليظ، الذي عاش الحرب بكل تفاصيلها المريرة، تحدث للجزيرة نت عن حنينه للهدوء الذي لم يعرفه منذ شهور، ويقول "آن لأجسادنا المنهكة أن تحزن دون خوف، ولأرواحنا المرهقة أن تبكي بهدوء، لم تترك الحرب أحدا دون جرح، كلنا شهداء أو جرحى أو نازحون أو فاقدون لأحبائنا".

وبصوت مثقل بالذكريات، يتابع الغليظ "لا أستطيع وصف شعوري بفرحتي أنني لن أعود لتلك المشاهد الدامية حيث الأطفال بلا رؤوس، والأمهات الثكالى، والدماء في الممرات، والمصاب الذي يموت أمامنا ونحن عاجزون".

إعلان

يصمت ويضيف "لن أنسى الطفل الذي قال لي لا أريد شيئا، أريد أن أموت وأنا أسند رأسي على وسادة، ولا أصدقائي الأطباء الذين فقدتهم، ولا منزلي الذي دمره القصف".

تبدو الحرب في طريقها إلى النهاية، لكن ذاكرة الغليظ المكتظة بالألم لن تُمحى كما يقول، حيث سيعود إلى بيته المهدم، وهناك تختبئ بين الركام ذكريات 27 عاما مضت، وسيبقى فخورا لكونه شاهدا على صمود الغزيين في أصعب اللحظات.

"لا أصدق حتى أرى"

خارج المستشفى المعمداني وفي ساحتها حيث تنتصب خيام الصحفيين الذين لم يبرحوا الميدان، قابلت الجزيرة نت الصحفي محمد شاهين الذي لم يعرف الراحة منذ اليوم الأول للحرب، اختار أن يستمر في نقل المجازر، بينما تعيش عائلته النازحة في مآوي دير البلح، بعيدًا عنه منذ أكثر من عام.

يتحدث شاهين للجزيرة نت عن مشاعره المتضاربة مع اقتراب سريان اتفاق وقف إطلاق النار، حيث يخالط الأمل الذي يملأ قلبه بعودة الهدوء واللقاء بعائلته، ألمٌ عميق تركته مشاهد المجازر التي شوّهت براءة الأطفال في ذاكرته، فبالنسبة له لم تعد ملامحهم الملائكية كما كانت، فقد أضحوا أشلاءً وقصصا أبكت الإنسانية.

يقول شاهين "لن أحتفل بانتهاء الحرب حتى أتأكد من سريان التهدئة فعلا، فلا آمن غدر الاحتلال الذي استباح دماء الأبرياء في لحظات فرحتهم". ورغم كل ذلك، يؤكد شاهين أنه سيبقى على "الجبهة الإعلامية"، موثقًا جرائم الاحتلال التي امتدت على مدى 470 يوما، "حتى الرمق الأخيرة".

دمار واسع خلفه العدوان الإسرائيلي لنحو عام ونصف العام على أنحاء غزة (الأناضول) موعد بعد فراق

وفي توق الغزيين للأمان بعد انتهاء الحرب، ينتظر بعضهم العودة إلى منزله الذي لا يعرف مصيره، وآخرون لانتشال جثامين أحبائهم، وغيرهم لنقل شهدائهم من قبور مؤقتة في الشوارع والحدائق إلى مقابر مخصصة. أما أهالي الأسرى، فيبدو ترقبهم مختلفا حيث يفكرون بمعانقتهم والتأكد من نجاتهم.

إعلان

التقت الجزيرة نت سجى جمال، زوجة أسير اختطفه الاحتلال خلال اقتحام مجمع الشفاء في مارس/آذار الماضي، حين كان يرافق صديقه المصاب.

تقول سجى "كان خبر الهدنة مهما لنا كأناس عاديين، لأن الموت حصد من أرواحنا كثيرا ونحتاج لوقف نزف الدم والخوف، لكن شعورنا مختلف؛ حزننا يرافقه الحماس والترقب لتفاصيل صفقة تبادل الأسرى التي نتمنى أن تتكلل بالإفراج عن زوجي وشقيقي المعتقلين".

بصوت يختلط فيه الشوق بالألم، أضافت سجى "أفكر كثيرا بلحظة اللقاء، كيف سيكون شكلها بعد كل هذا اليأس؟ وكيف سأبلغهم بأسماء العشرات من أصدقائهم وأقربائهم الذين استشهدوا خلال الحرب؟".

وتضيف "أتابع أخبار الصفقة بكل تفاصيلها وأدعو أن يتوج صبرنا بخروج زوجي وشقيقي معا، كي نودع هذا البعد القسري الذي فرضته علينا إسرائيل منذ شهور".

الغزيون يستعدون لمواجهة أحزانهم الكبيرة مع العدد الكبير من الشهداء والمفقودين (الأناضول) أعصاب مشدودة

يعيش الغزيون حالة من التخبط والتوتر والضغط النفسي، ويحملون تساؤلات عن كيفية البدء في تأسيس حياتهم من جديد بعد أن فقدوا المأكل، والملبس، والمأوى.

تحدثت الجزيرة نت مع المختصة النفسية صفاء حجازي التي تقابل عشرات الحالات من مختلف الأعمار في عيادات الرعاية التابعة لوكالة الغوث (الأونروا) في مدينة خان يونس جنوب القطاع.

وقد قالت إن معظم الغزيين "يعيشون في أتون المجهول ولم يمنحوا أنفسهم فرصة للحزن، فقد أجلوه تحت وطأة هموم أكبر مثل تأمين الاحتياجات الأساسية"، كما أن "الكثير منهم يعانون الاكتئاب، وفقدان الطاقة، ولوم الذات، وحتى مشاكل بالنوم نتيجة الصدمات النفسية العميقة".

وسائل للبقاء

ومع ذلك، ترى حجازي أن الحرب، رغم آثارها المدمرة، أكسبت الناس مهارات استثنائية؛ إذ "أجبرت الظروف النساء اللواتي فقدن أزواجهن على تحمل أعباء إضافية، مثل صناعة الأطعمة والحلويات، والخياطة، والزراعة، لتأمين قوت أطفالهن، ورغم ما أضافته هذه الأدوار من هموم، فقد كانت وسيلة للبقاء وسط هذه المحنة".

إعلان

وأشارت أيضا إلى حالة التكافل والتعاون التي ظهرت في مراكز الإيواء، حيث يتقاسم الناس الطعام والفراش، مما خلق شعورا بالتعاضد وسط الفوضى.

الأزمات النفسية

لكن التحدي الأكبر، كما تقول حجازي، يكمن في التعامل مع التعقيدات النفسية. "فالكثير من نظريات علم النفس التقليدية لا تجدي نفعا في التعامل مع هذه الحالات، ويبدو الإرشاد الديني هو الأكثر تأثيرا اليوم، لأنه يمنح الناس سندا روحيا وسط معاناتهم غير المسبوقة".

ومع بدء العد التنازلي لانتهاء بؤس الحرب، يجد الغزيون أنفسهم مجبرين على التعاطي مع أحزانهم المؤجلة، التي يبدؤون فيها حروبهم الحقيقية أمام فقد المال والمأوى والولد، وخلفهم طوفان من الذكريات التي ستبقى شاهدة على أقسى أيامهم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

"الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه

غزة - خاص صفا

"ناجية وحيدة"، لكن صدمة فقد عائلتها قبل نحو شهر، في وقت وضعت فيه حرب غزة أوزارها، جردتها من معاني الكلمة، وتعيش أوضاعًا صعبة، تتمنى فيها "اللحاق بهم.
الفتاة بتول أبو شاويش "20 عاما"، واحدة من آلاف الناجين الوحيدين لأسرة كاملة ارتقت بحرب غزة، لكنها تُسقى أضعافًا من كأس الفقد، لكونها استبعدته يومًا.

"أنا لستُ ناجية، أنا وحيدة وتمنيتُ لو أني ذهبتُ معهم"، تقول بتول لوكالة "صفا".

وتضيف "استشهدت أمي وأبي وإخوتي في قصف بجانب بيتنا في أبراج عين جالوت قبل شهر، وكنت معهم في نفس البيت".

ولكن دقيقة بين مغادرة "بتول" غرفة إخوتها نحو غرفتها، كانت فاصلًا بينها وبينهم، بين حياتها ومماتهم، رغم أن أنقاض البيت وقعت عليها هي أيضًا.

وتصف تلك اللحظات "كنت بجانب محمد وجميعنا بغرفة واحدة، ذهبت لأبدل ملابسي، وفي لحظة وجدت نفسي تحت الأنقاض".
ما بعد الصدمة 

وانتشلت طواقم الدفاع المدني "بتول" من تحت جدارين، مصابة بذراعيها، وحينما استفاقت داخل المستشفى، وجدت عمها بجانبها.

سألت بتول عمها عن والديها وإخوتها، وعند كل اسم كان جوابه "إنا لله وإنا إليه راجعون".

لم تتمالك نفسها وهي تروي اللحظة "لم أستوعب ما كان يقوله عمي، لقد فقدتُ أهلي، راحت أمي رغم أنني كنت أدعوا دومًا أمامها أن يكون يومي قبل يومها".

"بتول" تعيش أوضاعًا نفسية صعبة منذ فقدت أسرتها، ويحاول عمها "رفعت"، أن يخفف عنها وطأة الفقد والصدمة.

"لحظات لم تكتمل"

يقول رفعت "40 عاما"، لوكالة "صفا"، إنها "ليست بخير، لا تعيش كأنها نجت، ولا تتوقف عن التساؤل لماذا لم تذهب معهم".

ويضيف "هي تؤمن بالأقدار، لكن أن يفقد الإنسان أهله وفي وقت هدنة، يعني مفروض أنه لا حرب، والقلوب اطمأنّت، فهذا صعب خاصة على فتاة بعمرها".

وسرق الاحتلال لحظات جميلة كثيرة من حياة "بتول"، لم تكتمل، كحفلة نجاح شقيقها "محمد" في الثانوية العامة.

يقول عمها "بتول بكر أهلها، وهي تدرس في جامعة الأزهر، رغم كل الظروف، وقبل استشهاد أخي وعائلته، احتفلوا بنجاح محمد، وكانوا ينوون تسجيله معها في الجامعة".

ومستدركًا بألم "لكن كل شيء راح، وبقيت بتول وحيدة تحاول أن تنهض من جديد، لكن ليس بعد".

ولم تقدر "بتول" على وداع أهلها من شدة صدمتها، وحينما وضعوها بين خمسة جثامين، تحدثت إليهم، سألتهم لما "رحلتم وتركتموني"، وما قبلت إلا جبين شقيقتها الصغيرة، أما أمها "فعجزت عن الاقتراب منها"، تردد بتول وهي تهتز من استحضار المشهد.

ويوجد في غزة 12,917 ناجيًا وحيدًا، تبقوا من أصل 6,020 أسرة أبيدت، خلال حرب الاحتلال على غزة على مدار عامين، فيما مسح الاحتلال 2700 أسرة من السجل المدني بكامل أفرادها، البالغ عددهم 8,574 شهيداً.

مقالات مشابهة

  • من رجل القسام الثاني الذي اغتالته إسرائيل؟
  • إسرائيل اليوم: هؤلاء قادة حماس الذي ما زالوا في غزة
  • بعد ساعات من إعلان ترامب وقف إطلاق النار.. مواجهات دامية وإغلاق معابر بين تايلاند وكمبوديا
  • النشامى وأسود الرافدين بعد ساعات
  • اليمن على حافة الكارثة: صندوق الأمم المتحدة للسكان يطلب 70 مليون دولار
  • "الناجي الوحيد".. لقب "بتول" الذي جردها الفقد معانيه
  • بلا خيام وبلا مقومات.. الغزيون يواجهون منخفضا جويا فاقم معاناتهم
  • عادل نعمان: النجاة من التطرف تتطلب التمسك بمبدأ الدولة المدنية
  • العنف الإلكتروني ضد المرأة ومهارات النجاة .. ندوة بالمجلس القومي
  • السيّد: هل تكفي الدولارات القليلة التي تحال على القطاع العام ليومين في لبنان ؟