قضية العلمانية والتصويب خارج المرمى
تاريخ النشر: 28th, February 2025 GMT
جمال عبد الرحيم صالح
بداية ينبغي التوضيح بأن الكاتب من دعاة فصل الدين عن الدولة، بلا مواربة، وقد قدم للمكتبة السودانية بحثاً عن هذه المسألة بعنوان “الدين والدولة – مشروع رؤية لفض الاشتباك” من إصدار دار المصورات عام 2022.
لدى الكاتب قناعة بأنه إذا كانت الدعوة للعلمانية تعني أن تكون الدولة على مسافة واحدة من جميع مواطنيها، غض النظر عن أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم، فإن معظم دساتير السودان، من دستور 1956 وحتى دستور الإسلاميين عام 2005، اشتملت على تلك المبادئ، بل إن دستور 2005 مضى أبعد عن ذلك في تأكيد تلك المبادئ (راجع دستور 2005).
إذن هنالك خلل ما يجب تصحيحه؛ إذ ليس هناك أكثر دلالة على عمق هذا الخلل، من أن معظم الاتفاقيات والمواثيق التي تداولتها أيدي الساسة السودانيين بمختلف مشاربهم، ابتداءً من البيان الختامي لمؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، تضمنت تلك المبادئ “العلمانية”. بيد أن معظم القوى الرئيسية الموقعة على تلك المواثيق (خاصة الحزبين الكبيرين) ربطت ذلك لاحقاً بما أطلق عليه “المؤتمر الدستوري”!
وهنا لا بد لنا أن نسأل أنفسنا سؤالاً مباشراً وواضحاً: إذا كانت تلك القوى السياسية متفقة على مبادئ العلمانية الأساسية، وهي أن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان، وأن السلطة للشعب يمارسها عبر إنتخابات حرة ونزيهة؛ لماذا، إذن، ظهر مفهوم “المؤتمر الدستوري” في حياتنا السياسية منذ عهد بعيد خاصة وأن دستور 2005، المعترف به من القوة الأساسية المناهِضة لشعار “العلمانية”، وأعني إسلاميي المؤتمر الوطني، يشمل ذات المبادئ المعلنة في البيان الختامي لمؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية؟! لماذا الإصرار ذلك المؤتمر لمعالجة مسألة متفق حولها؟
الرأي عندي، أن إحالة الأمر للمؤتمر المنشود، إنما ناتج من الخوف “البنيوي” لدى الحزبين الكبيرين، من الابتزاز الشديد الذي سيتعرضا له من إسلامويي المؤتمر الوطني، في حالة رفعهم لشعارات مثل العلمانية أو فصل الدين عن الدولة، وتأثير ذلك على جماهيرها التي استقطبتها أساساً على محمولات دينية.
لو رجعنا للماضي بعض الشيء، في محاولة لتفسير ذلك الارتباك، سنجد أن الدافع الرئيسي لنشوء الحركة الشعبية لم يكن موقفاً من دستور 1973 العلماني، وإنما كان بسبب ما يسمى بقوانين سبتمبر التي صدرت تحت مظلته! وما إصرار حركتي الحلو وعبد الواحد على علمانية الدستور إلا رفضاً منهم لتلك القوانين، التي يقوم مقامها حالياً القانون الجنائي لسنة 1991، وبالذات ما يسمى بالعقوبات الحدية. نفهم من ذلك، أن القضية الأساسية التي ينبغي مناقشتها أو التحاور حولها، هو موضوع علاقة الدين بالقوانين وبالذات القانون الجنائي، وليس وقوف الدولة على مسافة واحدة، ذلك المبدأ الذي لا يوجد اختلاف أصلاً حوله، بمن في ذلك إسلامويي المؤتمر الوطني!
هل يعني الاتفاق على علمانية الدولة إبعاد الدين عن مصادر التشريع؟ بالتأكيد لا! هناك قوانين مرتبطة بمعتقدات الناس، سواء مسلمين، أو مسيحيين، أو من معتقدي كريم المعتقدات؛ وهي قوانين الأحوال الشخصية. صحيح أن بعضها يحتاج لتطوير ليتماهى مع قيم وأنماط حياة مستجدة، بيد أن ذلك لا يلغي ارتباطها بالمعتقد سواء تحدثنا عن المسلمين أو المسيحيين أو المعتقدين في ديانات أو ثقافات أخرى، وما أكثرهم. هذه نقطة هامة للغاية، وينبغي وضعها في دائرة الانتباه ونحن نتجادل حول ماذا تعني علمانية الدستور.
للخروج من ذلك الجدل الدائري حول مسألة العلمانية، أرى أن على خطابنا السياسي والفكري والإعلامي، الاتجاه نحو معالجة تلك الجزئية، أي علاقة الدين بالقانون، وليس علاقة الدين بالدولة. من وجهة نظري أنه إذا تم التصويب على ذلك الهدف سنختصر الكثير من الجدل، علماً بأن الإسلاميين، وحتى هذا الجانب، أي القانون الجنائي، لا يملكون أي حجة على الآخرين يبتزونهم من خلالها! فهناك شواهد، لا تقبل الجدل، بأن الإسلامويين أنفسهم نفضوا أيديهم عن ذلك القانون نظرياً وعملياً وتجاوزوا في ذلك ثوابت استقرت منذ أكثر من ألف عام، من أمثلة ذلك التجاوز الجرئ، من صلب القانون الجنائي السوداني الحالي والمتضمن للعقوبات الحدية:
* لا يميز القانون بين المسلم وغيره في الشهادة.
* لا يوجد تمييز في الدية بين المرأة والرجل، أو بين المسلم وغير المسلم.
* أضاف القانون الجنائي شرطاً لتطبيق حد السرقة جعل من المستحيل تطبيق ذلك الحد.
* جعل تحديد قيمة الدية، في القتل الخطأ مثلاً، مرتبطاً بتقديرات رئيس القضاء متجاوزاً القاعدة المعروفة وهي عدد مئة من الإبل.
* ما تم تنفيذه من بتر للأعضاء (فيما يخص الحدود والقصاص) لم يتجاوز العشرة حالات، حسب المعلومات المتوفرة للكاتب، في خلال الخمسة والثلاثون عاما.ً
* تحايلت حكومة الإنقاذ على مادة “حد الردة” بوسائل مختلفة في إتجاه عدم تطبيقها، والذي يعني ضمناً عدم قناعتها به (أمثلة: قضيتي السيدة أبرار والسيد البارون).
بالنظر لكل تلك الحقائق، نرى أن تجاوز العقبات فيما يخص مسألة العلمانية، أو فصل الدين عن الدولة، أمر قابل للتحقق بدون دفع أثمان باهظة، وكل المطلوب، في نظر الكاتب، أن يتم الخروج من ذلك الجدال الدائري، ومخاطبة القضية الحقيقية التي هي مسألة علاقة الدين بالقانون.
الوسومجمال عبد الرحيم صالحالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: القانون الجنائی علاقة الدین الدین عن
إقرأ أيضاً:
السلام والتعايش في سوريا سبيل الاستقرار
تعيش سوريا مرحلة انتقالية معقدة تتشابك فيها امتدادات أزمات الماضي مع مشكلات الحاضر، وتتنوع المعضلات من السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية وإعادة الإعمار وحتى الحفاظ على كيان الدولة السورية، بتنوعاتها الوطنية، لكن رغم كل هذه التعقيدات، فإن إمكانية بناء مستقبل مستقر عنوانه الحوار والتعايش والسلام ممكن، مع عدم إعطاء الذرائع للتدخلات الخارجية في البلاد، خاصة في تغيير الجوانب الجغرافية والديموغرافية السورية.
إن الحوار بداية الطريق لتحقيق التعايش والسلام في سوريا، بشرط استيعاب كل الأطياف، والتشارك في صياغة رؤية مشتركة لمستقبل البلاد قائمة على العدالة والمساواة والتعددية وسيادة القانون، ولإفراز الحوار نتائج جيدة على الجميع طي صفحات الماضي، بالتوازي مع تأسيس آليات لـ”العدالة الانتقالية”، لضمان محاسبة مرتكبي الانتهاكات والجرائم بحق المواطنين وتعويض الضحايا، بما يضمن الانتقال السلمي والاستقرار في سوريا على المدى الطويل، فلا يمكن لمجتمع متنوع جغرافيًّا ودينيًّا تحقيق الاستقرار إلا بتوافق وطني يضمن تداول السلطة، والحفاظ على مؤسسات الدولة، واتخاذ خطوات عملية لترميم الثقة بين جوانب البلاد.
وتعالج المصالحة الوطنية آثار النزاع بين الأطراف المختلفة في المجتمع، حتى تعود الثقة بين المواطنين والدولة ومكونات المجتمع ككل، وحينها ننظر إلى الأمام وبناء المستقبل، خاصة أن الحرب في سوريا خلفت في السنوات الماضية عشرات الآلاف من الانتهاكات والجرائم، وحال الظن أن المصالحة الوطنية كافية دون عدالة انتقالية، فإن هذه الحالة تتجاهل محاسبة مرتكبي الجرائم، وتضعف الثقة في الدولة ومؤسساتها.
وسوريا ليست الوحيدة المارّة بالانتقال السياسي، فالدول مرت بتجارب مختلفة نتيجة صراعات طائفية أو عرقية أو الانتقال السياسي بعد سقوط أنظمة سياسية، ومع تحديات سوريا، إذ يعيش المواطن السوري ظروفًا صعبة نتيجة لتداعيات الحرب واضطرابات وتوترات الحاضر، على كل فئات المجتمع احترام التنوع، وربما تحويله إلى قوة دافعة لتعزيز الأمن وتسوية النزاعات بالطرق السلمية وإرساء السلام دون الإقصاء، أو تصور أن فئة يمكنها التحكم في كل شيء، وبالعكس ينبغي على الكل إدراك أن الوطن هو إرادة مشتركة ورغبة في العيش المشترك وصهر للانتماءات الفرعية في الوطن الكبير.
إن البديل عن السلام هو العنف والصراع، ومقتضيات السلم الأهلي تتطلب نبذ الكراهية والوعي بأهمية التعايش المشترك، وتغليب الصالح العام على الخاص، ولا يجوز إلغاء الآخر، فالاختلاف والتعدد أمر واقع، وإبراز قيم العيش المشترك أولوية في السلم الاجتماعي، وحفظ الاستقرار والأمان حتى مع وجود اختلافات في الدين أو المعتقد أو الرأي أو الثقافة، لكن على اعتبار أساسي هو رفض كُل أشكال الاقتتال، والانصياع للقانون وسيادته على الكل أيًّا كان المنصب أو الطائفة أو العرق أو الدين.
ويؤسّس خطاب الكراهية والتعصب لانقسامات مجتمعية عميقة، وبالتالي احتمال اندلاع الصراعات والحرب الأهلية، وأي إدارة سياسية ترتكز على الحكمة يهمها العبور إلى بر الأمان دون فرقة، وعدم القبول بأي تجاوزات أو انتهاكات تضعف الانتماء للوطن، أو تخلق مدخلًا للنزعات الانفصالية، ويمكن للدول فرض سيادتها على كامل أراضيها، لكن ليست كل الوسائل المتاحة عنيفة، وبالإمكان توفير البيئة الآمنة لتمكين الناس من إدارة شؤون حياتهم دون مخاوف، وضمان سيادة القانون والمساواة بين الناس حتى يثق كل أفراد الشعب بالقانون وسلطات القانون، ومشاركة كل أطياف الشعب في العملية السياسية.
وفي أعقاب الصراعات المسلحة، تتأزم مراحل الانتقال السياسي خاصة إذا ترافقت مع الحاجة إلى إعادة بناء مؤسسات داخلية، وإدارة تهديدات خارجية معقدة، وإذا ارتكز النهج على المرونة مع الخارج، دون عملية حوارية تشاركية في الداخل، فإن المآلات قد لا يُحمد عقباها، ولو أرادات الإدارة السورية التقدم تجاه التوافق والتعايش والسلام في البلاد، فإن عليها فتح المجال أمام حوارٍ وطنيٍّ لا يستثني أحدًا، وفتح المشاركة السياسية للجميع، وسيادة القانون في البلاد، وإنشاء آليات للعدالة الانتقالية تُتيح معالجة مظالم الماضي بشكل بناء.
إن انخراط كل المكونات السورية في مشروع وطني يتجاوز الانتماءات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية السبيل لإرساء الأمن والاستقرار لانطلاق سوريا إلى التنمية والازدهار، عبر المشاركة المجتمعية في بناء المؤسسات وصياغة السياسات، وحماية حقوق الأقليات من الحق في الوجود والهوية والمساواة أمام القانون حتى التمثيل العادل في المؤسّسات، ومنع تحوّل الانقسامات إلى سياسة دائمة، وتفادي الاستقطاب، ويمكن ترسيخ هذه القيم في دستور يقوم على أسس التعايش والسلام في الدولة الجديدة، مع وضوح مسار عملية الانتقال وعدم ترك الباب مفتوحًا وممتدًّا حسبما تحددها الظروف.