عربي21:
2025-12-14@19:40:36 GMT

غزة: حطام المعنى وركام المبنى

تاريخ النشر: 31st, July 2025 GMT

 يشرح الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» كيف أوصلت الحداثة الصناعية الرأسمالية الإنسان إلى أن غدا ذا بعد واحد، بعد أن تم تدجينه في إطار منظومة لا يستطيع التفكير خارجها، الأمر الذي قضى على حريته التي أصبحت تعني حريته في أن يختار بين السلع المختلفة فقط، الأمر الذي يعني حرية الفرد في أن يختار بين الخيارات التي تم اختيارها له سلفاً، وهو ما يعني إفراغ مصطلح الحرية من محتواه، وإفراغ كثير من المصطلحات والقيم من مفاهيمها، وإعطاءها مفاهيم مضادة، ليصبح الاستثناء هو القاعدة والقاعدة هي الاستثناء، بعد أن أفرغ الإنسان من محتواه الروحي والقيمي، ليصبح ذا بعد مادي واحد.



واليوم، ومع ما نشاهده من أهوال القصف والتشريد والتجويع والإذلال في قطاع غزة يمكن أن نفهم حالة التبلد الشعوري واللامبالاة إزاء الجريمة، وهو تبلد وصلنا معه إلى درجة أن نكون شهوداً على قتل إسرائيل أكثر من ستين ألف فلسطيني، دون أي تفاعل يتناسب مع حجم الجريمة، حتى أصبحت أخبار موت الأطفال – جوعاً – خبراً مألوفاً، نشاهده – صوتاً وصورة – في نشرة أخبار التاسعة، ثم نذهب بعدها للنوم، بكل هدوء.

ولكن كيف تم هذا التطبيع مع الجريمة؟
لقد مر هذا التطبيع بعدة مراحل، خلال فترات طويلة، هي ذات الفترات التي تدرج فيها خطابنا السياسي من «العدو الصهيوني» إلى «الكيان المحتل»، إلى «دويلة إسرائيل»، إلى «دولة إسرائيل»، وصولاً إلى مراحل التطبيع المختلفة، وهي ذات العملية التي عبرنا خلالها عدة مراحل ومصطلحات، انتقلنا فيها من كون فلسطين قضية عربية إسلامية، إلى كونها قضية عربية، ثم قضية فلسطينية، ثم اختصار فلسطين في غزة، إلى أن وصلنا إلى اختصار القضية في كونها مجرد مشكلة مع حركات مقاومة (إرهابية) يجب القضاء عليها، ضمن استراتيجية ما يسمى بـ»الحرب على الإرهاب»، ليتمثل الحل، بعد ذلك، في إخراج حماس من المشهد السياسي، ثم التطور إلى إخراجها من غزة، وهو حل لن يقف على ذلك، لأن الهدف هو تهجير أكثر من مليوني فلسطيني من غزة إلى تغريبة فلسطينية جديدة، في المنافي والشتات.

وقبل الوصول إلى هذه المرحلة تم الاشتغال على محتويات مفاهيمية وعلى مصطلحات تم تكريسها في ثقافتنا السياسية والإعلامية تحديداً، ضمن الاشتغال على لغة مناسبة، هيأت الساحة على مدى عقود لتقبل فكرة أن المقاومة إرهاب، وأن إسرائيل يمكن أن تكون دولة صديقة، وأن العلاقات معها ستكون بديلاً عن مقاومة احتلالها، في بناء شرق أوسط جديد مزدهر وآمن.

وهنا لعبت اللغة دوراً محورياً عبر ضخ كم كبير من المصطلحات، تحولت معها اللغة إلى وسيلة تدجين، بدلاً من كونها أداة تفكير ووعي وشعور وخلق وإبداع، وأصبحت أداة في يد آلة إعلامية جبارة تسلطها لخدمة أهداف رأس المال في تدجين الإنسان ليغدو كائناً أحادياً، بلا قيم ولا شعور ولا تفكير ولا قدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، بعد فترات طويلة من تكريس ثقافة تقوم على أساس أن القيم نسبية، وأن الأخلاق تتغير، وأنه لا توجد حقائق مطلقة، وأن الشك هو سيد الموقف، وأن الحقيقة الوحيدة الماثلة أمامنا هي حقيقة القوة المادية التي تعيد تشكيل الروح، ومن هنا لم تعد القضايا الكبيرة تهمنا، ولا فلسطين تشغلنا، بل على العكس، أصبحت فلسطين صداعاً نتمنى التخلص منه بأية وسيلة كانت.

كان مطلوباً – إذن – ضخ أكبر قدر ممكن من التشكيك في الثوابت، سواء كانت دينية أو وطنية، تم التخطيط للتشويش على المعاني والقيم، ثم جرت عمليات منظمة لخلط المفاهيم ومهاجمة الرمزيات، والسخرية من المقدسات، وإبراز التفاهة ثابتاً من الثوابت التي لا تتغير، وسرى تعميم التشكيك على تاريخنا، حيث ضُخت محتويات إعلامية ضخمة، كُرست لشيطنة ذلك التاريخ، وحصره في فترات الصراع، بعد أن جرى تغييب كامل لمنجزات هذا التاريخ الفلسفية والعلمية والتشريعية والأدبية والفنية، وتم تصوير هذا التاريخ على أنه تاريخ حروب وصراعات لا تنتهي، حتى راجت أفكار سخيفة من مثل أن الرغبات الجنسية وحب السلب والنهب والتسلط كانت الدافع وراء «الفتوحات الإسلامية».

وفي سياق الأهداف المذكورة، ضُخت محتويات مهولة لتشويه كبار رجال التاريخ، بغرض هز المُثُل في نفوس الأجيال، الأمر الذي أدى إلى سقوط الرمزيات والمعاني والقيم في النفوس، حتى وصلنا أخيراً لشيطنة فكرة المقاومة، رغم أن من حقها، وفقاً للقوانين الدولية أن تقاوم الاحتلال.

أريد لنا – إذن – أن نعيش دون رمزية، دون معنى، دون هدف، لأن الغايات عندما تُمحى من النفوس تضيع البوصلة، وينحرف المسار، ويتفجر الصراع البيني على الماديات، داخل مجتمعاتنا التي انعدمت لديها القيم والمثل والرموز، وسقطت في هوة العدمية السحيقة.

من هنا تقدمت السطحية، وتراجع العمق، وسادت التفاهة وانزوت الجدية، وضخت وسائل التواصل الاجتماعي محتويات فارغة، وتغيرت نواحي اهتمام الجمهور، بعد أن فقد الثقة في الرموز، بفعل شيطنة تلك الرموز من جهة، وبفعل ترميز التفاهة من جهة أخرى، الأمر الذي وصل بنا إلى تتبع محتويات فارغة، والنفور من المحتويات الممتلئة، وهذا هو المطلوب لرفد مجتمعنا بكميات رقمية من الأفراد، مجرد أرقام بلا قيمة ولا محتوى، ولا هدف ولا غاية ولا معاني كبيرة، أرقام استهلاكية بامتياز.

ومع خلط الأوراق، واهتزاز القيم، والتباس المفاهيم أصبحت المقاومة إرهاباً، وغدت إسرائيل دولة تدافع عن نفسها ضد الإرهاب، فيما الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال أصبح – وفقاً لهذا التوجه – يمارس الإرهاب ضد الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وتشوشت مفاهيم المقاومة والاحتلال والحرية والديمقراطية والحرب والسلام والصح والخطأ والحق والباطل، والقيم والمصال. وانتهى عهد قوة القانون، ليطل عصر قانون القوة الذي نرى تجلياته في تلك الغابة المتوحشة التي تدعى «المجتمع الدولي» الذي سلب الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال حق الدفاع عن النفس، ومنح هذا الحق لدولة الاحتلال الإسرائيلي.

القدس العربي

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة التطبيع الاحتلال غزة الاحتلال التطبيع الإبادة مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات سياسة مقالات صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

بناه السلطان لخياطه الموثوق.. مبنى فريد في إسطنبول يعود إلى الحياة بعد إهماله لعقود

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- لأعوام، كان من السهل تجاهل شقة بوتر في تركيا. ولم ينظر إليها أحد عند عبور شارع الاستقلال، أكثر شوارع إسطنبول ازدحامًا بالمشاة، حيث يمرّ قطار الترام الأحمر العتيق أمام متاجر الموسيقى والمقاهي.

فوق المتاجر، كانت واجهة أنيقة على طراز الفن الجديد، "آرت نوفو"، في طليعة مدينة تُعيد تعريف نفسها، لكنها تداعت بهدوء.

ولم يكن المبنى مجرّد واجهة مزخرفة.

 كلّف السلطان عبد الحميد الثاني ببنائه، وصمّمه المهندس المعماري الإيطالي رايموندو دارونكو، من أجل خيّاط السلطان الهولندي الجنسية، جان بوتر.

بني هذا المبنى في مدينة إسطنبول التركية في عام 1901.Credit: Ali Halit Diker

وكان الهيكل من المباني التي عرّفت إسطنبول إلى العمارة الأوروبية الحديثة، وشكّلت جماليات شوارعها الأكثر ثراءً.

لكن على مدار القرن التالي، تغيرت ملكية الشقة مرات عدة، ومن ثم تعرّضت للإهمال.

حافظت أعمال الترميم على السمات الأصلية للمبنى.Credit: Cemal Yurttas/dia images/Getty Images

الآن،  حوّلتها أعمال ترميم حديثة إلى جزء من الحياة العامة، في ظل إعادة افتتاحها كمركزٍ ثقافي ومساحة عمل مشتركة.

أشرف السلطان عبد الحميد الثاني على جزء من الأيام الأخيرة للإمبراطورية العثمانية بين العامين 1876 و1909، وكان رجلاً مليئًا بالتناقضات.

هو معروف بحكمه الاستبدادي من الناحية السياسية، لكنه في حياته الخاصة، كان مفتونًا بالفنون والتصاميم والموسيقى الأوروبية. 

كان السلطان من مُعجبي شخصية شارلوك هولمز التي ابتكرها الكاتب آرثر كونان دويل، ومن محبي الأوبرا والباليه، كما كان يُوظِّف اختصاصيين أجانب ضمن بلاطه.

سلطان وخيّاط ومهندس معماري هذا أول مبنى في إسطنبول يُشيَّد على طراز "آرت نوفو".Credit: Elif Bayraktar/iStock Editorial/Getty Images

كان خياط السلطان الرسمي جان بوتر بين أولئك الاختصاصيين.

حرص عبد الحميد على استيراد بدلاته من باريس، إلا أنّ بوتر كان من يتولى إجراء القياسات والتعديلات الدقيقة في إسطنبول.

في العام 1900، أهداه السلطان قطعة أرض في بيرا، واحدة من أكثر أحياء إسطنبول عالميةً وجاذبيةً للثقافة الأوروبية، لبناء مسكن ودار أزياء.

لتحقيق ذلك، لجأ عبد الحميد إلى كبير المهندسين المعماريين في قصره، الإيطالي رايموندو دارونكو. 

وبعد اكتمال بنائه في العام 1901، كانت شقة بوتر أول مبنى مصمّم على طراز الفن الجديد في إسطنبول.

تميّز المكان بأناقته الجريئة، وزخارفه المزهِرة، وتفاصيل تحمل رأس "ميدوسا" المنحوتة.

كان المبنى أيضًا رائدًا من الناحية التكنولوجية، فكان أول مبنى سكني بإطار فولاذي في تركيا، مع كونه على الأرجح ثاني مبنى بمصعد في البلاد بعد فندق "بيرا بالاس".

وقال الصحفي إمراه تيميزكان: "قصة شقة بوتر عبارة عن تاريخ مختصر لتحديث إسطنبول".

وأوضح أنّ الشقة "كانت مساحة تُمثّل أسلوب الحياة الغربي، محصورة في دائرة القصر في تلك الحقبة. يوازي إعادة افتتاحها للجمهور اليوم، كمركزٍ ثقافي، الفكرة الجمهورية المبكرة المتمثلة بإضفاء الطابع الديمقراطي على الثقافة والفن".

في الطبقة الأرضية، سرعان ما أصبح مشغل بوتر مركزًا للحياة الاجتماعية في بيرا، حيث استضاف عروض أزياء وجلسات قياسات لنخبة إسطنبول. 

أمّا في الطبقات العليا، فقد سكنتها عائلة بوتر.

وترى المهندسة المعمارية ومديرة المشاريع في بلدية إسطنبول الكبرى للتراث، ميرفي جيديك، أنّ ارتباط المبنى ببوتر والمهندس المعماري دارونكو عزّز من سمعته، فأكّدت أنّه "وُلد من رحم الفن والتصميم".

على وشك الانهيار كانت الشقة على وشك الانهيار بعد إهمالها لأعوامٍ طويلة.Credit: Cemal Yurttas/dia images/Getty Images

لم يدم مجد المبنى طويلاً، فبعد حروب البلقان والحرب العالمية الأولى، تضاءل طابع الحياة العالمي في بيرا، وباعت عائلة بوتر الشقة في العام 1917، وانتقلت إلى باريس. وهُجِر المبنى على مرّ العقود مع بروز تركيا كجمهوريةٍ حديثة.

وقالت جيديك إنّ المبنى كان "متهالكًا" و"على وشك الانهيار".

تغير مصيره في العام 2021، عندما شرعت بلدية إسطنبول الكبرى بترميمه بحذر.

كان الهدف القيام بأدنى حد من التدخل، مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن من التفاصيل الأصلية. وشكّل التغيير الأعمق تحوُّل المبنى من رمزٍ خاص للمكانة إلى منارة ثقافية عامة.

Credit: Ali Halit Diker

عندما أعيد افتتاح الطبقات السفلية في أبريل/نيسان 2023، تحت اسم مركز كازا بوتر للفنون والتصميم "Casa Botter Art and Design Center"، شهد المبنى إقبالاً غير متوقع.

في البداية، خُصصت الطبقات العليا للاستخدام كمكاتب تابعة للبلدية، لكن كان للزوار خطط أخرى.

وأوضحت جيديك: "أظهر الأشخاص اهتمامًا كبيرًا خلال أسبوع الافتتاح لدرجة أنّنا لم نتمكن من استخدامه كمكتب. بدأ المبنى يكتسب دورًا جديدًا على نحو تلقائي".

وبدأ الطلبة والعاملون عن بُعد، بالإضافة للمبدعين، باستخدام الغرف المفتوحة كمساحة عمل ومكاتب مشتركة.

متحف معماري حي كان المنزل ثاني مبنى بمصعد في إسطنبول.Credit: Ali Halit Diker

مقالات مشابهة

  • من هو رائد سعد القيادي في "حماس" الذي أعلنت إسرائيل اغتياله؟
  • من رجل القسام الثاني الذي اغتالته إسرائيل؟
  • د.نزار قبيلات يكتب: العربية والموسيقى والشعر
  • إسرائيل اليوم: هؤلاء قادة حماس الذي ما زالوا في غزة
  • من هو رائد سعد الذي اغتالته إسرائيل بعد 35 عاما من المطاردة؟
  • نجا عدة مرات.. من هو رائد سعد الذي أعلنت “إسرائيل” اغتياله في غزة؟
  • بناه السلطان لخياطه الموثوق.. مبنى فريد في إسطنبول يعود إلى الحياة بعد إهماله لعقود
  • جرحى جراء هجوم بمسيّرة على مبنى في روسيا
  • الطمأنينة.. المعنى الحقيقي للحياة
  • ألمانيا تستدعي السفير الروسي.. ما القصة؟