بقلم: فالح حسون الدراجي ..

لن أتحدث عن كاظم وعل اللاعب الهداف الذي سجل في مرمى منتخب السعودية الدولي هدفاً بعد أقل من نصف دقيقة على بدء المباراة، ضمن بطولة الخليج الرابعة التي جرت في الدوحة عام 1976، ولم يكسر رقمه أي لاعب عراقي حتى الان.

ولن أتحدث عن كاظم وعل اللاعب الذهبي الذي قاد منتخب شباب العراق في بطولة آسيا المقامة في الكويت عام 1975 ومنح العراق كأس البطولة مناصفةً مع منتخب إيران، بعد أن سجل لوحده 11 هدفاً وفاز بلقب هداف البطولة أيضاً .

. علماً أن وعل هو اللاعب الوحيد في تاريخ بطولات آسيا الذي يسجل ستة أهداف في مباراة واحدة..

وقد يقاطعني أحد القراء بسؤال استدراكي يقول فيه : إذا لم تتحدث عن مناقبه هذه، فإني اعتقد أنك ستتحدث عن دوره في مباراة العراق ومنتخب أوغندا الدولي التي جرت في العاصمة الاوغندية كامبالا، والتي سجل فيها كاظم هدفين في مرمى المنتخب المضيّف، عدا الفواصل المهارية الفنية الباهرة التي قدمها وعل في تلك المباراة، الأمر الذي جعل الجمهور الأوغندي يصفق بقوة لهذا اللاعب الفذ، بل وأن يقف على قدميه اعجاباً وتقديراً لفنونه الكروية، حتى أن الرئيس الأوغندي عيدي امين نزل بنفسه الى ارض الملعب بعد نهاية المباراة ليصافح كاظم وعل ويبدي له إعجابه وتقديره للمستوى الفني الذي لم يرَ مثله في ملاعب آسيا وأفريقيا ..!

وسأجيب على استدراك القارئ، واقول له: مع وافر تقديري واحترامي لهذه الإضافة المهمة، فإني لم أكن أقصد الحديث عن هذه المعلومة الرياضية، ولا عن غيرها من جميع روائع كاظم وعل الفنية التي برزت في حياته الكروية، تلك الحياة التي لم تتجاوز الخمس سنوات .. إنما أردت الحديث ياصاحبي عن شيء آخر يكمن في شخصية هذا الفتى، شيء يقع خارج حدود الميدان الكروي، بل خارج الميدان الرياضي برمته.. وأقصد بذلك طبيعة كاظم الشخصية، وتلقائيته، وجمالية روحه، وسماحته وقدرته العجيبة على جعل الجميع يحبه بما في ذلك خصومه، وأقصد خصومه المنافسين في الملاعب، وليس في الحياة العامة، لأني اجزم أن كاظم وعل هو الرجل الوحيد الذي لا خصوم له.. وللمثال على سماحته الفريدة، ونقائه الصافي، ان امتحنه القدر وأوقعه يوماً في مواجهة واحتكاك قوي جداً مع المدافع لطيف لبيب في مباراة القوة الجوية

و قوات نصر، ضمن بطولة كأس القوات المسلحة، والتي انتهت بإصابة بليغة جداً تعرض لها ( أبو مصطفى) في عموده الفقري، ومن سوء الحظ أن هذه الإصابة لم تخرجه من تلك المباراة فقط، إنما أخرجته من عالم الكرة إلى الأبد، وهو في ريعان شبابه.. ولكن رغم هذه المأساة فإن الرجل نجح إنسانياً وأخلاقياً بشكل فريد ومثالي، حيث أبدى تسامحاً وروحاً رياضية عالية، ولم يشكِ يوماً من اللاعب الذي كان سبباً في إصابته وإنهاء مستقبله الرياضي، ولم يعاتبه حتى، بل كان يدافع عنه كلما ذكره احد بسوء، ويبرئ ساحته في جميع المحافل، حتى ان كاظم غضب جداً عندما سمع أن بعض أفراد عشيرته (الفريجات) يريدون التحقق من ان لطيف لبيب لم يتقصد أو يتعمد إصابة إبنهم، ويتأكدوا من أن الحادث طبيعي، ناتج عن الاحتكاك العفوي الذي يحصل بين اللاعبين. لكن كاظم رفض ذلك بقوة ولم يسمح بأي إجراء حول هذا الموضوع

بل ظل يدافع عن براءة اللاعب لطيف لبيب رغم مصيبته الموجعة.. واجزم أن لهذه الخصال، ولغيرها من المزايا الاخلاقية السامية، أحب الناس كاظم وعل كثيراً .. فضلاً عما يتمتع به من موهبة ومهارة كروية فذة.
وإذا كان لكاظم محبون وأصدقاء كثر في الوسط الرياضي، فإن محبينه واصحابه في الوسط الفني والثقافي ليسوا قليلين أيضاً، فقد كان أبو مصطفى، صديقاً لعدد كبير من كبار المطربين كالفنان الجميل قحطان العطار والفنان الكبير سعدون جابر، والفنان الراحل رياض أحمد وغيرهم من المطربين والملحنين، اضافة إلى علاقاته الودية مع الشاعر الكبير كاظم إسماعيل الگاطع، والشاعر الكبير عريان السيد خلف، و شقيقه الشهيد طه السيد خلف، والشاعر الجميل كريم العراقي، والراحل هادي سيد حرز وغيرهم من المبدعين.. أما أنا فقد بدأت علاقتي به مذ كان فتى يافعاً يلعب في فريق نهضة الشباب أحد أبرز الفرق الشعبية في مدينة الثورة، وحين انضم إلى فريق البريد أصبحت علاقتنا أقوى وأمتن بحكم العلاقة المؤسساتية التي ربطت آنذاك بين فريق البريد والسكك الذي كنت ألعب في صفوفه وقتها، فضلاً عن أن فريقينا كانا يتدربان ويلعبان في ملعب واحد، وهذا يعني أننا نلتقي يومياً في الملعب، وطبعاً فأن وعل لم يكن الوحيد الذي نلتقيه من أصحابنا في فريق البريد، إنما كان معه الأحبة فلاح حسن وكاظم عبود ومنعم جابر وفيصل صالح، وفليح حسن ودلي عطية وسمير ناشئ ورحيم كريم وغيرهم.. وأذكر أن مدرب السكك الراحل جرجيس إلياس الذي تسلم تدريب منتخب شباب العراق لفترة قصيرة جداً، قد دعا مجموعة من لاعبي البريد والسكك لتمثيل منتخب شباب العراق وخوض مباراة تجريبية ضد منتخب الحلة، الذي كان وقتها واحداً من أبرز منتخبات المحافظات لما يضمه من لاعبين رائعين، وقد كنا أنا وكاظم وعل وثامر يوسف وسعد عبد الحميد وحامد جبر وعادل گاطع وفاضل عبود وآخرون من بين المدعوين لمنتخب الشباب، رغم صغر سننا، ورغم إننا لم نكن لاعبين أساسيين في فرقنا، لكننا كنا موهوبين دون شك.. وأذكر أني لعبت في بداية الشوط الثاني بمركز الجناح، بينما لعب كاظم وعل بمركز المهاجم.. وأذكر وقتها أيضاً ان لاعب نادي الشرطة والمنتخب الدولي هادي الجنابي، أحد أبطال ملحمة ملعب ( آريامهر) الإيراني، كان يلعب مدافعاً في منتخب الحلة، ورغم موهبة الجنابي وعلو كعبه في مراكز الدفاع كما هو معروف، لكنه لم يستطع أن يوقفنا أنا وكاظم قط، لاسيما وأن كاظم وعل مراوغ بارع، وكذلك أنا، وسيكون الأمر صعباً جداً على أي مدافع مواجهة ثنائي مهاري يجيد المراوغة والتلعيب..

وقطعاً أنا لا أضع مستواي بنفس مستوى كاظم وعل، لسبب بسيط، هو أن كاظم لم يكن لاعب كرة قدم مثلنا، ومثل أي لاعب في الدنيا إنما في الحقيقة هو (موسيقار) يعزف على أوتار الملاعب، وأوتار القلوب العاشقة التي تكتظ في تلك الملاعب..

وهو لاعب فريد قلما يأتي الزمان بمثله، بينما بقية اللاعبين الآخرين – وأنا واحد منهم نلعب بنمط كروي، واحد وبمستويات متشابهة ومتقاربة تقريباً .

واستكمالاً للموضوع، فقد قررت بعد تلك المباراة بفترة قصيرة اعتزال الكرة بشكل نهائي والتفرغ للشعر وعالم الأغنية ..!

في حين واصل أبو مصطفى مسيرته الكروية الباهرة، ليصبح واحداً من أروع لاعبي كرة القدم في العراق والمنطقة العربية، وأصبحت أنا واحداً من أكثر معجبيه ومحبيه واصحابه القريبين.

وللتاريخ أقول بفخر، إن كاظم وعل كان واحداً من أبرز النجوم التي سطعت من سماء مدينة (الثورة) وأضاءت بوهجها ونورها المنبعث من قطاع 27 جميع ملاعب العراق والخليج ودول قارة آسيا، ويصبح اسمه أُنشودة تتغنى بها جماهير القوة الجوية بل وجميع الفرق العراقية رغم مرور كل هذه السنين على رحيله الصادم والمفجع ..

فالح حسون الدراجي

المصدر: شبكة انباء العراق

كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات

إقرأ أيضاً:

كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟

أمام الهزائم العسكرية والسياسية للأنظمة العربية، كانت الشعوب العربية تفرز أدواتها في المواجهة. فمنذ ثلاثينيات القرن العشرين تحولت القضية الفلسطينية من رخاوة الأنظمة إلى صلابة التنظيمات.

ففي المواجهة لم تسقط الزعامات والأيديولوجيات فقط، بل سقطت أيضا الجيوش النظامية ومعها سقط دورها في التحرير. وخلف عجز الأنظمة كانت تتراءى حماسة الشعوب. وخلف ضعف الجيوش كانت تبرز جسارة القوى الضاربة.

فكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد جاءت لملء الفراغ. فقد أحيت نكبة 1948 في الأمة مفهوم الجهاد. وحررت هزيمة 1967 المبادرة الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. وفجرت معاهدة كامب ديفيد 1978 حركات المقاومة مع بداية الثمانينيات. وعلى طول تاريخ القضية الفلسطينية، كانت تتعايش أطروحتان: واحدة للمقاومة، وأخرى للسلام.

النكبة

لقد وجدت الجامعة العربية نفسها بعد بضع سنوات من تأسيسها أمام أصعب اختبار لها: القضية الفلسطينية. لم يكن تأسيسها من أجل تحرير فلسطين، بل كان محاولة بريطانية لتجاوز ضغائن الخديعة البريطانية للشريف حسين.

فكان ميلاد الجامعة تعويضا عن دولة الوحدة بوجهيها القومي والإسلامي. ومن ثم لم تكن فلسطين على جدول أعمال تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ولا شك في أن عجز المنظمة وأنظمتها على معالجة المسألة منذ بواكيرها قد دفع نحو تدويل القضية. فكان قرار التقسيم نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 حجر الأساس للكيان الغاصب. لتندلع بعده إحدى أعتى المواجهات.

قررت الحكومات العربية في اجتماع "العالية" 1947 أن تكوّن فصيلا شبابيا حسن التدريب والأداء. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. ولكن الضغط البريطاني كان كفيلا بإسقاط ذلك المشروع. وهو المصير نفسه الذي لقيته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

إعلان

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في الجولات الأولى للصراع ذهبت أدراج الرياح بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). فكانت نكبة 1948 فاتحة الهزائم العربية. إذ لم تكن الحكومات العربية في حجم القضية.

فما بين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، كانت الحكومات العربية تُسقط من حسابها أي مواجهة جدية للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتتنصل من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت أغلب الحكومات العربية لإرادة الغزاة. وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس حربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وتلك الحسابات كانت السبب المباشر في تأخير الاستجابة لداعي الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

أمام عجز الأنظمة العربية كانت التنظيمات قبل النكبة وبعدها تدخل على خط الصراع. فكتب ميشال عفلق سنة 1946 يقول: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا أن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يجد ترجمته في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، واختلاف الدول العربية فيما بينها… كل تلك العوامل في تضافرها كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيادي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب تمكنت تلك القوات من تكبيد العصابات الصهيونية خسائر فادحة. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين 15 مايو/ أيار 1948 "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/ نيسان 1948 يقطر مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي ماطلت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. ليستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربيا فقد زحف المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت في الأثناء كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع. فرغم تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين أدارت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا فقد كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

إعلان النكسة

لقد أجهزت قوات الاحتلال في صباح الخامس من يونيو/ حزيران على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فدمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها. وضربت المطارات وعطلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

مشهد أجمله أنور عبدالملك في قوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في سويعات معدودات. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، فقد تركت بقية القوات في العراء من دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، فقد أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه- مهددا. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. وحسبنا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة 1967 منعطفا إستراتيجيا في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال. "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا فقد ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والإستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانيا فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

وتفجرت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وهو ما أنتج مجموعة من الأدبيات دارت أغلبها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في أغلب دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماما مع الأنظمة الراديكالية. فغالبا ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/ حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

إعلان حرب العبور

لقد عرفت مصر بعد وفاة عبدالناصر تحولات سياسية مهمة. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الضمور لصالح اتجاه عربي ميّال إلى "الاعتدال" في مقاربة الصراع. وكانت القناعة الحاصلة لدى السادات أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي تلك السياقات لم تكن حرب العبور إلا عملية جراحية القصد منها الإعداد لمسرح التسوية.

مثلت حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاثة حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري ظهيرة السادس من أكتوبر/ تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء قصد تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فكان "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية قد تحقق إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات من الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية. واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

ولكن العبور لم يعقبه تطوير للهجوم المصري مثلما خُطّط له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في إحراز تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام الصعبة عن انعدام التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر. وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد آل النصر إلى لهاث لا ينقطع وراء سراب "السلام". وانتهى تحطيم جدار بارليف 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" 1977، مثلما كان يتوهّم السادات. فعوض البناء على "العبور" اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكرا أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلا أو عاجلا إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين. فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتناقض رأسا مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية. فهي لم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تقول حقائق التاريخ إن منظمة التحرير الفلسطينية قد أضحت متماهية مع الرسمية العربية. وإن عرفات لم يكن مختلفا عن السادات. فكلاهما كان ينشد "التسوية". وإن اختلفت التكتيكات والإستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما وهنت الأنظمة قامت الشعوب تنشد التحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية. ومن نكسة 1967 صلب عود منظمة التحرير الفلسطينية.

ولكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة. تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد 1977 حتى أوسلو 1993، مرورا بقصر الصنوبر بالجزائر 1989. وردا على مشاريع التسوية كان أسلوب آخر من المقاومة ينضج على مهل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • النجم العراقي أيمن حسين يعود إلى بلاده من بوابة الكرمة (شاهد)
  • التحالف الذي لم تطأ اقدامه أرض السودان لا يحق له التقرير بشان أهله
  • جريمة تهز القلوب.. مقتل زوجين و3 من أبنائهما بواحة سيوة في مطروح
  • جيش الإحتلال: اعترضنا الصاروخ الذي أطلق من اليمن
  • “رونالدو… نجم النصر الذي لا يبتسم للإعلام النصراوي”
  • الزراعة النيابية:السوداني غير مكترث بالجفاف الذي يحصل في العراق
  • منتخب شباب العراق يلاقي نظيره البحريني في الشهر المقبل
  • كيف أصبحت المقاومة البديل الذي لا يُهزم؟
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق لـ سانا: القمة التي جمعت السيدين الرئيسين أحمد الشرع وإلهام علييف في العاصمة باكو في الـ 12 من تموز الجاري خلال الزيارة الرسمية للرئيس الشرع إلى أذربيجان، أثمرت عن هذا الحدث التاريخي الذي سيسهم في تعزيز التعاون ا
  • مغردون يثنون على حارسة منتخب إنجلترا التي تحدت مرضها وحققت الفوز لبلادها