فـي السياق الخليجي المحافظ، قلّما يُطرح مفهوم «الصدمة الثقافـية» باعتباره جزءًا من تاريخ التحوّل الاجتماعي. غالبًا ما تُفهم مفاهيم مثل الحداثة والانفتاح على أنها قادمة من الغرب، فـي حين تُستبعد المدن العربية الكبرى من هذا التصوّر. لكن واقع الحال أن مدنًا كالقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق شكّلت منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فضاءات حاضنة للخليجيين المهاجرين أو المتعلمين أو الهاربين من ضيق الأفق الاجتماعي، فأحدثت تحوّلات غير مرئية فـي الوعي، ما زلنا نحاول قراءتها اليوم.

هذه المدن ساهمت فـي تعرّف المجتمعات الخليجية على أنماط جديدة من العيش والفكر: الفنون، والموسيقى، والسينما، والمسرح، والحريات الفردية، وضع المرأة، والعلاقة مع الآخر المختلف. كان لهذه المعرفة الجديدة أن تخلق فجوة، بل وصدمة ثقافـية، بين ما يُعاش فـي الحواضر العربية، وما يُتوقع اجتماعيًا فـي المجتمعات الخليجية المحافظة. ومن بين أبرز أدوات هذا التحول: المجلات الفنية والثقافـية، التي نقلت صور الفنانين، وحكاياتهم، وحياتهم اليومية، فتسربت إلى الخيال المحلي، لا بوصفها ترفًا، بل كنافذة للحرية.

وقد أشار الدكتور حسن مدن فـي كتابه (حداثة ظهرها إلى الجدار: قراءات فـي التّحولات الثقافـيّة فـي مجتمعات الخليج والجزيرة العربية) إلى دور هذه الحواضر بقوله: «لا يمكن الحديث عن تاريخ الحداثة العربية دون الوقوف على الدور التنويري المهم الذي مدّته الحواضر/ المدن العربية العريقة كالقاهرة وبيروت ودمشق وبغداد فـي صنع ميراث الحداثة، حيث كان لمناخ الانفتاح وحرية النشر دورهما فـي تعميم المؤلفات والكتب الحاملة لأفكار الحداثة، وإصدار الدوريات التي كانت رافعة للمدارس الحديثة فـي الشعر والنقد وفـي الفكر- ص 27».

تُعدّ الدوريات الثقافـية والمجلات الفنية من بين العناصر المهمة التي تسهم فـي خلق مجتمعات ثقافـية متنوعة وخلق أفراد يتمتعون بطاقة إيجابية منفتحة قادرة على التفكير الحر وتكوين الرأي. ففـي مجتمعات الخليج التي لم تعرف المجلات الفنية المختصة بحياة الفنانين النجوم فـي وقت مبكر كغيرها من دول الوطن العربي كمصر ولبنان على سبيل المثال، يصعب فـي الواقع تصور وجود وضع اجتماعي وثقافـي ينتعش فـيه الإقبال على هضم مفردات الفن الدرامي كالتمثيل أو قبول استخدام لفظة السينما دون استهجان. فهذه الألفاظ يجري استقبالها فـي مجتمعات ذات تكوينات سكانية متعددة، وانتشار كبير للجامعات والمعاهد، إضافة إلى وجود حركة دؤوبة للصحافة والنشر ومطابع لا تتوقف على طباعة كتاب فقط، بل يتوفر فـيها طباعة عناوين مختلفة من الإصدارات الأدبية والتاريخية والسياسية التي تؤدي دورها فـي نهضة الدول. فـي المقابل فإن التعرّف على المجلات الفنية الوازنة والثقافـية الرفـيعة، تخلق مع مرور الزمن أفرادا وباحثين مستنيرين لكونها فـي مجتمعات مغلقة ذات ظروف سياسية معينة تجد نفسها تخوض صراعا يتعلق بالقيم الموروثة مع قوى الإنتاج النامية. فتصطدم البنيات الثقافـية والمفاهيم التقليدية مع الجديد كله الذي تعتقد أنه يعوق استقرارها وثباتها.

قليلة مجلات الفنون التي كانت تفد إلى مجتمعات الخليج فـي أواخر ستينيات القرن المنصرم، ونهضت بتعريفها على فن التمثيل الوافد فـي السينما والتلفزيون والمسرح، وعرفتهم أيضا على مصطلحات الفنون اللازمة للتعبير عن درجة استيعابها كدخول التلفزيون إلى بيوتها وتحلّق أفراد الأسرة حوله سواء فـي مجلس البيت، أو على السطح، كما عرّفتهم بحياة الفنانين الخاصة وأدوات الزينة من مساحيق وعطور وأنواع الأزياء وتسريحات الشعر المبتكرة للفنانين من الجنسين.

إذا كانت نهضة الصحافة بدأت متأخرة فـي الخليج إذا ما قورنت بنشأتها فـي الوطن العربي، يمكن الاطمئنان إلى الاعتقاد أن معرفة الخليج للمجلات الفنية انتشرت فـيها إلى حد بعيد بعد عام 1980م، أما فـي الستينيات كانت مجلات مثل (الموعد اللبنانية) و(الكواكب المصرية) من أوائل المجلات الفنية الموزعة فـي دول الخليج.

وسط هذه الخلفـية الثقافـية، يمكننا قراءة الشخصية الدرامية «عزيزة» من مسلسل شارع الأعشى، المقتبس عن رواية غراميات شارع الأعشى للكاتبة السعودية بدرية البشر، والذي عُرض فـي رمضان، ونال إشادات نقدية واسعة. تدور القصة فـي الرياض خلال عقد السبعينيات، وهو عقد مهم من حيث التحولات الاجتماعية والدينية والسياسية التي عرفتها مجتمعات الخليج.

عزيزة فتاة صغيرة، لكنها مفعمة بالحيوية والطموح. تنشأ فـي شارع الأعشى، فـي بيت تقليدي، ضمن أسرة مكونة من أب (حمد بن إبراهيم)، وأم، وأخوين الأكبر يدرس فـي مصر، وأخت تُدعى عواطف. يُظهر والدها انفتاحًا نسبيًا؛ فهو يشتري تلفزيونًا ملونًا، ويسمح لابنتيه بالتعلّم، ويشجع عزيزة على تعلّم اللغة الإنجليزية، بل ويرغب فـي إرسالها إلى الجامعة. لكن، كما ستُظهر الأحداث، فإن هذه الحرية ليست مطلقة، بل مشروطة، مرتبطة بالطاعة والصورة الاجتماعية المنتظرة.

منذ الحلقة الأولى، تظهر عزيزة مغرمة بالفنانة المصرية سعاد حسني، وتردد كلمات أغنية شهيرة لها وهي ترقص فوق سطح البيت: «منتش قد الحب يا قلبي ولا قد حكايته». هذا التماهي مع صورة سعاد حسني ليس سطحيًا، بل يُعبّر عن حلم داخلي بالحياة خارج القالب، خارج الإملاء الأسري، وخارج المعايير السائدة للأنوثة والطاعة.

عزيزة تعيش سلسلة من الإخفاقات العاطفـية. تُحب شابًا يعمل فـي متجر أقمشة، ثم تُفتن بطبيب مصري عالجها ذات مرة، وتحلم بالهروب معه إلى القاهرة، لكنه يرفضها ويصفها بالفتاة غير الناضجة. ثم تتورط عاطفـيًا مع جزاع، رجل خارج على القانون، مختبئ فـي سرداب بيتهم، مصاب بطلقة نارية، وآواه والدها مجاملةً لجارته. لم تكن عزيزة تعالجه فقط بدافع الإنسانية، بل لأنها انجذبت إلى هذه الصورة المتمردة، والغريبة، والخطرة، التي تمثل بالنسبة لها عالمًا آخر. فـي لحظة فارقة، تقرر الهرب مع جزاع. وفـي يوم زفاف بشارع الأعشى، تهرب وتركب الحافلة، حيث يُقتل على يد الشرطة. وهكذا تنتهي رحلة الهروب قبل أن تبدأ.

يُمكن أن يُنظر إلى هذه القصة من زاويتين متضادتين: الأولى ترى أن عزيزة لم تكن تعرف ما تريد، وأنها أهدرت الفرص التي أتيحت لها وسط أسرة محبة، وأب متفهم، وبيئة كانت - نسبيًا - أقل قسوة مما قد تواجهه غيرها. والثانية ترى أن كل ما منح لها من حرية، كان مشروطًا بطاعة صامتة، وأن خيباتها المتكررة كانت نتاج تناقض حاد بين ما تتلقاه من رسائل خارجية (فـي المجلات والأغاني والدراما)، وما تُجبر على عيشه داخل بيتها ومجتمعها.

العبارة التي قالتها والدتها لها: «خرّبتك هالخرابيط» تقصد المجلات والأغاني، تختزل النظرة المحافظة التي ترى أن الإعلام والفن هما سبب الانحراف، لا مرآة لحاجة مكبوتة. وفـي المقابل، تُجسد أختها عواطف الامتثال: زواج تقليدي، لا حب فـيه، لا مغامرة، لكنه آمن اجتماعيًا. وعندما تقول لعزيزة: «ألم تخافـي أن تخسري عمرك فـي مغامرة غير محسوبة؟»، تطرح سؤالًا وجوديًا يُعبر عن الصراع بين البقاء فـي الدائرة المرسومة، أو خوض الحياة كما نراها نحن، لا كما يرسمها الآخرون.

بيت العائلة يعلّم القيم، نعم، لكنه لا يُعلّم كيف نعيشها عندما تصطدم بالواقع أو بالرغبة أو بالعاطفة. البيت يضمن السلامة، لكنه لا يعلّم كيف نواجه الفقد، أو نعيش الفرح. وعزيزة، فـي نهاية المطاف، ليست ضحية تمرّد لحظي، بل ضحية صراع طويل الأمد بين تعليم تلقّته، وواقع لم يُفسح له أن يُزهر. لقد فتحت لها المجلة آفاقا جديدة، فاشتهت عالمًا آخر، رقصت على سطح البيت، فنسيت أن الأرض تحتها مليئة بالحفر. هكذا تنتهي قصة عزيزة: ليس بانتصار ولا بهزيمة، بل بإعلان وجود أنثى فـي زمن تغيّر قبل أن يستعد المجتمع لتقبّله. إنها شاهدة على لحظة انتقال خليجية، لحظة مضطربة، تتأرجح بين الصرامة والانفتاح، بين الرقابة والحلم، بين شارع الأعشى والعالم الذي أمامه.

آمنة الربيع باحثة أكاديمية متخصصة فـي شؤون المسرح

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فـی مجتمعات شارع الأعشى

إقرأ أيضاً:

أسطول الحرية يؤكد استمرار محاولات كسر الحصار على غزة رغم اعتداءات الاحتلال

أكدت اللجنة الدولية لكسر الحصار، العضو المؤسس في تحالف أسطول الحرية، استمرار محاولات كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، رغم الاعتداءات المتكررة التي تستهدف سفن التضامن والمتضامنين على متنها.

ويأتي هذا التأكيد على خلفية الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي مؤخراً على سفينة "حنظلة"، والتي تعد من أبرز سفن تحالف أسطول الحرية في حملاته لكسر الحصار. تحمل السفينة اسم الشهيد الفلسطيني حنظلة، وتضم على متنها نشطاء من مختلف الجنسيات، بينهم متضامنون من لجان دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وتهدف إلى إيصال رسالة احتجاج ضد الحصار، إضافة إلى نقل مساعدات إنسانية لقطاع غزة.

وشهد هذا العام سلسلة من الحملات البحرية التي أطلقتها اللجنة ضمن تحالف أسطول الحرية، بدأت بسفينة "الضمير" التي تعرضت لهجوم من طائرات مسيرة إسرائيلية، ثم سفينة "مادلين" التي تم الاعتداء عليها واختطاف بعض النشطاء، وأخيراً سفينة "حنظلة" التي أصبحت رمزاً للتمرد والرفض للحصار المستمر.

وفي بيان صحفي مكتوبي وصلت نسخة منه لـ"عربي21"، أكد زاهر بيراوي، رئيس اللجنة الدولية لكسر الحصار، أن جرائم الاحتلال من اعتقال وخطف ومصادرة للسفن لن ترهب اللجنة ولن توقف جهودها، مشدداً على أن الحصار لا يزال مفروضاً على غزة، وأنهم سيواصلون تسيير السفن وتصعيد الحراك الدولي حتى رفع الحصار عن القطاع وضمان حرية حركة سكانه.

وأضاف بيراوي أن الهدف الأسمى هو تحقيق حق الفلسطينيين في الحركة والتنقل بحرية كما في جميع دول العالم، مؤكداً أن الاستمرار في الحصار هو استمرار لجريمة الاحتلال التي يجب أن تتوقف فوراً.

وتأتي هذه المحاولات في ظل تصاعد أزمة الحصار الإسرائيلي الذي أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة، حيث تمنع السلطات الإسرائيلية دخول المساعدات الحيوية والمواد الأساسية، مما دفع نشطاء ومؤسسات حقوقية دولية إلى دعم تحركات كسر الحصار وتوسيعها.

وأكد تحالف أسطول الحرية أن استمرار الحصار يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وحقوق الإنسان، مطالباً المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لفتح المعابر ورفع القيود المفروضة على القطاع.




وفي غزة، لم تتغير الصورة المأساوية كثيراً. رغم إعلان إسرائيل عن "ممرات إنسانية" محدودة، حذّرت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة من أن تلك الخطوات "لا تفي باحتياجات المحاصرين"، وأن المجاعة تتوسع بشكل "غير مسبوق".

وزير الخارجية البريطاني دعا إلى توسيع عاجل للمساعدات البرية، وقال: "الهدن العسكرية لا تكفي، نحتاج إلى وقف حرب حقيقي وإدخال المساعدات من البر بشكل دائم وغير مشروط".

ووفق "الغارديان" فأمام ستارمر خياران: الشجاعة أو التواطؤ، فيما تتزايد المطالب من البرلمان البريطاني ـ بمختلف أطيافه ـ باتخاذ موقف أكثر حزماً، حذّر النائب المحافظ كيت مالثاوس من أن: "كل لحظة صمت هي مشاركة في الجريمة... التاريخ لن ينسى من كان بيده إيقاف المجازر ولم يفعل."

وأضافت: "لقاء ستارمر مع ترامب ليس مجرد بروتوكول سياسي، بل قد يكون الفرصة الأخيرة قبل أن تنزلق غزة إلى مجاعة شاملة، وتموت فكرة "حل الدولتين" إلى الأبد. أمام ستارمر اختبار قيادي صعب: هل سيكتفي ببيانات الإدانة، أم سيغامر بالضغط الحقيقي على أقوى رجل في العالم لإجبار إسرائيل على وقف حربها؟ العالم يراقب، والفرصة لن تتكرر".

وتعيش غزة أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها، إذ تتداخل المجاعة القاسية مع حرب إبادة جماعية تشنها إسرائيل، بدعم أمريكي، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

ورغم التحذيرات الدولية والأممية والفلسطينية من تداعيات المجاعة بغزة، تواصل إسرائيل إغلاق معابر القطاع بشكل كامل أمام المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية منذ 2 مارس/ آذار الماضي، في تصعيد لسياسة التجويع التي ترتكبها منذ بدء الحرب، وسط تحذيرات من خطر موت جماعي يهدد أكثر من 100 ألف طفل في القطاع.

وحسب أحدث حصيلة لوزارة الصحة بغزة، صباح الأحد، بلغ عدد الوفيات الناجمة عن المجاعة وسوء التغذية 133 فلسطينيا، بينهم 87 طفلا منذ 7 أكتوبر 2023.

ومنذ 7 أكتوبر 2023 تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية بغزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.

وخلفت الإبادة، بدعم أمريكي، أكثر من 204 آلاف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم عشرات الأطفال.


مقالات مشابهة

  • الاستثمار السكني في العراق.. احتياجات المواطن تصطدم بالبيروقراطية وتحديات الواقع
  • إصابة شخص في حادث قطار أثناء عبوره مزلقان مغلق بالشرقية
  • وغم ولادتها بيد واحدة .. عزيزة العمري تتحدى الصعاب وتعمل على عربة طعام مع أسرتها
  • السباحة تتصدر ميداليات الفراعنة بدورة الألعاب الإفريقية للمدارس
  • لحظات مفزعة لطائرة كادت أن تصطدم بمصطافين على شاطئ بإسبانيا .. فيديو
  • تركيا.. حزب أردوغان يتصدر استطلاعا للرأي بعد تراجع لأشهر
  • فتاوى وأحكام| هل تنتقل أقساط الشقة المؤجلة إلى الورثة بعد وفاة المشتري أم تسدد بالكامل؟ هل يجوز قراءة القرآن أثناء الرضاعة؟ هل تكفي تسبيحة واحدة في الركوع أو السجود؟
  • أسطول الحرية يؤكد استمرار محاولات كسر الحصار على غزة رغم اعتداءات الاحتلال
  • شرط الحرية وجماهير مصر الثائرة.. والصامتة أيضا
  • هل تنتقل أقساط الشقة المؤجلة إلى الورثة بعد وفاة المشتري أم تسدد بالكامل؟ .. الإفتاء توضح