ترجمة: أحمد شافعي -

لم يبق غير فرصة ضئيلة إن أردنا منع ركود عالمي لا داعي له. ففي الوقت الذي يشهد انفصال الصين والولايات المتحدة، تحتدم حروب تجارية مزعزعة، منذرةً بالانحدار إلى حروب عملات، وفرض حظر على واردات وصادرات واستثمارات وتكنولوجيا، وحرق أسعار مالية من شأنه أن يدمر ملايين الوظائف حول العالم. لا يكاد يبدو من المعقول أن يجثو العالم على ركبتيه بسبب اقتصاد بلد واحد، يعيش خارجه 96٪ من السكان، وينتجون 84٪ من السلع المصنعة في العالم.

ولكن برغم أن مسؤولين أمريكيين تحدثوا من قبل عن سياسة تعريفات جمركية قائمة على مبدأ «التصعيد بهدف تهدئة التصعيد»، فإن هدف دونالد ترامب هو إرغام التصنيع على العودة إلى الولايات المتحدة، وتخفيفه لبعض التعريفات لمدة 90 يوما لا يعني أنه ينوي نزع فتيل الأزمة.

في يوم الاثنين الماضي، حذر كير ستارمر من أن العالم لن يعود إلى ما كان عليه من قبل، وذكَّرنا بأن «محاولة إدارة الأزمات دون تغيير جذري لا تؤدي إلا إلى تدهور منظم». وهو على حق. فما تعلمته من أزمة عام 2008 المالية هو أن المشاكل العالمية تقتضي حلولا منسقة عالميا. فلا بد لنا من استجابة دولية جريئة تواكب حجم الطوارئ. وبمثل ما أقام رئيس الوزراء ـ ويحسب هذا له كثيرا ـ تحالفا للدفاع عن أوكرانيا، فلا بد لنا من تحالف اقتصادي من الراغبين: أي قادة العالم متشابهي التفكير المؤمنين بأن علينا في هذا العالم المترابط أن ننسق السياسات الاقتصادية عبر القارات إذا أردنا حماية الوظائف ومستويات المعيشة.

ويتمثل التحدي الملِح في التخفيف من صدمات جانب العرض الناجمة عن جدار ترامب الجمركي. وكما تقترح راشيل ريفز، فإن علينا أن نحافظ على حركة التجارة العالمية. وبرغم أنه ما من أزمتين متشابهتان أبدا، لكن تقديم قروض ممتدة لشركات التصدير والاستيراد كان محوريا في الاستجابة العالمية لانهيار التجارة عام 2009. وعلينا أيضا أن نذكِّر الصين بأنها إن أرادت أن تقدم نفسها بوصفها داعمة للتجارة الحرة، فمن مصلحتها التركيز على توسيع الاستهلاك المحلي بدلا من إغراق الأسواق العالمية بسلع ذات أسعار مخفضة لا تستطيع بيعها الآن في الولايات المتحدة.

غير أن التحديات العالمية تتجاوز بكثير إدارة صدمة الرسوم الجمركية. ولن يكون إنعاش التجارة أمرا سهلا دون تنسيق السياسات الاقتصادية الكلية والمالية عبر القارات. فسوف يرتفع التضخم العالمي، حتى بعد مراعاة التأثير الانكماشي للصادرات الآسيوية منخفضة الأسعار. ولكن هذه الصدمة تهون أمام مشكلة أكبر هي انهيار ثقة المستهلك وتراجع استثمارات الأعمال. ويعني هذا أننا قد نحتاج إلى خفض متزامن لأسعار الفائدة ـ وهي مبادرة يحتمل جدا أن تنضم إليها الولايات المتحدة ـ مدعومة بنشاط مالي في البلاد التي تتوافر فيها مساحات للتوسع.

لقد أقيمت مؤسساتنا الاقتصادية الدولية على اعتقاد مفاده أن استدامة الرخاء تتطلب تقاسمه، وأنه لا يمكن تحقيق النجاح الاقتصادي في كل مكان إلا إذا كنا مستعدين للتحرك أينما دعت الحاجة. وبمساعدة الولايات المتحدة أو بدونها، يجب علينا فورا جمع قدرة البنك الدولي على تقديم المنح والقروض البالغة 150 مليار دولار، والقوة المالية لصندوق النقد الدولي البالغة تريليون دولار، وأقل الأسباب الداعية إلى ذلك هو مساعدة الاقتصادات النامية الأكثر ضعفا والمتضررة من الرسوم الجمركية. ففي عام 2009، كان مزيج الائتمانات التجارية وأموال البنوك متعددة الأطراف هو الذي عزز الاقتصاد العالمي بمقدار 1.1 تريليون دولار، ومنع الركود من التحول إلى كساد.

ولا يتيح لنا النهج التنسيقي محض فرصة لتحقيق استقرار الاقتصاد العالمي، وإنما لـ«إعادة البناء بشكل أفضل» ـ على حد تعبير عام 2020. ويعني هذا، بالنسبة للمملكة المتحدة، العمل بشكل أوثق مع الاتحاد الأوروبي. والحق أن التغييرات الجارية في أوروبا حاليا تتيح التعاون على نطاق أوسع حتى من مجرد إزالة الحواجز التجارية المفروضة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لطالما كان هناك توتر بين رغبة أوروبا في القيادة، التي تدفعها إلى الجرأة، ورغبتها في البقاء متحدة، بما يدفعها إلى الجبن، لكن أوروبا اليوم تعاني من معدل تضخم أقل من الولايات المتحدة، ويمكنها خفض أسعار الفائدة بشكل أسرع.

لقد بلغ إنفاق العجز الأمريكي منذ عام 2010 أضعاف إنفاق منطقة اليورو، مما جعل ألمانيا تحديدا أقل ديونا بكثير من الولايات المتحدة نسبيا. وبفضل المرونة المالية التي أوجدها المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرز، والاتحاد الأوروبي، يمكن ضخ موارد جديدة في الاقتصاد العالمي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تطبيق تقرير دراجي حول القدرة التنافسية الأوروبية، ويكتمل هذا بزيادة الإنفاق في الصين. في الوقت نفسه، ينبغي تمديد اتفاقية التعاون الدفاعي بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي لتمكين شراء أسلحة مشتركة أكثر فعالية من حيث التكلفة. ولإتاحة الموارد في مجالات أخرى، ينبغي أن نمضي قدما في المناقشات حول صندوق أوروبي شامل لأغراض خاصة متعلقة بالدفاع والأمن خارج الميزانيات العمومية.

وقد تكون أوروبا مطالبة بالقيادة في جانب آخر إذا ما أحاطت الشكوك باستعداد الولايات المتحدة للعمل كملاذ أخير لإقراض العالم. وتجب مطالبة مجلس الاستقرار المالي العالمي بتقديم تقرير فوري حول المخاطر التي قد تضر بالاستقرار والتي قد تحتاج إلى معالجة في القطاعين المصرفي وغير المصرفي. وإذا لزم الأمر، من الممكن أيضا مطالبة البنك المركزي الأوروبي بسد الفجوة الناجمة عن الولايات المتحدة (وتحاول الصين شغلها) من خلال توسيع نطاق مقايضات العملات لتشمل مجموعة أوسع من الدول التي تحتاج إلى دعم السيولة.

يمثل العمل المنسق متعدد الأطراف ضرورة إذا ما أرادت بريطانيا ضمان النمو الذي نحتاج إليه وتقوده الصادرات. وسوف يتم تعزيز هذا النمو من خلال إعادة السياسة الصناعية إلى التركيز على تعزيز القطاعات التنافسية دوليا ـ من علوم الحياة والذكاء الاصطناعي، إلى التحول في مجال الطاقة والصناعات الإبداعية. ويستوجب تعزيز هذه التجمعات الرائدة عالميا، كما قال وزير المالية، استثمارا أكبر في البحث والتطوير والمهارات رفيعة المستوى. ولكنه يستوجب منا أيضا دعم نظام داعم للمنافسة لا يفضل شركات التكنولوجيا العملاقة على حساب منافسيها الأصغر حجما في المملكة المتحدة، أو يضعف قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية الحيوية للمواهب الإبداعية.

ليس النظام الاقتصادي متعدد الأطراف وحده هو الذي يتعرض للهجوم، وإنما كل ركن آخر من أركان النظام القائم على القواعد، من احترام القانون إلى تقرير مصير الدول والالتزامات التاريخية بالمساعدات الإنسانية. فالحق أننا نشهد انهيارا متزامنا في الأنظمة الاقتصادية والجيوسياسية. وفي مقالة تالية لهذه المقالة، سوف أقترح طريقة تمكِّننا من إقامة نظام جديد مما يتحول بسرعة إلى أنقاض النظام القديم. لكننا أولا بحاجة إلى أن نظهر أن العالم قادر على العمل المشترك لدعم مستويات معيشة الناس. فسوف يظهر ذلك المبادئ الأساسية المطروحة: إن التعاون الدولي يصب في مصلحتنا الجماعية، وأن عالما لا ربح فيه للبعض إلا بخسارة البقية تتنافس فيه القوميات هو عالم يجعلنا جميعا أكثر فقرا وأقل أمنا.

جوردن براون رئيس وزراء بريطانيا من 2007 إلى 2010

عن ذي جارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

بروكسل: الاتفاق الحالي مع الولايات المتحدة أفضل من الحرب التجارية

دافع الاتحاد الأوروبي عن الاتفاق التجاري الجديد الذي أبرمه مع الولايات المتحدة، رغم الانتقادات من بعض العواصم الأوروبية والقطاعات الصناعية. وينص الاتفاق على فرض رسوم جمركية بنسبة 15 بالمئة على المنتجات الأوروبية المصدّرة إلى السوق الأمريكية، وهي أقل من تلك التي هدد بها ترامب لكنها أعلى من الرسوم السابقة.

لكن الاتفاق أثار ردود فعل غاضبة، إذ وصفه رئيس الوزراء الفرنسي بأنه خضوع لأمريكا، واعتبر رئيس وزراء المجر أنه انتصار ساحق لترامب. كما انتقدته موسكو بوصفه مدمرا للصناعة الأوروبية، ووصفه محللون بأنه غير متوازن.

من جانبه، قال كبير المفاوضين التجاريين في الاتحاد الأوروبي  ماروش شيفتشوفيتش الذي تفاوض على هذا الاتفاق على مدى أشهر مع إدارة دونالد ترامب "أنا متأكد بنسبة 100% أن هذا الاتفاق أفضل من حرب تجارية مع الولايات المتحدة".



ويقضي الاتفاق الذي توصلت إليه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين ودونالد ترامب الأحد بفرض تعرفة جمركية بنسبة 15% على المنتجات الأوروبية المصدّرة إلى الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن المعدل يفوق نسبة الرسوم الجمركية التي كانت مطبقة قبل عودة ترامب إلى الحكم لكنها أقلّ من تلك التي هدد ترامب بفرضها على أوروبا في حال عدم التوصل لاتفاق.

وقال شيفتشوفيتش "لا شك أنه أفضل اتفاق ممكن في ظل ظروف صعبة للغاية"، مشيرا إلى أنه سافر مع فريقه إلى واشنطن عشر مرات في إطار سعيه لإيجاد حل لهذا النزاع التجاري، مضيفا أن فرض رسوم جمركية أعلى كان سيهدد نحو خمسة ملايين وظيفة في أوروبا.

وعلاوة على الرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات الأوروبية، التزم الاتحاد الأوروبي شراء منتجات أميركية في مجال الطاقة بقيمة 750 مليار دولار واستثمار 600 مليار دولار إضافية في الولايات المتحدة.

ولم تُكشف تفاصيل أخرى عن الاتفاق الذي تم التوصل إليه في إسكتلندا، والذي يُتوقع أن يصدر بيان مشترك بشأنه عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خلال الأيام المقبلة.
وأثار الاتفاق غضب عواصم أوروبية عديدة، فقد اتهم رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو أوروبا بأنها "تخضع" للولايات المتحدة واصفا الاتفاق بـ "يوم قاتم".



أما رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان المعروف بانتقاداته الشديدة لبروكسل، فقال إن دونالد ترامب "سحق" المفوضية الأوروبية، التي قادت المفاوضات التجارية باسم التكتل المكوّن من  27 بلدا.

وقال المحلل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ألبرتو ريزي "الأمر أشبه بالاستسلام"، معتبرا أن الاتفاق الذي قبل به الاتحاد الأوروبي "غير متوازن إلى حد كبير"، ويمثل "انتصارا سياسيا لترامب".

ولم تتأخر موسكو في التعليق، مستهجنة الاتفاق واصفة إياه بأنه يؤدي الى "عواقب وخيمة للغاية على الصناعة الأوروبية".

"أفضل ما يمكن تحقيقه"

من جانبها، دافعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين عن الاتفاق واصفة إياه بـ" الاتفاق  الجيد" الذي من شأنه أن يحقق "الاستقرار" للمستهلكين والمستثمرين والصناعيين على جانبي الأطلسي.

كذلك، رحب المستشار الألماني فريدريش ميرتس بالاتفاق، معتبرا أنه "يجنب تصعيدا غير ضروري في العلاقات التجارية عبر الأطلسي"، بينما رأت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني أنه يجنب أوروبا سيناريو "مدمرا".

وتتبادل القوتان التجاريتان الأكبر في العالم ما يقارب 4,4 مليارات يورو من السلع والخدمات يوميا.

وسجّلت البورصات الأوروبية ارتفاعا ملحوظا عند افتتاح تعاملات الاثنين، في انعكاس لتفاؤل الأسواق بالاتفاق.



أما لوبي صناعة السيارات الأوروبي، أحد أكثر القطاعات تضررا من الرسوم الجمركية، فاعتبر أن الاتفاق يمثّل "تهدئة مرحّبا بها" في سياق يتّسم بـ"غموض خطير".

في المقابل، أعرب اتحاد الصناعات الكيميائية الألماني الذي يضم شركات كبرى مثل "باير" و"باسف" عن احتجاجه، معتبرا أن الرسوم الجمركية المتفق عليها لا تزال "مرتفعة للغاية".

من جهتها، رأت جمعية أصحاب العمل الفرنسية ميديف أن الاتفاق "يعكس ما تواجهه أوروبا من صعوبة في فرض قوة اقتصادها وأهمية سوقها الداخلية".

مقالات مشابهة

  • تايوان تنفي منع رئيسها من زيارة الولايات المتحدة الأميركية
  • رغم التصعيد التجاري.. ترامب: الرئيس الصيني سيزور الولايات المتحدة قريباً
  • النفط يواصل مكاسبه بدعم من التفاؤل حيال تطورات الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
  • الذهب ينخفض 1% بعد توصل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اتفاق تجاري
  • بروكسل: الاتفاق الحالي مع الولايات المتحدة أفضل من الحرب التجارية
  • لافروف: الاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى تراجع التصنيع في أوروبا
  • التوصل لاتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يرفع أسعار النفط.. والذهب في أدنى مستوياته منذ نحو أسبوعين
  • انخفاض أسعار الذهب عالميًا بعد اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
  • ارتفاع أسعار النفط بعد الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
  • الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يتوصلان لاتفاق تجاري بشأن الرسوم الجمركية