أسدل الستار عن معرض مسقط للكتاب في دورته التاسعة والعشرين، والمتابع لمعرض الكتاب يشاهد تفاعل جيل الشباب أو الأجيال الجديدة مع الثّقافة بعوالمها المختلفة، بل يكاد هو الغالب على غيره من الكبار، وتفاعلهم مع الثّقافة ليس تفاعلا ترفيّا، وإن وجد ذلك، إلّا أن هناك جيلا جديدا أيضا من يتشكل مع الثقافة وفق ألبستها المختلفة، وهناك المتابع لها بشكل جيّد ودقيق، بل هناك القارئ والنّاقد والكاتب والفنّان المبدع.
وأضرب هنا مشاهدتين مثلا، المشاهدة الأولى فتاة في الثانية عشرة من عمرها، وقد كنتُ مع الكاتبة بشرى خلفان، جاءت تسأل عن كتب ظننت في البداية طُلب منها ذلك لصغر سنّها، فسألتها: هل تعرفين بشرى خلفان؟ أجابت: نعم، صاحبة دلشاد، قلتُ لها: هذه بشرى خلفان، فتصورت في البداية أنني أمزح معها، وكانت غير مصدّقة، فأكدّت لها بشرى أنّها فعلا هي ذاتها، ففرحت الفتاة، ثمّ سألتها بشرى: هل قرأت الرّواية، فأجابت: نعم، وذكرت شيئا من شخصيّاتها، ممّا يدلّ على قراءتها لها بعمق وهي في بداية العقد الثّاني من عمرها.
ومثال آخر جاءني أحد الأصدقاء قائلا: إنّ فتاة تبحث عنك في ركن الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء لتوقع لها، فذهبت، فإذا هي في نهاية عقدها الثّاني، وجاءت إلى ركن الجمعيّة لأجل كتاب «لاهوت الرّحمة»، فلمّا دخلت معها في حديث معرفيّ؛ أدركت متابعتها وقراءتها، ولم تأتِ فقط لأجل التّوقيع، فإن تجد من يبحث عن كتبك هذا يعطيك شيئا من الرّضا الإيجابيّ حول نتاجك؛ لكن أن تجد من يتفاعل معه، ويشاركك شيئا ممّا قدّمته من معرفة ولو بسيطة؛ فهذا أعظم ما يرجوه الكاتب، إذ يرى من يتفاعل معه معرفيّا، ويشاركه شيئا من أطروحاته إعجابا أو نقدا أو ما بينهما.
في ركن النادي الثقافي بالمعرض كان مجلسا ثقافيا يوميا مفتوحا، يختلط فيه الشباب مع الكبار، فلا تكاد تمر دقيقة إلّا وتجد نقاشا معرفيا مختلفا، تارة في الأدب أو الفلسفة أو التّأريخ أو التّراث أو الموسيقى أو اللغة والتّرجمة وغيرها من النّتاج الإنساني، في هذا المجلس سقطت جميع الألقاب، وبقت الثّقافة هي الجامع بين الجميع، فهناك جلس الوزير مع الفنّان والفيلسوف والمؤرخ والكاتب والشاعر والروائي والكبير والصغير في نقاشات معرفيّة لا تتوقف، لو جمّعت لكانت مجلّدات بذاتها، كما زار هذا المجلس رموز ومحبّون للثقافة من خارج عُمان من الخليج وباقي الدّول العربيّة كتونس ومصر والمغرب وسوريا والعراق ولبنان والسودان والجزائر وغيرها، كما زاره من دول أخرى كإيران وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والهند وغيرها، في أجواء نقاشيّة ومعرفيّة.
فمن مشاهد هذا المجلس مثلا أنّ المصور والفنان البحريني حسين المحروس رأيتُ في وجهه شيئا من علامات الحزن ليلة سفره، وكان ملازما للمجلس، فقال: نحن نفتقد مثل هذه المجالس، ليس في الفضاءات المعرفيّة فيه، لكن هنا تستطيع أن تتحدّث بما تشاء وأنت مطمئن، لا تشعر أنّ أحدا يراقبك، أو يراقب ماذا تقول، وفيما تتحدّث.
هنا الكل يجلس ويناقش كانت أفكاره ذات اليمين أم ذات الشمال، كان ذكرا أم أنثى، كان صغيرا أم كبيرا، كان كاتبا ناقدا، أم قارئا متابعا، كان مسؤولا كبيرا أم موظفا عاديا، كان معلّما أكاديميا أم طالبا في الجامعات والمدارس، وهذا من جمال المعرض، فالمعرض ليس عرضا لكتب وشراء لها فحسب؛ فهذا تجده في المكتبات وغيرها، لكنّ روح المعرض في مثل هذه المجالس الثقافية والمعرفية المنفتحة على الجميع، حيث المعرفة الحقيقية لا تجتمع مع تضخم الإعجاب بالذّات، والتّرفع على الآخرين لكونه ألف كتابا، أو كتب مقالا في جريدة، أو نال شهرة افتراضيّة في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، بل تكسر هذه الأنا، وتشعر أنّك في عالم أوسع، وهناك من هو أعمق منك تحليلا ونقدا وإبداعا، كما أنّ مثل هذه المجالس تكشف بذاتها إبداعات لم تظهر ذاتها، أو أنّها تشجّع من يحمل ذلك على الظّهور وإخراج ما يكتنزه لينفع وطنه ومن حوله ممّن يشاركه إبداعه ومعرفته.
فقدنا هذا العام في مثل هذه المجالس روح الثقافة في عُمان، والّذي يلقب بأبي الثقافة العمانية، أقصد بذلك الأستاذ الأديب أحمد الفلاحي، والذي لازم المستشفى وقت المعرض لمرض ألم به، فقد كان خاتمة المجلس كما في العام الماضي، إذ يتجول في المعرض فإذا قارب وقت المعرض على الانتهاء جلس في مجلس ركن النادي الثقافي بالمعرض، يتحلّق حوله الشباب والمثقفون والكتّاب والأدباء والمحبّون للمعرفة، يجدون فيه روح الثقافة والتواضع، وفكاهة الشعر والأدب، فلا يكاد مثقف في عُمان اجتمع الكل على حبّه مثل الفلاحي، فهو الأب الروحي للثقافة في عُمان.
من المشاهد الجميلة في معرض الكتاب أن تجد الكتاب العماني اليوم يقصده دارسون ومثقفون من خارج عُمان، يقطعون مسافات طويلة لأجل الكتاب العماني، والاقتراب من المثقفين في عُمان، رأيت شابا هنديا في بداية الثلاثين من عُمره، فسألته: هل تعمل هنا، قال: لا، أنا أتيت من الهند لأجل معرض الكتاب، حيث أقدّم أطروحة الدّكتوراه في الرواية العمانية، كما رأيت شابا مصريا يضع كتابات عمانية في إحدى الصناديق، فسألته: هل لديك دور نشر؟ قال: لا، أنا أحمل هذه الكتب العمانيّة إلى مصر لأنّها تطلب في الجامعات والأكاديميّات المصريّة، كما رأيت متجولا من الجزائر يحمل فقط الكتب العمانيّة لأجل بعض المكتبات الأهلية في الجزائر.
هناك مشاهد عديدة لها رمزيّتها وجماليّتها في معرض مسقط للكتاب، لو ذكرتها لطال المقام، منها ما أشرت إليها في سنوات ماضية، ومنها لعلّ مناسبات أخرى نشير إليها، ولكن نفخر أن طال بنا العمر لندرك هذه اللّحظات الرّائعة من الأجواء الثّقافيّة، ونحن اليوم نشاهد - والحمد لله - القلم العماني يصل إلى درجة من الإبداع والحضور المعرفيّ، كمّا ونوعا، ونجد المعرفة والنّتاج العماني يتمدّد في فضاءات جغرافيّة أوسع، ويتحرّك في فضاء معرفيّ حرّ، بعيدا عن الأدلجة اللّاهوتية والسياسية المسبقة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی ع مان شیئا من
إقرأ أيضاً:
انطلاق فعاليات الدورة الرابعة والثلاثين لمعرض الدوحة الدولي للكتاب
انطلقت اليوم الخميس فعاليات الدورة الرابعة والثلاثين من معرض الدوحة الدولي للكتاب في مركز الدوحة للمعارض والمؤتمرات تحت شعار "من النقش إلى الكتابة"، وتستمر حتى السابع عشر من مايو الجاري. وتُعد هذه الدورة الأكبر في تاريخ المعرض من حيث حجم المشاركة وتنوعها، إذ تشارك فيها 522 دار نشر من 43 دولة، بما فيها مشاركات نوعية تسجل لأول مرة، مثل دور نشر من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. وتحل دولة فلسطين ضيف شرف هذه الدورة، بمشاركة 11 ناشراً فلسطينياً لأول مرة، إلى جانب حضور مكتبات شارع الحلبوني من سوريا، التي تعرض مجموعة من الكتب القيمة.
يتضمن دليل المعرض نحو 166 ألف عنوان، ويشهد هذا العام توسعاً في مشاركة الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة، إضافة إلى تمثيل واسع من البعثات الدبلوماسية المعتمدة لدى الدولة. ومن أبرز أركان المعرض، جناح وزارة الثقافة، الذي سيشهد تدشين مجموعة من الإصدارات الخاصة، إضافة إلى عرض مباشر لطباعة كتب الوزارة عبر طابعة رقمية حديثة، إلى جانب عرض موسّع لكتب المؤلفين القطريين وإصدارات الوزارة.
View this post on InstagramA post shared by وزارة الثقافة (@moc_qatar)
كما ستُعلن وزارة الثقافة خلال المعرض أسماء الفائزين بجائزة معرض الدوحة الدولي للكتاب للناشر والمؤلف، وتشمل فئات: الناشر المتميز (محلي ودولي)، والناشر المتميز في مجال كتب الأطفال (محلي ودولي)، وفئة الإبداع للكاتب، وفئة الكاتب القطري الشاب. وتهدف هذه الجائزة إلى تعزيز حركة النشر، ودعم المبدعين في المجالات الأدبية والثقافية، وتشجيع دور النشر على مواصلة الاستثمار في المحتوى العربي.
إعلانوتشهد هذه الدورة أيضاً إطلاق النسخة الأولى من البرنامج المهني للتبادل الأدبي، وهي مبادرة إستراتيجية تهدف إلى تطوير التعاون الأدبي وتبادل حقوق النشر، وتعزيز حركة الترجمة بين قطر والمشهد الأدبي العالمي. وفي الإطار ذاته، أعدت وزارة الثقافة برنامجاً ثقافياً وفنياً متنوعاً يقدم من خلاله نخبة من المثقفين العرب باقة من الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية، إلى جانب عروض مسرحية وورش عمل تغطي مختلف مجالات الثقافة والأدب.
View this post on InstagramA post shared by وزارة الثقافة (@moc_qatar)
ويواكب المعرض برنامج مصاحب يتضمن ورش عمل اجتماعية ومهنية، وأنشطة تفاعلية موجهة للأطفال والناشئة، حيث يولي المعرض أهمية كبيرة لهذه الفئة من الزوار، ويوفر لهم مساحة واسعة تستضيف أبرز ناشري كتب الأطفال، كما ينظم فعاليات تسهم في اكتشاف وتنمية مواهبهم وتحفيزهم على القراءة، إضافة إلى عروض مسرحية وبرامج ثقافية مخصصة لهذه الفئة العمرية، مع مشاركة دور نشر متخصصة في أدب الطفل.
ويقدّم المعرض مجموعة من الخدمات العامة للزوار، منها خدمة "مرشد القراءة"، وخدمة "اسألني"، وخدمة الحمالي، إلى جانب مواقف سيارات مجانية، وفرص نادرة للتفاعل المباشر مع المؤلفين والناشرين والمثقفين من داخل قطر وخارجها، مما يثري تجربة الزوار ويعزز من الأثر الثقافي للفعالية.
View this post on InstagramA post shared by معرض الدوحة الدولي للكتاب (@dibookfair)
ويفتح المعرض أبوابه للزوار يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا وحتى العاشرة مساءً، بينما تكون مواعيد يوم الجمعة من الثالثة عصرًا حتى العاشرة مساءً. ويُعد معرض الدوحة الدولي للكتاب من أعرق وأهم المعارض الثقافية في المنطقة، حيث يحظى بسمعة مرموقة وإقبال واسع من دول الخليج والعالم العربي، إلى جانب اهتمام متزايد من الساحة الدولية.
إعلانويُذكر أن انطلاقة المعرض الأولى كانت في عام 1972 بإشراف دار الكتب القطرية، وكان يُنظَّم كل عامين حتى عام 2002، حين أصبح يقام سنويًا. وقد اكتسب المعرض طابعًا دوليًا بعد نجاحه في استقطاب دور النشر العالمية الكبرى، حيث بلغ عددها في أولى دوراته 20 دار نشر فقط، في حين شهدت الدورة السابقة مشاركة 515 دار نشر من 42 دولة، إلى جانب سفارات الدول الشقيقة والصديقة، وأُقيم على مساحة 29 ألف متر مربع.
ومنذ عام 2010، اعتاد المعرض أن يستضيف في كل دورة إحدى دول العالم كضيف شرف، حيث كانت البداية مع الولايات المتحدة الأميركية، ثم توالت المشاركات المتميزة من دول مثل تركيا، إيران، اليابان، بريطانيا، ألمانيا، روسيا، فرنسا، السعودية، وسلطنة عمان.