مع كل الهجمات والحروب التي قامت بها إسرائيل ضد مدينة غزة منذ ما يقرب من عقدين، بعد انسحابها رسميا منها أو عدم السيطرة الشاملة على المدينة، أو كما تسميه إسرائيل بـ(خطة فك الارتباط الأحادية الإسرائيلية 2005)، كان المستهدف والمتضرر في المقام الأول المدنيين الآمنين في بيوتهم وقراهم، وليس المقاومة التي لديها القدرة التحصينية الكبيرة، وفي هذا القصف يتم تدمير منازل الساكنين منذ الحروب الأولى التي شنتها إسرائيل عليهم، بعدما اشتدت المقاومة الفلسطينية في غزة وازدادت مقدرتها على توجيه ضربات على مناطق الحدود المحاذية لها، فقد تم ضرب عشرات المجمعات السكنية، وأحيانا يتم إبلاغهم، وفي أحيان كثيرة لا يتم إبلاغهم، ويقتل العشرات في كل بناية من تلك المساكن، ويصاب المئات فيها نتيجة للقصف بالطائرات في أكثر الأحيان على رؤوس الساكنين في اليوم الواحد.

لكن في الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي شُنت على غزة في السابع من أكتوبر الحالي، يتم التدمير الممنهج لعشرات المباني، وأغلبها دون إنذار من كان يسكن في هذه المباني، وهذا بلا شك من أساليب الانتقام الإسرائيلية التي اختلفت عن الحروب السابقة التي تشنها على غزة، وهي أتت بسبب نجاح المقاومة في الهجوم الذي شنته على القوات العسكرية في المستوطنات الإسرائيلية القريبة من غزة، وبعضها أبعد من ذلك، التي فاجأت إسرائيل تماما، مع أن ما تملكه من إمكانيات وقدرات تكنولوجية واستخباراتية منذ قيامها وغيرها من القدرات التي تفوق قدرات كل دول الجوار تقريبا، وتفوقها على كتائب أو قوات ليست نظامية، فالفارق كبير جدا بينها وبين إسرائيل، كما أن هذه الهجمات التي جاءت من كتائب صغيرة لا يمكن مقارنتها بقدرات الدول الراهنة، لكن هذه الطريقة الانتقامية للمدنيين التي هي مستمرة حتى الآن، منذ اندلاع العملية الفدائية، هي ليست بلا شك من الحروب التي تتعارف عليها الأمم والحضارات في وقت إعلانها التي تشن على دول أو جماعات معادية.

ويتم استبعاد المدنيين الآمنين من الاستهداف، وهم في بيوتهم وعدم الهجوم عليهم حتى لو كانوا متحصنين في أماكن مدنية مع ساكنيها، وكما قلنا تم تجاوز هذه المعايير تماما، بعدما جرى مؤخرا من هجمات لكتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة حماس في غزة، بل أن هذا الاستهداف تم في الحروب التي قامت بها إسرائيل في الحروب والهجمات الماضية ـ التي شنتها على قطاع غزة، وإن كانت أقل عنفا من الهجمات الحالية بعد السابع من أكتوبر الحالي، وهذه هي الحرب الخامسة على غزة، تلك المدينة الصغيرة في جغرافيتها، لكن المدينة العصية والصلبة في مقاومة المحتل. والحقيقة أن ما قامت وتقوم به المقاومة الفلسطينية منذ عقود، هو حق لأي شعب من الشعوب في هذا العالم، إذا ما احتلت أو استبيحت أرضها وطُردت منها بالقوة المسلحة، ولم يجد من الوسائل السلمية طريقة للحصول على حقه المسلوب، فمن حقه أن يقاوم ويناضل، بكل الوسائل المشروعة، كما تقرها القوانين الشرعية والوضعية.

ومع أن القوانين الدولية، ومنها النظام الأساسي للأمم المتحدة، والمنظمات التابعة لها، تقر بحق الشعوب في استعادة حقوقها التي احتلت بالقوة الغاشمة من الآخرين، فإن بعض الدول التي صاغت هذه القوانين، هي التي تتجاهل ما وضعته من تشريعات وضعية عند تأسيس المنظمة الدولية، واعتبرت أن ما تقوم بها المقاومة الفلسطينية على قوات الاحتلال، إرهاب وعدوان على شعب إسرائيل؟ وهذه في الحقيقة تبعث على الاستغراب والاستهجان، وهي أقرب للمقولة الشهيرة في عالم السياسة، بالمعايير المتناقضة والمخالفة للقانون الدولي الذي وضعوه بقناعاتهم بعد الحرب العالمية الثانية، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هاجموا الاتحاد الروسي لاجتياحه بعض الأراضي الأوكرانية، بعد دخول روسيا لهذه لأراضي الأوكرانية في فبراير عام 2022، وقدمت هذه الدول المال والسلاح والخبرات العسكرية ضد روسيا، ولا تزال تقدم لطرد المحتل الروسي ـ كما يقولون ـ، وعلى عكس الحال في القضية الفلسطينية إذ يتم ما يخالف هذا التوجه، مع أن أرض فلسطين محتلة بعد حرب 48، وهذا أيضا مخالف للقانون الدولي لأرض دول أخرى أو شعب آخر! فهذه المقاييس التي تضعها بعض الدول الكبرى للأسف لن يقبلها صاحب الحق العادل الذي اغتصبت أرضه وسيقاتل مهما طال عليه الزمن، وهذه مسألة مبدأ.

والحقيقة أن الإنسانية ستبقى رهينة للحروب والصراعات والتوترات، في ظل المظالم وغياب الحقوق العادلة، لأي شعب من الشعوب، وفي ظل النظام الدولي الذي تديره الدول التي وضعت لنفسها ما يجعلها فوق القانون، من خلال حق النقض (الفيتو)، الذي أصبح يساعد على الصراعات وزيادة التوترات وليس على حلها بالعدل وإحقاق الحق لكل أمة من الأمم، وليس هذا فحسب بل أن الهجمات التي طالت المدنيين في غزة، في ظل سكوت الدول التي تؤيد عدوان إسرائيل، يبعث على الاستغراب والاستنكار وفق هذه المكاييل المتناقضة في الحديث عن أهمية القانون الدولي الذي يُطرح دون أدنى مقاييس عادلة، ومنها ما يحدث في ظل الصمت الدولي، على منع الدواء والغذاء والكهرباء ومنع المياه، مما يجعلنا نعيش في شريعة الغاب وليس في قوانين دولية تطبق بالتساوي على الجميع، حيث إن الأقوال التي تطلق تعد في مهب روح القوة دون القانون، عندما يتم استباحة آدمية الإنسان في أن يعيش بلا كرامة في وطنه المغتصب، ومع ذلك يتم قهره وقتله ومنعه من العيش الكريم، عندما تمنع عنه وسيلة الحياة الإنسانية، بعيدا من الضمائر الحية التي تميز بين الحق والباطل، وبين ما هو إنساني وما هو ظالم ومجحف في حق الآخر المختلف.

وهذه المواقف هي التي تزيد من الصراعات في عالم اليوم، ولا تسهم هذه السياسات في حل الأزمات أو تخفيفها، فقد تغيرت النظرة تماما في المجتمع الدولي تجاه ازدواجية المعايير وحقوق الإنسان والحق في الحرية والديمقراطية والاستقلال، وبات واضحا أن مصوغات التبرير والتجويز قابلة للتغير، وفق الرغبات والاتجاهات السياسية والإيديولوجية في هذه الدول، ولذلك يجب أن تكون الضمائر الحية مدركة لهذه الأسباب التي أصبحت مكشوفة، ولا تحتاج إلى دليل، فالإرهاب يظل شعارا سياسيا، يجري استخدامه بشكل (انتقائي)، ويتم تمييز أعمال غير مرغوب فيها، يقوم بها الخصوم على الساحة الدولية، والانتقاء بين هذا وذاك، لن يحل المشاكل والأزمات والتوترات والحروب التي تقام هنا وهناك، ولن تسهم في حل القضايا العالقة، إذا ما أريد لها أن تحل بالوسائل السلمية المنصفة والموازين العادلة، والغريب أن دولا كثيرة تدعو إلى وقف الحرب في غزة دون الحلول لأصل المشكلة أو إلى الهدوء وضبط النفس، ويتم مساواة الجاني بالضحية معا، وهذا يعني أنه على الآخرين القبول بما تفعله إسرائيل، مع أن الآخر هو المحتل الغاصب، ومقاومة الفلسطينيين حق تكفله كل القوانين الدولية -كما أشرنا آنفا- وهكذا أصبحت المقاييس الدولية مقلوبة في هذا الزمن العجيب! ولذلك فإن هذا التعامل سيجر بلا شك إلى الحروب، وها هي فلسطين تقترب من ثمانين عاما على احتلالها، والمشكلة لم تحل، بالرغم من الحلول التسكيتية التي جرت في أوسلو في التسعينيات من القرن الماضي.

ومن الباحثين الذين اهتموا بالحركة الصهيونية، ومقارنتها بالنازية، المفكر والأكاديمي العربي د. عبد الوهاب المسيري إذ يعد من الذين تفرغوا لسنوات طويلة لدراسة هذه الحركة ومسيرتها الفكرية والسياسية، ومنها الموسوعة الشهيرة: (اليهود واليهودية والصهيونية)، ويرى المسيري في كتابه (الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ)، إن الغرب أسهم في قيامها لأهداف سياسية واستراتيجية، ولحاجة الغرب إلى قاعدة عسكرية تخدم مصالحه، ولذلك يرى أن: «الصهيونية تستند إلى رؤية علمانية إمبريالية شاملة تعتبر اليهود والفلسطينيين (الإنسان) وفلسطين (الطبيعة) مادة استعمالية يمكن توظيفها وحوسبتها. فاليهود مادة بشرية تأخذ شكلا عضويا متماسكا... وإنما يجب أن يتم بشكل علمي ومنهجي عن طريق نقلهم (ترانسفر)، خارج العالم الغربي فيتحولون من مادة غير نافعة إلى مستوطنين يشكلون دولة وظيفية تخدم مصالح الغرب، على أن يقوم هو بالدفاع عنها وضمان بقائها واستمرارها».

من هنا تقوم الصهيونية كعقيدة فكرية بتطبيق ما فعلته النازية بالآخرين، ومنها (الترانسفير) الترحيل أو القتل، وهو ما تسعى إليه إسرائيل في غزة أو التهجير القسري، وهذا لن يقبله الشعب الفلسطيني، الذي عانى من التهجير منذ عام 1948، والذي يعزز أو يقوي هذه الفكرة القديمة / الجديدة، هو انهيار قوة الردع الإسرائيلية، بعد بروز قدرة المقاومة على توازن القوة والرعب مع اختلاف الإمكانيات، وخاصة الصواريخ.. وللحديث بقية .

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحروب التی

إقرأ أيضاً:

أطباء بلا حدود: المساعدات القليلة التي سمحت “إسرائيل” بدخولها غزة مجرد ستار لتجنب اتهامها بالتجويع

#سواليف

قالت منظمة ” #أطباء_بلا_حدود ” إن سماح ” #إسرائيل ” بدخول كمية #مساعدات غير كافية إلى قطاع #غزة يشير إلى نيتها تجنب اتهامها بتجويع سكان القطاع.

وأضافت المنظمة، في تصريح صحفي اليوم الأربعاء، أن #كمية_المساعدات التي بدأت “إسرائيل” السماح بدخولها إلى غزة تُعد مجرد ستار للتظاهر بأن #الحصار انتهى.

وأوضحت المنظمة أن العملية الإسرائيلية الأخيرة أدت إلى تدمير أو إغلاق نحو 20 منشأة طبية في غزة جزئيًا أو كليًا خلال الأسبوع الماضي.

مقالات ذات صلة أبو زهري ينفي موافقة “حماس” على الإفراج عن أسرى “إسرائيليين” مقابل هدنة لشهرين 2025/05/18

وداعت المنظمة “إسرائيل” إلى إنهاء حصارها المفروض على القطاع ووقف تدمير نظامه الصحي، الذي يأتي ضمن حملتها للتطهير العرقي.

وأكدت أطباء بلا حدود، أن خطة “إسرائيل” تهدف إلى استغلال المساعدات الإنسانية وجعلها أداة لتحقيق أهدافها العسكرية.

وقال المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس، الاثنين: “مرّ شهران على الحصار الإسرائيلي الأخير على غزة، ويعاني مليونا شخص من الجوع، بينما يُحتجز 116 ألف طن من الغذاء على الحدود ويمنع الحصار المستمرّ عمدًا وصول المساعدات الإنسانية بما فيها الغذاء، ويتزايد خطر المجاعة في غزة”.

وكان الاحتلال الإسرائيلي قد استأنف فجر 18 آذار/مارس 2025، عدوانه وحصاره المشدد على قطاع غزة، بعد توقف دام شهرين بموجب اتفاق لوقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، إلا أن الاحتلال خرق بنود الاتفاق طوال فترة التهدئة.

وبدعم أميركي وأوروبي، ترتكب “إسرائيل” منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إبادة جماعية في قطاع غزة، أسفرت عن أكثر من 174 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى أكثر من 14 ألف مفقود.

مقالات مشابهة

  • أبرز مضامين اتفاقية الشراكة التي يهدد الاتحاد الأوروبي بمراجعتها مع إسرائيل
  • ميناء حيفا بوابة إسرائيل التي يتوعدها الحوثيون
  • الكنيست يمدد قانونا مؤقتا يحظر الإعلام الأجنبي الذي يمس بأمن إسرائيل
  • لماذا الصمت العربي في حين تغيرت مواقف الغرب تجاه إسرائيل؟
  • أطباء بلا حدود: المساعدات القليلة التي سمحت “إسرائيل” بدخولها غزة مجرد ستار لتجنب اتهامها بالتجويع
  • موقع أمريكي: التهديد الذي يشكّله “اليمنيون” على عمق إسرائيل حقيقي
  • 3 دول تهدد إسرائيل بإجراءات إذا لم توقف هجومها العسكري على غزة
  • تعرف على أشهر شركات الطيران التي ألغت رحلاتها إلى إسرائيل
  • هذه الشركات التي ألغت رحلاتها إلى "إسرائيل" خشية صواريخ الحوثيين
  • ما قصة الجاسوس إيلي كوهين الذي حصلت إسرائيل على أرشيفه من سوريا؟