نظم المجلس الأعلى للثقافة بالتعاون مع الهيئة العامة لقصور الثقافة ندوة بعنوان: "طه حسين .. سيرة عقل مصرى"، وذلك فى إطار إحياء الذكرى الخمسين على رحيل عميد الأدب العربى طه حسين؛ وقد شهدت الأمسية حضور الدكتور هشام عزمى؛ الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، والأستاذ عمر البسيونى رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأدار النقاش الكاتب الصحفى طارق الطاهر؛ رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة، وقد شارك فى الأمسية عدد من الأدباء والنقاد وهم: الدكتور سامى سليمان، الدكتور مصطفى القزاز، الدكتور محمود عبد البارى، الكاتبة عائشة المراغى.

قصة حياة الدكتور طه حسين شاهدة على مثابرته

أوضح الدكتور هشام عزمى أن قصة حياة الدكتور طه حسين لا تعد فقط شاهدة على مثابرته وتصميمه، ولكنها تعد أيضا مصدر إلهام لعدد لا يُحصى من الأفراد الذين يواجهون الشدائد والصعاب؛ فمنذ مولده عام ألف وثمانمائة وتسعة وثمانون فى صعيد مصر، تغلب العميد على تحديات بداياته المتواضعة ليصبح باحثًا ومفكرًا متميزا. وتغلب على الظلام المحيط به من كل جانب قصة حياة ملهمة، مليئة بالدروس والعبر. فلقد كان طه حسين نموذجًا للخروج على الجامد الثابت، وجاءت أراؤه مغايرةً لمن حوله، ولم يتراجع عن موقف ارتآه ولا عن مذهب اعتنقه.
وعلى الرغم من فقدانه نعمة البصر فى سن مبكرة بسبب المرض، إلا أن تعطشه للمعرفة كان أكبر من أن يُشبع، حيث كرس نفسه بكل إخلاص للتعليم؛ حيث مهد سعيه للتعليم طوال حياته الطريق لمساهماته الفكرية والأدبية، ولقد كانت مساعى طه حسين الأدبية رائدة؛ حيث سعى إلى تحدى الأعراف التقليدية وارتقى باللغة العربية إلى آفاق جديدة.
وتابع الدكتور هشام عزمى كلمته مؤكدًا امتداد مساهمات طه حسين إلى ما هو أبعد من عالم الأدب؛ فإنه كباحث كرس جهوده لمجال الأدب العربى، وقد بثت تحليلاته وتفسيراته النقدية حياة جديدة فى النصوص الكلاسيكية، مما سمح بفهم أعمق وتقدير أوسع بين أوساط العلماء وعامة الناس. علاوة على ذلك فلقد كانت إسهامات العميد العلمية والأكاديمية طاغية؛ فمنذ عودته إلى مصر عام 1919م عين أستاذًا للتاريخ اليونانى والرومانى فى الجامعة المصرية، ثم عين عميدًا لكلية الآداب منذ عام 1936م وحتى عام 1942م وهو العام ذاته الذى عين فيه مديرًا لجامعة الإسكندرية لتنتهى هذه المسيرة الحافلة بتعيين طه حسين وزيرًا للمعارف. وفى كل المناصب التى شغلها أدخل العميد إصلاحات تهدف إلى تحديث النظام التعليمى وتعزيز الحرية الأكاديمية ومايزال كتابه القيم "مستقبل الثقافة العربية فى مصر" يقدم دروسًا بليغه فى احتضان التعليم. أما عن النتاج الفكرى، فلقد قام الأديب طه حسين بتقديم ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين كتابًا بين مؤلَّف ومترجَّم إلى المكتبة العربية فى مجالات الشعر والنقد والقصة.
وفى مختتم كلمته قال عزمى: "من دواعى سرورنا أن يرتبط اسم الدكتور طه حسين بالمجلس الأعلى للثقافة منذ بداياته الأولى؛ فقد اختير عضوًا بهذا المجلس العريق، بمسماه السابق: (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب)، كما كان مقرِّرًا للجنة الترجمة والتبادل الثقافى فى المجلس. وكذلك كان أول من فاز بجائزة الدولة التقديرية فى الآداب فى أول دورة لهذه الجائزة فى عام 1958م".


فيما أوضح الدكتور سامى سليمان أحمد أن كتابات طه حسين النقدية عكست شغفًا كبيرًا بالشاعر الفيلسوف أبى العلاء المعرى؛ إذ تكشف على تنوعها وامتدادها الزمنى عن وجوه من العلاقات التى ربطت طه حسين بأبى العلاء، وإنتاجه الأدبى شعرًا كان أم نثرًا ووقائع حياته وأفكاره ومواقفه إزاء الآخرين ومسالكه تجاه الأشياء، ولعل الجوهر الذى استندت إليه تلك العلاقات كان هو ذلك التعاطى الغامر الذى كان طه حسين يستشعره دائمًا تجاه أبى العلاء وما يتعلق به وليس مرد هذا التعاطف فيما نرى إلى أن طرفيه طه حسين والمعرى قد جمعت بينهما محنة فقدان البصر؛ فصارا متشابهين فى مواجهتهما مواقف متقاربة بل مرده إلى أن تلك الوضعية قد ترتبت عليها مجموعة من النتائج التى تركت تأثيراتها فى رؤيتهما؛ فكان طه حسين يستشعر دائمًا أن أبا العلاء قريبٌ منه فى لحظاتٍ كثيرة، بل إن قارئ كتابات طه حسين يتملكه شعورٌ دائم بحضور أبى العلاء فى العديد من المواقف التى أعلنها طه حسين، أو تأثيره فى عدد من الرؤى التى تبناها طه حسين فى لحظات مختلفة. ولعل هذا ما يتضح لقارئ كتابات طه حسين على تنوعها ورحابة مجالاتها فى ذلك الحضور الضمني الكثيف للمعرى وأصدانه فى العوالم المختلفة التى ابتكرها طه حسين فى تلك الكتابات.


عقب ذلك أوضح الدكتور محمود عبد البارى أن ربما ما لا يعرفه القارئ عن طه حسين هو تكوينه المجمعی، كيف كان؟ وكيف رأى هو نفسه بعد التحاقه بالمجمع عضوا ثم نائبًا ثم رئيسًا؟ وكيف كان يرى زملاءه؟وكيف كان زملاؤه ينظرون إليه؟ وكيف رأى رسالة المجمع؟ وكيف رأى أغراضه؟ وكيف وظف وسائله وأدواته لتحقيق تلك الغايات؟ وتابع مشيرًا إلى أن طه حسين ولد فى عزبة «الكيلو» مرکز مغاغة بمحافظة المنيا، واهتم والده بتحفيظه القرآن الكريم منذ صغره، ثم أرسله إلى القاهرة ليكمل تعليمه بالأزهر الشريف عام 1902م، وبعد ست سنوات من الدراسة فى الأزهر تحديدًا سنة 1908م أصابته عدم الحماسة لمواد  الأزهر الشريف  الدراسية، وعقب فصله من الأزهر على يد الشيخ حسونة النواوی، بسبب محادثة جرت بينه وبين أحد أساتذته اعتبرها خروجًا على التقاليد الأزهرية، عاد إلى الدراسة فى الأزهر بوساطة من الأستاذ أحمد لطفى السيد لدى الشيخ حسونة، وفى العام نفسه افتُتِحت الجامعة المصرية؛ فالتحق بها ثم أعد رسالته للدكتوراه وكان عنوانها: "ذكرى أبى العلاء"، ونوقشت فى الخامس من مايو عام 1914م، وكانت أول رسالة ينال صاحبها إجازة علمية من هذه الجامعة؛ فقررت الجامعة إرساله فى بعثة إلى فرنسا؛ فسافر فى نوفمبر سنة 1914م والتحق بجامعة مونبلييه لكنه عاد إلى مصر في السنة التالية، ولما انفرجت الأزمة المالية عاد إلى فرنسا عام 1915م والتحق بكلية الآداب بجامعة السوربون وحصل منها على درجة الليسانس في الآداب فى سنة 1917م.

أيقونة التمرد والوعى الضدى


وتحدثت الدكتورة نجاة على مؤكدة أن عميد الأدب العربى يمثل أيقونة التمرد والوعى الضدى؛ فطالما نظرت إليه باعتباره النموذج المُلهِم فى بناء العقل، ذلك العقل الذى آمنتُ بقدراته، وبأنه كلما كان مستنيرًا، كلما كان قادرًا على الإبداع. وأكدت أنها إلى الآن تتذكر بكثير من الفرح حينما وقعت عيناها أول مرة على كتاب "الأيام" فى مكتبة والدها رحمه الله- فى سن مبكرة، وكيف صارت بعدها مأخوذة بهذه السيرة الفريدة فى أدبنا العربى، وبذلك الفتى الكفيف الذى تحدى ظروف الفقر وفقدان البصر وشق بعلمه طريقًا خاصًا به وكيف دفعته نزعة التمرد على الجمود بكل أشكاله  ، التحق بالجامعة المصرية التي وجد بها التنوع الفكري والعلمي الذي كان يصبوا  إليه ، فالدراسة في الأزهر لم تلقي لديه الشغف الذي كان يتوقعه   وهو ما اتضح فى أكثر من موضع فى كتابه: "الأيام" وغير ذلك من مؤلفات حملت رؤاه الثورية وآراؤه المستنيرة.

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الهيئة العامة لقصور الثقافة طه حسين عميد الأدب العربي رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة الأعلى للثقافة طه حسین

إقرأ أيضاً:

القصة القصيرة جدًا: إشكالية المفهوم والخصائص

يقول الرافعي: لم أكتب في القصة إلا قليلا إذا أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الاسم ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها هي قصة هذا العقل الذي في رأسي وهذا القلب الذي بين جنبي.

فالقصة مدرسة لها قانون، وطريقة ممحصة، وغاية معينة لا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ الذين تثيرها مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة.

من نافلة القول: إن فعل القص والحكي في عمومه فعل إنساني، ومحور معيشي قار بين الإنسان ومحيطه: العام والخاص. ترغبا فيما يعتلي النفس من هموم وأفكار وعاطفة وما يشكله ذلك الفعل الإنساني الراسخ: كشفا وحضورا وإقبالا لدورة الزمن وتقلباته، وممكناته، وتساميه بين الحركة والسكون والترحال والبقاء: في اللسان والعاطفة والإيحاء، والدلالة.

وقد استدعت الذاكرة الإنسانية الإبداعية لدى مختلف الشعوب حركة إدراكية وحوارا قصصيا له مدركاته وفنونه وعناصره التي تطورت وانتهجت صورة تكونت على مختلف الأزمنة والعصور. وتمايزت بين أنواعها ومسارها الحكائي، وأردفت مقصدها وهدفها وواكبت في ظرفها العام وفي دلالتها الحضارية والتاريخية والسياقية. وقدمت مادة مرجعية لها مكانتها وأفكارها ومنطلقها. وفي اتصال بين مختلف تلك الأنواع السردية تأتي القصة بكل أنواعها ومن بينها ما يسمى بالقصة القصيرة جدا.

إن ما يمكن ملاحظته حين النظر إلى أدب القصة القصير جدا ذلك الاهتمام الذي يوليه الكثير لهذا الفن الذي نجده حاضرا من خلال الدراسات النقدية النوعية التي تتبعت هذا الأدب ومثلته في خصائصه ومميزاته، ومن تلك الدراسات التي حظي بها الدرس النقدي:

الدراسة التي قامت بها غنية الشبيبي حول التعاليات النصية في مجموعتي عزيزة الطائي. ظلال العزلة وموج خارج البحر.

ودراسة الدكتور عزية الطائي ضمن كتابها: ودراستها حول الخطاب السردي العماني: الأنواع والخصائص 1939-2010.

دراسة الدكتور خالد المعمري لمجموعة محمد الرحبي «أنواع».

والدراسة التي قام بها الدكتور إحسان صادق اللواتي لدراسة ظاهرة التكثيف في القصة القصيرة جدا وقد اختار ثلاثة من القصاص العمانيين: عبدالعزيز الفارسي والخطاب المزروعي ووليد النبهاني.

والدراسة التي قامت به الدكتورة: جميلة بنت سالم الجعدية

والدراسة التي قام بها الدكتور سلطان الفزاري التي جاءت بعنوان جماليات تشكيل القفلة في القصة العمانية القصيرة جدا.

يقول الدكتور أحمد السماوي في كتابه «الأدب العربي الحديث» دراسة أجناسية»:

«إن الأقصوصة لدى العرب جنس أدبي دخيل عرفوه في لحظة تاليه للرواية»(1).

ويوكد ما قاله في ضوء تتبعه ودراسته وبحثه التاريخي المخصص للوصف لفن القص وما أطلق عليه «الأقصوصة» وهو يعني أدب القصة عموما، وارتباطه بالرواية واختلافه في الخصائص والبنية والنظم. وكانت الريادة التي مثلها محمود تيمور بعد عودته من الغرب التي شهدت تطور هذا الفن عبر مختلف المستويات والدراسات والمدارس الفكرية منذ القرن الثاني والثالث الميلاديين والتي ربط نشأتها بالحكاية الشعبية المنظومة، وقد كان حضورها الحقيقي في القرن التاسع عشر خلال هيمنة الرومنطيقية. وقد بدأ محمود تيمور بمجموعته (السفور) التي يعود تاريخ تأليفها إلى عام 1919م. ومن ثم بدأ جملة من الرواد العرب كتابة هذا النوع الأدبي.

في خاتمة قوله: «والمهم في الأمر أن هذا الجنس المستحدث قد تجاوز بيسر صراع الأضداد بين تأصيل في التراث القديم، وانفتاح على الغربي الحديث»(2).

وفي حقيقة الأمر أن هذا الفن الذي قد مثّل حضورا في كافة المستويات وعلى مختلف الفئات والتوجهات السياقية والحياتية؛ فصارت دوافع القول قصة، وواقعا له مكانته وطرقه ورغباته المتصلة بكهوف التكوين وراصدة ديمومة الإنسان في حاضره وماضيه ومستقبله، وغدت صورة كاشفة لمقتضى التداعيات النفسية والمعيشية الواقعية منها والتاريخية.

ففي قول ابن رشيق: «وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيدا محفوظا؛ وأن الشعر أقل، وأكثر جيدا محفوظا؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور «وأما عن أسبقية النثر وأهميته فقد قال أبو حيان التوحيدي: «النثر أصل الكلام والنظم فرعه والأصل أشرف من الفرع».

لقد كانت القصة القصيرة جدا حضورا في الساحة الكبرى، يتبارى فيها عديد الثقافات، وبها يركن الكتّاب، فحكاية القصة وقولها ركن قار له مساراته ومكوناته، وله دوافعه الكامنة خلف جسور الإبداع والفنية.

وهو ما يؤكده تلك القصة التي نسبت إلى (أرنست هيمنجواي): (للبيع حذاء طفل، لم يرتده أحد) ...

تاريخا وتوجها وتأسيسا. على جملة من الأقوال والتكهنات.

هذا الانتشار الذي أحدثته القصة القصيرة جدا في حضورها وتركيبها وبعدها السردي رغم صغر حجمها: فالوحدة السردية والتكثيف والاندهاش والترميز والبعدية والقصد. هو ما يحرك أبعاد الفعل الحكي، ويقدم مستواه الحكائي.

إن ما يمكن الوقوف عليه، وتكوين التساؤلات حوله فيما يخص أدب القصة القصيرة جدا في سلطنة عمان أمران هما:

التسمية والتأصيل:

إن ما يمكن التكهن به فيما يخصّ هذا النوع السردي المنتمي في أصله إلى تلك الأنواع القصصية المتفاوتة الطويل قصرا وطولا: الرواية والقصة القصيرة. وهذه الأنواع كما هو معروف يعود انتسابها إلى الأدب الغربي وتأصيلها يرجع إلى ذلك العالم الثقافي الكبير. على اعتبار أن ما تحمله القصة القصيرة جدا من خصائص وصفات تؤكده تلك الأعمال، وتنبني عليه قبولا وتقابلا؛ فالانتساب إلى الأصل العربي له ما يحده ويقف ضده على فرضية مفادها: أن هذا النوع -وإن تشابه في تركيبه مع بعض الأعمال السردية القديمة- الطرفة والنادرة والمثل وغيرها، ورغم هذا فقد حملت تلك الأنواع القولية النثرية مسمياتها، وأعطت جوانبها الحكائية: تمثلا وتكوينا في المحتوى والدلالة، وبالتالي؛ فتقابلها مع أدب القصة القصيرة جدا له أبعاده ومدلولاته ومفارقاته.

وأما ما يخصّ التسمية؛ فإن تلك المسميات التي أشكلت على البعض قد استدعت نقاط الاختلاف والتباعد والمسايرة والتشكك.

لقد أخذ الخطاب الحكائي وجهته من خلال عملية السرد. والسرد هو فعل الحكي: أي طريقة حكي الحكاية والوسيلة التي يقوم بها الراوي: بحيث يتمكن من بث الحكي (المروي) مفترضا مرويا له.

«إن الرواية والقصة سواء محكيتان أو مرويتان يمران عبر القناة التالية: الراوي: -القصة- المروي له.

وأن السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة عن طريق القناة نفسها وما تخضع له من مؤثرات بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصة ذاتها»(3).

بينما يمضي بول ريكور في بيان وظيفة السرد السردية «التي هي قابلة للتحول لن يصل إلى حد الموت؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل ما سيؤول إليه حال الثقافة عندما لا يوجد من يعرف أن تروى الأشياء»(4).

«كلّ أدب جديد هو عدائيّ».

من الأمور التي تُثار حول أدب القصة القصيرة جدا هو انتمائها إلى الدرس الغربي؛ فقد مهد القول: إن هذا الأدب منشأه الغرب من خلال بيانات تنساق في هذا المجال. رغبة في التماهي والتوسع والتمكين لهذا الأدب. على اعتبار أن كل شيء يحمل بعدية التفريق والبعدية يقبل به أن يكون تماهيا ليس لشيء إلا لحضوره من جوانب التخلص أو عدم الاهتمام. أو لقلة المباحث ومحدودية المصادر.

ما يمكن ملاحظته أن هذا النوع له ما يقابل جذوره التكوينية في الأدب العربي القديم؛ فالنظرة المكونة في هذا المجال تستوجب مكانة القصة والحكاية في سيرة الأدب العربي منذ القدم. وهو ما يقدمه القدماء في دراستهم وكتبهم ويكفينا ما قاله الجاحظ «إن النثر الذي خلفه العرب يفوق ما خلفوه من الشعر». والعربي بطبعه حكاء في محله وسفره في وحضوره وغيابه: رغبة في التسلية، وتحاورا، وإعطاء فسحة اللقاء والتعارف ووجوب المعرفة والقبول: وهذا ما تؤكده أيضا عبارات من قبيل: «جبت علوم أو أخبار»؟.

لكن ما يمكن قوله إن أدب السرد الحديث بعناصره الجديدة، ومختلف أنواعه: الرواية والسيرة الذاتية والقصة القصيرة ... هذا كله مرجعيته (الأدب الغربي) وقوامه الشكل الواضح والقائم ورغم أن هذا محورا له ما يناقضه وما يقف أمامه. وله تطوره من الفنون القصصية القصة القصيرة والرواية.

في حين يورد معظم الباحثين اسم «ناتالي ساروت» الكاتبة الفرنسية على أنّها أوّل من كتب القصّة القصيرة جدًا عام 1932م، ولكنَّ ثمَّة كتّاب آخرون كتبوا في هذا الفنّ، إلّا أنّهم لم يذكروا مصطلح قصّة قصيرة مباشرة»: وقد وردت أسماء لكتّاب آخرين قبل ساروت بثلاثة عقود أكثر أمثال: أليكس فينون Alex Vinon وإدغار آلن بو Edor Allan poe، ولكنّهم ما أسموا قصصهم بقصص قصيرة جدا، وحتى ساروت نفسها أسمتها (انفعالات،) ولكن فتحي العشري عندما ترجمها في مستهل سبعينيات القرن الماضي أسماها قصصا قصيرة جدّا)، وبذلك تذهب الرّيادة إلى ساروت (5).

أركان وخصائص القصّة القصيرة

يقول الدكتور أحمد جاسم الحسين: إنَّ بناء القصّة القصيرة جدًّا تتألّفُ من أربعة أركان رئيسة هي: «القصصيّة – الجرأة – وحدة الفكر والموضوع – التكثيف»(6). أمّا الدّكتور يوسف حطينيي: فيحدّد عناصر القصّة القصيرة جدّا بـ: «الحكائيّة – الوحدة – التّكثيف – المفارقة – فعليّة الجملة»(7).

تقدم ما تحمله الأيام والأعوام من أجزاء ومكونات عمر القصة القصيرة جدا كنوع حديث ومغاير عن مسار الأدب العربي، فالحديث عن هذا المفهوم حضور ومنافسة ومكانة يستوجب إبعاد التوجه إليه. فتلك الدراسات القليلة التي عبرت إلى هذا النوع السردي قد مررت إسناده في أول أمره إلى المهتمين به. والحوار الحكائي القصير قد صار مرآة لمختلف التوجهات الفنية والإبداعية التي حددت جانبها إيجابا أو سلبا وقد لا تعطي جوانب الفصل أو التحديد قولا فصليا وفعلا ثابتا.

تناول النقد الأدبي خصائص القصة القصيرة جدا تحاورا وتحليلا وتركيزا على سماته الفنية المميزة له بحيث مضى ذلك التأكيد مسايرا ومحققا أهمية القصة القصيرة جدا معترفا بتكوينها وسياقها الحكائي بشكل خاص.

تبدو الأمثلة الناجحة لهذا المجال السردي عالميا وعربيا منساقة والسياق النقدي الذي توجه إليها؛ فكل هذا يمكنه أن يقدم جدية في الحضور مما قد يتناول بالنقد والتحليل.

في تسطير القصة القصيرة جدا

القصة القصيرة جدا، كنوع كتابي محايث تترسم حوله جملة من التساؤلات والتكهنات وهي كما مر على جملة الأعمال السردية الأخرى؛ على اعتبار أن كل نوع جديد، كما يقول يوجين أونيسكو، هو عدائي. «العدائية التي تتناقض مع الأصل، وتقف ضده، ويتوقف عليها المتلقي كثيرا معتبرا إياها خارج حدود معرفته واهتمامه.

يرى الدكتور حسين المناصرة، أنها «الكتابة العليا إلى حد ما في المجال السردي، ... وأن كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية التي تتسع لعالم شاسع من اللغات والأصوات والأحداث، وأصعب من القصة القصيرة التي قد تقبل التطويل والاستطراد والحوارات. أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة لتجربة سردية لا بد وأن يسبقها باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية، مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فن السرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها».

نجد من النماذج الناجحة، يمكنها أن تؤكد وجود هذا النوع من الكتابة، كمحمود شقير وزكريا تامر،

المؤكد في الأمر أن أدب القصة القصيرة جدا قد استدعى حضوره من الأدب الغربي لكننا وفي العديد من الدراسات قد توجهت إلى وجود هذا النوع الأدبي في جذور التراث العربي القديم وله نماذج من كتابات عدة.

ورغم ما يمكن أن يعتري هذا الخط القولي الكثير من الإضمار النقدي القائل بصعوبة تعريف كل فن أدبي ورغم هذا فلا بد أن تكون هناك تكهنات ومسيرات تستوجب القول والذكر:

بعض تلك الأقوال القائلة: «بسهولة الحكي حيث يمضي إلى هدفه بكلمات قصيرة» أو بنية سردية محدودة الكلمات لها خاتمة صادمة، لا تقبل التوضيح.

تفترق القصة القصيرة جدا مع القصة عموما من حيث الطول ومن حيث القصدية الحكائية.

بين القصة والقصة القصيرة جدا جوانب مشتركة من خلال المكونات والعناصر ومن خلال التكوين السردي وتسلسل حدثها وتأزمها.

تقوم القصة /الحكاية. ولكونها في صورتها المكتنزة في حدثها ترتكز على شخصية وفعل وحدث. غارقة في الإيجاز والهدم والمباغتة. والاندهاش:

يقول زكريا تامر في قصة «مختصر ما حدث»:

«حكم على خليل حاوي بالإعدام، فحدَّق إلى السماء متعجبا من لونها الأزرق الذي لم يتحول لونا أسود، وشنق ثلاث مرات، فكان الحبل في كلّ مرة يتمزّق على الرغم من أن جسمه هزيل وعنقه نحيل، ووقف مشدود القامة مغمورا بضياء الشمس بينما كان سبعة رجال يسددون فوهات بنادقهم نحوه، ويطلقون النار عليه، فلا تمسسه أية رصاصة كأنهم كانوا عميانا أو كأنه كان يبعد عنهم أميالا، وقذف إلى نار قادرة على إحراق مدينة بكاملها، وانتظرت عيونهم الشامتة رؤية رماده؛ ولكنه خرج من النار سليما يسعل سعال من دخّن سيجارة من نوع رديء، ولم يجد مهربا من الانتحار حتى يثبت أنه الناجح وهم المخفقون».

وفي كونها قصيرة جدا صفة القصر؛ فالإيحاء هو الهدف أو المقصد الذي ينوي الكاتب الوصول إليه من خلال التركيز على ذلك الحدث. وكانت تلك الوسيلة قد استحضرت القارئ...والشخصية. والنهاية وهو الجانب الأهم في القصة القصيرة جدا؛ لأنها تكون مباغتة أو مدهشة.

يقدم الدكتور إحسان في دراسته للقصة القصيرة جدا في عمان أمثلة تطبيقية حول بعض نماذج القصة القصيرة جدا في عمان؛ فهو في رأيه أنها ليست مستثناة عن غيرها في مختلف الدول العربية السابقة في هذا الشأن. ويذكر بعض النماذج القصصية؛ لبعض الكتّاب العمانيين نذكر مثلا: «قصة هم»: لعبدالعزيز الفارسي: «يضحكون، يلعبون، يحتفلون، أحقا لا ترونهم؟ يملؤون الهواء. ها هم ينظرون إليّ بغضب. يا ويلي، يتقدمون نحوي».

وقصة أخرى «انقلاب»: «ثارت النجوم على استئثاره بالجمال. حاصرته. أسقط القمر، فعلت الأهازيج واستمرت رقصات النصر طويلا. على حين غرة. أطلت الشمس وأحرقت المشهد»

وهي جملة تختص بالسرد الذي يقوم به مبنى الحكاية (8).

«القصة الومضة» (Flash Fiction).

في تلك الصدمة التي يوجهها القارئ هي قيمة نفسية وفنية هي مكونات التواصل والتقبل والحضور بكل جوانب الحكي والمكون في القصة القصيرة جدا له مكانته وقيمته. «العوالم التخيلية هي طفيليات داخل العالم الواقعي»، كما يعبر إيكو.. ولكن هذه الطفيليات البسيطة تسمح لنا بالانغماس في عالم آخر منتهٍ لا يشبه عالمنا الواقعي. وهذا ما يمكننا أن نقوله عن عالم القصة القصيرة جدا: فذلك الجزء الصغير من القول الذي لا يتجاوز عدة كلمات قد يحوي عالما تخيليا لا منتهٍ وليس له حدود، يجعلنا نعيش في متاهة كبرى.

فالمقابلات الفنية التي تصل إلى محاورها بين تكوين الخلق وخروجا عن التوقع، حيث يشكل الحدث بؤرة القصة والمتواليات تبقى في ذهن القارئ. وعليه كانت اكتمال الصورة وملئ الفراغات. وقد رصد التحولات والدلالات. فظهر ذلك من خلال الترميز والإيحاء والتقابل، والتكثيف.

إن التركيب اللغوي والأسلوبي في القصة القصيرة جدا يكون في صورته الجمالية والفنية بحيث تكون اللغة استعارية ومجازية وبلاغية تقوم على جمالية الحذف والتركيب والبناء. والتوقع.

وتمثل «القفلة أو الخاتمة أهم عناصر كتابة القصة القصيرة جدا، فتلك المخاتلة في أنصبة الحكاية تسطح القول للمتلقي؛ فترصد حركته، وعاطفته، وتوضح مجاله وقد وردت أفعاله فيما تبنيه الحكاية (النص) تواصلا مع مكونه الأساس.

ومن هذه القفلة التي كانت موضوعا لدراسة الدكتور سلطان الفزاري حول جمالية تشكيل القفلة في القصة العمانية القصيرة جدا. أقفل هذا الموضوع بعد أن أوجزت نتائجه عن القصة القصيرة جدا في عمان والتي أختار منها الآتي:

1-لم يستقر النقاد والدارسون على تعريف نهائي للقصة القصيرة جدا. وبقي مصطلح القصة القصيرة جدا هو الأكثر دلالة للتعبير عن هذه الكتابة الإبداعية.

2-أن القصة القصيرة جدا تقوم على جملة من الأركان والثوابت المعيارية وهي: القصصية والحجم والدهشة والتكثيف والمفارقة والوحدة والقفلة المتوهجة واللغة الشعرية. (9).

فهرس المصادر والمراجع:

(1) أحمد السماوي، الأدب العربي الحديث، دراسة أجناسية، مركز النشر الجامعي، تونس،2002،ص77.

(2) السابق،ص83.

3ـ حميد لحمداني، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1 ،1991م، ص45.

4-بول ريكور، الزمان والسرد، التصوير في السرد القصصي، ترجمة فلاح رحيم، الجزء الثاني، دار الكتاب الجديد المتحدة، لبنان،2006م، ص60.

5-أوجين يونيسكو 26 نوفمبر 1909-29 مارس 1994 هو مؤلف مسرحي روماني – فرنسي يعد من أبرز مسرحيي مسرح اللامعقول، بالإضافة الى السخرية من عبثية أوضاع الحياة فإن مسرحيات يونسكو تصف وحدة الإنسان وانعدام الغاية في الوجود الإنساني.

6 ـ حطيني، يوسف، نظرية القصة القصيرة جدًا، arabik-microfiction- asociation.blogspot. com إبريل-7-2013

7 ـ حمداوي، جميل، أركان القصة القصيرة جدًا ومكوناتها الداخلية، ملف المرأة والمجتمع الطموحات والقابليات، صحيفة المثقفwww.almothaqad.com..

8-»إحسان صادق التكثيف في القصة القصيرة جدا في سلطنة عمان، جامعة السلطان قابوس،2018، ص83.

9-سلطان الفزاري، جمالية تشكيل القفلة في القصة العمانية القصيرة جدا، دراسة في نماذج مختارة، المجلة العلمية لكلية الآداب، مج 13،ع3 ،2024، ص39.

ثاني جمعة الحمداني كاتب عماني

مقالات مشابهة

  • أردوغان يعيد إحياء معركة الدستور.. ما موقف المعارضة وكيف يبدو المشهد؟
  • مجلس الوحدة الاقتصادية: مصر تشهد عصر نهضة وبناء ونماء وانجازات عظيمة فى عهد الرئيس السيسي
  • بعد الخمسين .. 4 أطعمة تصيب الرجال بأورام البروستاتا
  • كيف نشأت نظريات المؤامرة؟ ما حقيقة دوافعها وكيف نتعامل معها؟
  • الأعلى للثقافة: حكم القضاء لـ سانت كاترين تاريخي
  • فتح باب التقدم والترشح للدورة الرابعة لجائزة التميز الحكومى العربى بأسوان
  • أمين الأعلى للثقافة: المجلس منصة مهمة لدعم الإبداع والتبادل الفكري
  • حسين العبري: ليس من مهام الأدب فهم النفس والمجتمع، بل تغليب الإمتاعي على الوظيفي
  • القصة القصيرة جدًا: إشكالية المفهوم والخصائص
  • فى ذكري ميلاد جورج سيدهم.. ولد ميتًا وتزوّج فى سن الخمسين بعد رفضه للفكرة