أزمة نفسية في إسرائيل.. لماذا يهلع الإسرائيليون ويصمد الفلسطينيون؟
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
لا تزال أصداء "طوفان الأقصى" تتردد بقوة داخل المجتمع الإسرائيلي، فيما يبدو أن أيام الهدنة استطاعت لفت الانتباه إلى الآثار النفسية التي خلّفها هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما أعقبه من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة في الداخل الإسرائيلي، الذي يبدو أنه يعاني من "أزمة نفسية عميقة" لن يكون من السهل تجاوزها.
في هذا السياق، نشرت صحيفة "هآرتس" (1) تقريرا عن مشاهد إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين خلال صفقة التبادل بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، واصفة إياها بـ"التعذيب النفسي الضروري". وأوضحت الصحيفة أن إسرائيل باتت تنقسم كل مساء بين أولئك الذين يقضون المساء يبكون على الأريكة بينما يشاهدون إطلاق شريحة يومية من الأسرى من غزة (لأن أسيرهم المُنتظَر لم يكن منهم)، وآخرين يواسون هؤلاء، قبل أن تتبدل الأدوار في المساء التالي.
بدورها، ذكرت (2) مؤسسة "مكابي للخدمات الصحية" (Maccabi health maintenance organization) أن عدد وصفات المهدئات الطبية والأدوية النفسية الخاصة بعلاج الاكتئاب ومضادات القلق والصدمات ارتفع بنسبة 20% خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023 مقارنة بالشهر الذي يسبقه، فيما صرحت كبيرة أطباء الأمراض النفسية في المؤسسة ذاتها أنه "ليس كل مَن يزور الطبيب سيغادر بالضرورة بوصفة طبية، هناك أولئك الذين يكفيهم مكالمة طمأنينة أو إحالة للعلاج عبر الهاتف، وهناك أيضا أولئك الذين سيُوجَّهون لاستخدام المهدئات الطبيعية"، الأمر الذي يعني أن العدد الفعلي لمَن يمرون بأزمة نفسية في المجتمع الإسرائيلي يفوق كثيرا تلك النسبة المعلنة.
في السياق ذاته أعلنت مؤسسة "كلاليت" (Clalit health services)، وهي أكبر مؤسسة خدمات صحية في دولة الاحتلال وتختص بمعالجة أكثر من نصف الإسرائيليين، أن عدد الوصفات الطبية النفسية ارتفع بنسبة 11% خلال أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقالت المؤسسة إن الزيادة تظهر أوضح ما يكون في مضادات الاكتئاب والهلع والقلق، مثل أدوية: سيتالوبرام وسرترالين وفلوكسيتين، وهي الأدوية المنتمية إلى عائلة "مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية" (SSRI)، فضلا عن أدوية من مجموعة البنزوديازيبين مثل: ألبرازولام وكلونازيبام.
عقدة التفوق.. حين ارتدت خرافة الاحتلال بنتائج عكسية
أحد الافتراضات التي ربما تُلقي الضوء على ما يتعرض له الداخل الإسرائيلي من صدمة نفسية هي نظرية "عقدة التفوق" (Superiority complex)، التي صاغها عالم النفس النمساوي "ألفرد أدلر" في كتابه "فهم الطبيعة البشرية" (Understanding human nature). ويشير "أدلر" إلى عقدة التفوق باعتبارها سلوكا يعتقد خلاله الشخص تفوقه على الآخرين، وغالبا ما يكون لدى الأشخاص الذين يعانون من تلك العقدة مواقف متفاخرة واستعلائية تجاه محيطهم. ويوضح "أدلر" أن تلك العقدة في الحقيقة تُعد آلية دفاع ضد مشاعر النقص والشعور بتدني الذات، إذ يرى ارتباطا وثيقا بين عقدة التفوق وعقدة النقص، وأن الشخص الذي يتصرف بشكل يوحي بالتفوق على الآخرين ويعتبرهم أقل جدارة يحاول بالأساس التكتم على شعوره بالنقص.
فرضية "أدلر" تنطبق بشكل كبير على الجماعات -ومنها الكيان الصهيوني- كما تنطبق على الأفراد، إذ تنبع عقدة التفوق لدى الإسرائيليين من شعارات ومفردات لاهوتية مثل "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد" (3)، وتتسق مع ادعاءات دولة الاحتلال الحالية المتعلقة بتفوقها في المجالات كافة على دول الجوار، وتقديم ذاتها باعتبارها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فيما يقبع في الذاكرة اليهودية تاريخ طويل من الشعور بالاضطهاد وأحاديث الشتات، وهي الأمور التي تروجها الآلة الإعلامية الصهيونية في سبيل اكتساب التعاطف والدعم الغربي، إلا أنها كذلك كفيلة بتوليد أحاسيس الدونية والنقص في لا وعي الأفراد.
يشير المستشار النفسي "مايكل شراينر" (4) إلى أن المعرفة تُعَدُّ شيئا خطيرا بالنسبة لأولئك المصابين بعقدة التفوق، لأنها تسمح بتسلل مشاعر الدونية إلى الوعي الجمعي. وبالإمكان النظر إلى يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول باعتباره نوعا إجباريا من المعرفة لإسرائيل، إذ نجح هجوم المقاومة الفلسطينية في كشف الغطاء عن وهم التفوق الإسرائيلي على الشرق العربي (5)، وأزال ما كانت تتشدق به من تصديرها مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان واتفاقات السلام وقواعد الحرب، مثلما أصاب الداخل الإسرائيلي بحالة ذعر وفقدان اطمئنان، تجلَّت في استدعاء وسائل الإعلام الإسرائيلية نبوءة العقد الثامن (6) التي تتنبأ بزوال الدولة العبرية، مما يشير إلى مدى التشاؤم والقلق الذي أصاب الداخل المحتل.
يعكس هذا التشاؤم الجمعي بوضوح تدهور الحالة النفسية على مستوى الأفراد، الأمر الذي تؤكده بيانات مؤسسة "ناتال" (Natal) الإسرائيلية المتخصصة في مجال علاج الصدمات النفسية (7)، إذ أفادت عالمة الاجتماع "نيرا كابلانسكي"، المشرفة على الخط الساخن في المؤسسة، أن المكالمات التي تطلب الدعم النفسي زادت من 25 مكالمة يوميا إلى نحو 1200 في اليوم، كما اضطرت المؤسسة إلى تدريب المزيد من المتطوعين لاستيعاب الكم الهائل من الاستشارات النفسية التي ترد عبر الإنترنت.
شعب محروث لبذور الخوف
"العالم لديه العديد من الصور لإسرائيل، لكن إسرائيل لديها صورة واحدة فقط لنفسها: صورة شعب في طريقه إلى الزوال".
الفيلسوف اليهودي شمعون رافيدوفيتش
الصورة التشاؤمية في استدعاء نبوءة الزوال تُعَدُّ جزءا من مشاعر الخوف المتجذرة داخل المجتمع الإسرائيلي، فيما يسلط الخوف الدائم لدى اليهود من "الإبادة الجماعية" الضوء على الكيفية التي تنظر بها إسرائيل إلى العالم، وكيف ترد على التهديد وتُفضِّل الحلول العنيفة (8) مثلما نرى في عدوانها الوحشي على قطاع غزة. ويطرح الأكاديمي الإسرائيلي "دانيال بار تال" (9) تساؤلا عن سبب تفوق الخوف على الأمل داخل المجتمع الإسرائيلي، ويرى "تال" أن عاطفة الخوف مستمدة غالبا من الماضي المحفوظ "في إشارة إلى المنابع التوراتية وروايات الاضطهاد"، الأمر الذي يؤدي إلى ما يُعرِّفه بـ"العدوان الوقائي، وهو الشيء الذي يقوم به الاحتلال بين الفينة والأخرى حين يقصف الفلسطينيين". ويشير "تال" إلى أن الأمل في المقابل يتطلب نشاطا معرفيا وأفكارا جديدة، وهو الأمر الذي يعوقه التدخل التلقائي وغير الواعي للخوف، لأن الروابط من النظام العاطفي (حيث يتمركز الخوف) إلى النظام المعرفي أقوى من تلك الموجودة في الاتجاه المعاكس.
ويتطرق "تال" إلى نقطة مثيرة للاهتمام في الأدب الإسرائيلي الذي حوّل الإنسان العربي إلى كابوس شرير، مما يسمح للقارئ أن يُسقط عليه مخاوفه ورعبه. والأدهى أن حضور الفرد العربي أيضا في كتب الأطفال منذ الخمسينيات إلى أوائل الثمانينيات في القرن الماضي، وفق رؤية "تال"، اتسم بتجريده من إنسانيته واعتباره كيانا يُمثِّل تهديدا، الأمر الذي يكشف عن منهجية غرس الخوف بشكل مبكر لدى الصغار، وفيما بعد يظل الخوف ذاته ملازما هؤلاء الصغار في مراحلهم العمرية المختلفة من خلال وسائل الإعلام. ويوجه "تال" اتهاما إلى الصحافة الإسرائيلية، إذ يرى أنها ساهمت في تطور الخوف الجماعي وانتشار عقلية الحصار من خلال الإشارة بشكل متكرر إلى عالم مُعادٍ للسامية ولإسرائيل. ومن خلال سياق التخويف المستشري هذا يمكن أن نفهم أسباب الهشاشة النفسية الملحوظة التي تضرب الداخل الإسرائيلي منذ بدء "طوفان الأقصى".
فلسطين والمرونة النفسية.. دعوة للتأمل دون مبالغة
على الجانب الآخر، يحضر الصمود النفسي الفلسطيني بشكل مثير للدهشة منذ نكبة 1948، وتؤكد ورقة بحثية بعنوان "البيئة الاجتماعية للمرونة والصمود لدى الفلسطينيين" (10) أن الصمود فكرة فلسطينية متشابكة على المستويين الشخصي والجماعي، وهي تشير إلى طرق البقاء على قيد الحياة في سياق الاحتلال والمحن المزمنة ونقص الموارد ومحدودية البنية التحتية. ويلفت البحث الانتباه إلى أن جذور المرونة النفسية في التاريخ العربي تبدأ من سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- باعتباره القدوة في المرونة النفسية، فيما تأسست الفكرة بشكل واعٍ عبر آراء العالم العربي "أبي زيد البلخي" في القرن العاشر الميلادي، من خلال كتابه "مصالح الأبدان والأنفس". ويُعَدُّ "البلخي" أول مَن تكلم في مفاهيم الصحة العقلية والسلامة النفسية في علم النفس الإسلامي، واقترح إستراتيجيات للتعامل مع محن الحياة. أما في العصر الحديث، تجدر الإشارة إلى تركيز منظمة التحرير الفلسطينية عام 1978 على فكرة الصمود من أجل منع سياسة الاقتلاع التي يمارسها الاحتلال، مما انعكس على حضور الصمود بوصفه مفهوما وإستراتيجية وطنية أساسية لدى الفلسطينيين.
وترصد دراسة أخرى نُشرت عام 2006 (11) أهمية الرؤية الروحانية وارتباطها بتعزيز المرونة النفسية لدى الشباب الفلسطيني، إذ أكدت عينة من 114 شابا وشابة من الفلسطينيين، تراوحت أعمارهم بين 16-21 عاما، أن المعتقدات الدينية تُمثِّل مصدر قوة بالنسبة إليهم، كما أوضح الشباب أن تجاربهم في مواجهة الشدائد شكَّلت صمودهم. وتذكر الدراسة أن هؤلاء الشباب كانوا مختلفين بشكل كبير عن الشباب الآخرين الذين شملتهم الدراسة، حيث إنهم لم يستخدموا ضمير "أنا"، بل أشاروا إلى المجتمع بأكمله عندما أشاروا إلى هويتهم باستخدام عبارة "نحن فلسطينيون".
وتؤكد "ريتا جقمان"، أستاذة الصحة العامة في معهد الصحة المجتمعية والعامة في جامعة بيرزيت (12)، أن روح الترابط هذه تحضر بقوة في السياق الفلسطيني، وتفسر ذلك الأمر بأن التعرض للعنف المزمن تجربة مشتركة، ما ساهم في تبادل الدعم بين الفلسطينيين، وهو ما يمنح الناس شعور التعافي. وتقول "جقمان" إن أهل فلسطين ليسوا معزولين أو متناثرين، فالصغار والكبار على حدٍّ سواء محاطون بشبكات من العلاقات الداعمة مع الأسر والجيران، التي تساعد أيضا في الوصول إلى مجموعة من الموارد تجعلهم قادرين على تحمل الانتهاكات ومقاومتها وإعادة تشكيل الحياة اليومية، وهي سِمَة أخرى للقدرة على التحمل والمقاومة. غير أن "جقمان" تلفت الانتباه إلى نقطة محورية، وتقول إن المبالغة في تقدير صمود الفلسطينيين يُستخدم أحيانا وسيلةً لتجنب الاعتراف بالظلم الفادح الذي يقع عليهم. فإذا ما كانت المرونة النفسية والصمود فكرة فلسطينية متميزة للغاية، وتُمثِّل طريقا من أجل البقاء والازدهار في الوطن رغم المشقة وفي ظل ممارسات الاحتلال (13)، فلا يجب الارتكان إليها وتناسي الحاجة إلى حل عادل بدعم إنساني ودولي.
—————————————————————–
المصادر:1) صحيفة هآرتس، 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 "For Israelis, the Hamas hostage release are necessary nightly psychological torture”
2) صحيفة هآرتس، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 "Use of Anti-anxiety Medicine Soars in Israel Amid War With Hamas in Gaza Strip"
3) An analysis of Israeli mentality, new age, Nov. 2023.
4) Feelings Of Superiority and Neurosis, Maichael schreiner, evolution counseling, Aug. 2015.
5) "طوفان" يكشف كذبة إسرائيل الخارقة والغرب الديمقراطي، مركز الدراسات الفلسطينية، 28 أكتوبر /تشرين أول 2023.
6) لعنة العقد الثامن والنبوءات.. هل نحن على مشارف زوال إسرائيل؟، موقع الجزيرة، نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
7) The Middle East crisis is stirring up a ‘tsunami’ of mental health woes, NPR, 25 Oct. 2023.
8) An ever-dying people: The existential underpinnings of Israelis’ perceptions of war and conflict, 2010.
9) Why Does Fear Override Hope in Societies Engulfed by Intractable Conflict, as It Does in the Israeli Society, Daniel Bar-Tal.
10) Social ecology of resilience and Sumud of Palestinians, Mohammad Marie, Ben Hannigan and Aled Jones, Jan 2018.
11) Resilience across Cultures, Michael Ungar, Feb. 2008.
12) Reflections on the meaning of ‘resilience’ in the Palestinian context, Rita Giacaman, 2020.
13) Teeffelen T, Bitar H, Al-Habash S (2005) Resilience in the Palestinian occupied territories
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المجتمع الإسرائیلی أکتوبر تشرین الأول الداخل الإسرائیلی الأمر الذی نفسیة فی من خلال
إقرأ أيضاً:
لماذا لم تنتصر إسرائيل رغم تفوقها؟
بعد ما يقرب من العامَين من الحرب على غزة والمنطقة، أظهرت "إسرائيل" تفوقًا ملحوظًا في المجالَين: العسكري، والأمني، مع دعم شبه مطلق من الولايات المتحدة، ما مكّنها من إنزال خسائر كبيرة بكل أعدائها، لكن ذلك لم يمنحها فرصة إعلان نصر واضح أو حاسم.
التفوق الساحقمنذ اللحظة الأولى، قررت دولة الاحتلال طي صفحة عملية طوفان الأقصى بكل تأثيراتها السلبية عليها والإيجابية لأعدائها، ضمن سياسة "كيّ الوعي" وفرض نسيان ما حصل يومها من انتكاسة كبيرة لها على كافة المستويات.
كما ترسخت القناعة بالخطر الوجودي على دولة الاحتلال، ما فرض عليها تغيير تعاملها مع التهديدات التي تواجهها في المنطقة، إضافة إلى الرغبة في استعادة ثقة الجبهة الداخلية بالدولة والمؤسسة العسكرية والحكومة، فضلًا عن كون ما حصل فرصة غير مسبوقة لفرض وقائع ومسارات جديدة على المنطقة في إطار "تغيير خرائط الشرق الأوسط"، والتي كانت خطة معدة مسبقًا وُضعت في إطار التنفيذ.
تفاعل كل ما سبق ليولّد "إسرائيل" جديدة، في ذروة العدوان والوحشية والدموية، بنظرية أمنية مختلفة، لا تنتظر حصول التهديد لتتعامل معه احتواءً أو إدارةً أو إفناءً، وإنما تسعى لمنع نشوئه، ومواجهة هذا الاحتمال/ الإمكانية بالقوة الغاشمة وبأقصى دموية ممكنة، بشكل متعمد، كبديل عن معادلة الردع التي تداعت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تبلور ذلك إبادةً جماعيةً في غزة، ذهب ضحيتها عشرات آلاف الشهداء، وأكثر منهم من الجرحى والمصابين، ونزوح معظم سكان القطاع، وتدمير شبه كامل لمؤسساته وبنيته التحتية، وخسائر كبيرة للمقاومة الفلسطينية في العتاد والرجال، وفي القطاعات العسكرية والسياسية والحكومية.
وسعيًا للضغط بالقوة القصوى على المقاومة في المفاوضات، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا، وتجويعًا غير مسبوق، وتهجيرًا مستمرًّا لسكان القطاع؛ تمهيدًا لمشروع تهجير شامل إن استطاع. كل ذلك بغطاء أميركي كامل ساهم في قدرة "إسرائيل" على التعامل مع الضغوط الدولية.
إعلانوفي لبنان، شنّت دولة الاحتلال حربًا ساحقة على حزب الله؛ بغية تدميره واجتثاثه، من خلال عمليات "البيجر" والاتصالات، ثم سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية وأمنية وسياسية وازنة، على رأسها أمينه العام السابق حسن نصر الله، بكل ما يمثله من ثقل ورمزية وقدرات قيادية.
وترافق ذلك مع مئات الغارات التي استهدفت أسلحته وصواريخه الإستراتيجية، وتبعها توقيع الاتفاق المجحف لوقف إطلاق النار، وإطلاق يد "إسرائيل" في لبنان قصفًا وتوغّلًا واغتيالًا، مع ضغط الجبهة الداخلية اللبنانية لتسليم سلاح الحزب. كما لا يمكن تجاهل آثار تغيير النظام في سوريا على خطوط إمداد الحزب وقدرته على التعافي.
وفي إيران، وجّهت "إسرائيل" لها خلال "حرب الـ12 يومًا" ضربات موجعة، بالاغتيالات، واستباحة الأجواء، وتدمير منظومات الدفاع الجوي، وصولًا لاستهداف المنشآت النووية بالقصف الأميركي المنسق معها.
كما استهدفت قوات الاحتلال اليمن مرات عديدة، مُوقعة خسائر فادحة في ميناء الحُديدة ذي الأهمية الإستراتيجية، فضلًا عن غارات جوية مستمرة، ومحاولات الاغتيال.
وفي سوريا، ورغم غياب أي تهديد حقيقي لها، أعلنت "إسرائيل" إلغاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، واحتلت مساحات جديدة، وسيطرت على مصادر المياه، وقصفت قرب القصر الرئاسي، وهددت باغتيال الرئيس أحمد الشرع، وأعلنت جهارًا دعم الأقليات، وهددت بتقسيم البلاد، وفرضت واقعًا جديدًا في السويداء تفاوض دمشق بخصوصه، فضلًا عن تدمير معظم الأسلحة وقدرات الدولة السورية.
لا انتصارَ ساحقًايعطي كل ما سبق انطباعًا بأن "إسرائيل" هزمت كل أعدائها، بل وخصومها المحتملين مستقبلًا، وحقّقت الانتصار الكامل الذي طالما وعد به نتنياهو، وأنها أعادت فعلًا رسم خرائط المنطقة بالقوة والنار، على ما تبجّح به الأخير.
والحقيقة أن هذا ليس مجرد انطباع خاطئ وحسب، بل هو إيحاء تعمل على ترسيخه البروباغندا "الإسرائيلية"، لتخدم أهدافًا داخلية وخارجية على حد سواء.
في غزة، بؤرة الحرب الرئيسة والجبهة التي أذلّت الاحتلال يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وهزّت دعائم نظريته الأمنية وتفوّقه الاستخباري والعسكري، في تلك الجبهة المحاصَرة تمامًا والمفتقدة للدعم الخارجي بالكامل، تكيّفت المقاومة بقيادة كتائب القسام بنيويًا ومؤسسيًا وميدانيًا بحيث ما زالت تُنازل الاحتلال رغم ضخامة الخسائر التي تعرضت لها.
أثبتت الكتائب قدرتها على استنزاف العدو وإيقاع خسائر كبيرة فيه، بل وطوّرت عملها لمحاولة أسر جنود إضافيين في المعركة. وما زالت المقاومة ممسكة بورقة الأسرى، والتي هي ورقتها الأقوى في مسار التفاوض، الذي يؤكد بدوره أنها ما زالت عصية على الهزيمة والانْسحاق، بما يفرض على الطرف الآخر التفاوض معها حتى اللحظة.
وفي لبنان، ورغم الخسائر صعبة التعويض، لم ينكسر حزب الله ولم يستسلم، ورغم مرونته الكبيرة- والمستغرَبة- في موضوع السلاح جنوب نهر الليطاني، حيث تتحدث التقارير عن مصادرة معظم سلاحه هناك، فإنه بعيد جدًّا عن فكرة تسليم السلاح، وما زال الرئيس جوزيف عون مصرًّا على سيناريو الحوار الداخلي بهذا الخصوص وليس المواجهة.
إعلانكما ارتفعت وتيرة تصريحات الحزب مؤخرًا، بما في ذلك تصريح أمينه العام نعيم قاسم، بأنه يتعافى ورمّم الكثير من خسائره، وبات "مستعدًّا للمواجهة" إن اضطر لها.
كما أن إيران استوعبت الصدمة الأولى وخاضت حرب استنزاف لاحقة، مستهدفة- كما كشفت تقارير لاحقة- الجبهة الداخلية "الإسرائيلية"، وبعض المواقع الحساسة بدقة فاقت التوقعات.
كما فرضت صواريخها معادلات ردع جديدة دفعت نتنياهو للدعوة إلى وقف إطلاق النار بعد الضربة الأميركية للمنشآت النووية، وهذا- من البديهي- ليس موقف مَن حقق انتصارًا كاسحًا.
كما أنه ليس من المعروف حتى اللحظة مدى الضرر الذي تعرض له المشروع النووي، بل تشير معظم التقديرات إلى عدم تدميره بالكامل، ما يعني إمكانية استعادته النشاط، وبشكل أسرع ربما، إن توفرت إرادة سياسية لذلك.
ولعل اليمن أقل الجبهات التي تعرضت لضربات "إسرائيلية" كبيرة، وهي- للمفارقة- الجبهة التي ما زالت على نشاطها وفاعليتها، مع سقف خطاب أعلى بكثير اليوم، وبوعيد بتصعيد الاشتباك مع الاحتلال؛ بسبب حرب التجويع لأهل غزة.
والخلاصة..يتيح التفوق العسكري والاستخباري الكبير لدولة الاحتلال، والذي بنته لها الولايات المتحدة الأميركية على مدى عقود، وانخراط الأخيرة بشكل واسع في الحرب دعمًا وغطاءً ومشاركة فعلية (كما حصل في إيران وجبهات أخرى)، يتيح لها توجيه ضربات قاسية لأعدائها، بما يشمل الدمار الكبير، والاغتيالات الوازنة، والاختراقات العميقة، وبما يتسبب بخسائر بشرية كبيرة جدًّا، ولا سيما في غزة.
لكن كل ذلك لم يمكّنها من تحقيق الانتصار، ولا حتى ادعائه.
تحاول دولة الاحتلال أن تُصوّر الخسائر الكبيرة التي تسببت بها على أنها النتيجة النهائية للحرب، ويتساوق معها البعض أحيانًا، إما جهلًا بالوقائع، أو تحت ضغط الأزمة الإنسانية الخانقة، أو بسبب أجندات سياسية معروفة.
لكن ذلك غير دقيق بالمرة، ليس تقليلًا من شأن الإنسان، شهيدًا وأسيرًا ومصابًا ومهجّرًا ومجوَّعًا، ولا تقزيمًا من قدرات "إسرائيل" وأثر الدعم الذي تحظى به، ولكن لأن ذلك جزء من تقييم المعركة/الحرب، وليس نتيجتها النهائية.
لقد فصّلنا في مقالات سابقة العوامل التي تُقيّم نتائج الحروب على أساسها، والتي منها بالتأكيد الخسائر البشرية والمادية، ولكنها ليست الوحيدة، وفي أحيانٍ كثيرة ليست الأولى، فكم من دولة قدّمت خسائر أكبر بكثير من عدوّها ولكن انتصرت عليه في النهاية.
فإذا كان ذلك حال الدول، فحركات التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال أولى وأجدر. فضلًا عن أن المبالغة في الوحشية مع المدنيين مقصودة لذاتها من قبل "إسرائيل"، ما يدفع للحذر من الوقوع في فخ التقييم الذي تنصبه.
كل ذلك في حال وُضعت الحرب أوزارها واتضحت نتائجها بشكل كامل، فما بالنا والحرب مستمرة، وهي- بالمعنى الأشمل- طويلة الأمد، قد تقف مؤقتًا، لكن مسارها ومفاعيلها مرشحة دائمًا للانفجار والتوسع، ولا سيما في ظل النوايا المعلنة لنتنياهو وشركائه؟
والإشارة الأخيرة، أنه كلما أظهر طرف من الأطراف مرونة كبيرة وسعيًا ملحوظًا لوقف الحرب، تَصَلَّب الموقف "الإسرائيلي" أكثر، وبات أكثر عدوانية ودموية. وقد تكرر الأمر في غزة، ولبنان، وسوريا، وإيران.
أخيرًا، ما زالت نتائج عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قائمة، لم تُمحَ ولم تُنسَ، وسيُبنى عليها.
وأما تفاعلاتها ومآلاتها طويلة الأمد، فما زالت لم تتبلور جميعها بشكل واضح وكامل.
قد نكون اليوم أمام نصف الساعة الأخير من الجولة الحالية من الحرب، وقد نكون أمام جولة ممتدة، لذلك فالمنطق المُجدي تركيزُ كافة الجهود لتعزيز أوراق القوة، وزيادة الضغط على "إسرائيل"، وليس العكس.
فالمطلوب حاليًّا الصمود وتعزيز الموقف، وإلّا تحوّلت الأزمة الإنسانية التي تسبب بها الاحتلال إلى انتصار إستراتيجي له، وهذا ما ينبغي منعه.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline