قبل أيام نشرت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، إعلانا تدعو فيه الشعراء العمانيين الذين كتبوا في «طوفان الأقصى» والحرب على قطاع غزة، أن يرسلوا نصوصهم الشعرية إلى الجمعية، لنشرها في كتاب، تضامنا مع الشعب الفلسطيني، وهذا النداء ذكرني بكتابين سابقين، جَمَعا نماذج من كتابات الشعراء العُمانيين، وتفاعلهم الشعري وتعاطفهم الوجداني، مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، «انتفاضة الأقصى» التي اندلعت في سبتمبر عام 2000م، والكتابان الشعريان هما: «محمد الدرَّة.

. مختارات شعرية»، جمعها وأعدها وصنفها الأديب عبدالله بن أحمد الحارثي، و«صرخة الأقصى الجريح»، أعدته وجمعت نصوصه وقصائده الكاتبة تركية البوسعيدية، وكلاهما صدرا في عام 2001م.

في كتابه «محمد الدرة»، يجمع الباحث الأديب عبدالله الحارثي مختارات شعرية، كتبت في الطفل الدرة، وارتقاءه إلى مصاف الشهداء، ليصبح الدرة كاسمه، درة فلسطين، لفظتها الأقدار من شاطئها الطفولي، ليصبح رمزا للتضحية والفداء، وذاع صيته وانتشر خبره في كل بقاع العالم، فقد تناقلت وسائل الإعلام خبر مقتله المباشر أمام عدسة التصوير، وكُتبت فيه الكثير من قصائد الرِّثاء، وما يزال مشهد التحام الطفل بأبيه، وهما يحتميان بظل جدار في غزة، ويحاولان اتقاء سيل الرصاص المنهمر عليهما، ماثلا في ذاكرة كل من تابع ذلك المشهد التلفزيوني، كان الأب يحاول أن يستغيث، ويلوِّح بيده على جنود الاحتلال، حتى لا يطلقوا النار عليه، فيما يده الأخرى تمسك بالطفل، وقد ظهر يصرخ مرعوبًا، لكن الطغيان لا يعرف أخلاق التودد، ولا ينجد المستغيث، فأصابت الطفل رصاصة أودت به صَريعا، يصف المشهد محمود درويش في قصيدة مشبعة بالألم، عنوانها: «محمد»، ضمن نصوص الكتاب، يقول:

محمد،

يُعشِّش في حُضْن والده طائرًا خائفًا

مِن جَحيم المَسَاءِ

احمِني يا أبي،

من الطيران إلى فوق،

إنَّ جناحِي صَغيرٌ على الرِّيح

والضَّوءُ أسْوَد.

محمَّد

يريدُ الرُّجُوعَ إلى البَيْتِ،

مِنْ دُوْنِ دَرَّاجَةٍ

أو قمِيصٍ جَدِيدٍ

يُريدُ الذَّهابَ إلى المَقعَدِ المَدْرَسِيِّ

إلى دَفتَرِ الصَّرْفِ وَالنَّحْوِ

خُذنِي إلى بَيتِنا يا أبِي

كَيْ أعِدَّ دُرَوسِي

وأكمِلَ عُمْرِي رُوَيْدًا رُوَيْدا

على شاطِئ البَحْرِ

تحْتَ النَّخِيلِ

ولا شَيْءَ أبْعَد، لا شَيْءَ أبْعَد.

تسجيل حي مروع تابعه العالم، نقلته عدسة مصور فرنسي كان متواجدا لحظة إطلاق النار، ولولا هذا التصوير لما كان لمقتل الطفل أي ذكر أو تأثير، وبعد حادثة استشهاد الطفل الغزاوي في الثلاثين من سبتمبر عام 2000م، تبعه آلاف الشهداء، فالمجازر ما تزال قائمة، تذكِّر بذلك الطفل الدرَّة، وبآلاف الأطفال، الذين هم رموز للصمود، وإن لم يعرفهم أحد.

كتاب محمد الدرة للباحث عبدالله الحارثي، يجمع 144 قصيدة، ويفتتحه بنص شعري كتبه في محمد الدرة، بمثابة أنشودة رقيقة نابعة من انفعاله كشاعر بمشهد استشهاد الطفل:

إليكَ إليكَ يا دُرَّة،

أقدِّمُ أجْمَلَ الدرِّ،

جَمَعتُ مُحَارهُ من عُمْقِ

بَحرٍ غائِرِ القُعْر.

كتب الحارثي تقديمًا تناول فيه تفاصيل الأحداث الثقافية التي كانت تقام في أيام اندلاع الانتفاضة، حينها كانت مدينة صحار على موعد مع الدورة الثانية من «مهرجان الشِّعر العماني»، بمشاركة مائة شاعر من العمانيين، في مساء ذلك اليوم بثت قنوات التلفزة مشهد استشهاد الدرة، فكانت فاجعة وسابقة لم يعتد عليها المشاهد، مع أن قتل الأطفال يتكرر كثيرًا، ويعرفه أهل فلسطين.

يتحدث الحارثي في تقديمه عن التماع فكرة الكتاب، وعن القصائد التي كتبت بعد ذلك في رثاء الطفل الدرَّة من الشعراء العرب، وحث أصدقائه على جمع القصائد التي تكتب في الدرة، حتى تيسرت له مجموعة منها، كتبها شعراء من عمان ودول الخليج والوطن العربي، فجاء الكتاب أشبه بمهرجان كبير، حشد كبار الشعراء، كتبوا قصائد ونصوص رثائية في هذا الطفل الذي أصبح رمزا.

وما يميز كتاب محمد الدرة لعبدالله الحارثي، هو جمعه لأهم النصوص والقصائد العمانية والعربية التي قيلت في الطفل الشهيد الدرة، ولم يقتصر فقط على الشعر الفصيح، بل كان للشعراء الشعبيين حضور فيه، كما يتضمن الكتاب مجموعة مختارة من الرسومات واللوحات لفنانين تشكيليين عمانيين، زينت صفحات الكتاب.

من الشعراء العمانيين المشاركين في الكتاب بنصوص رقيقة، قصيدة لناصر بن سليمان السابعي، وهو غنائية في بنيتها اللغوية، وإيقاعها العروضي يهيئها أن تكون نشيدًا:

يا عَصَافيرُ صَباحِي غَرِّدِي

يا أزاهيرُ عُهُودي وَرِّدِي

واعزفي يا أمُّ في عُرْسِ النَّوَى

لحْنَ شَوْقٍ أبَدِيٍ زَغرِدِي

عِندَما يَنتفِضُ الصُّبْحُ على

نغمَةِ الشادِي ولحْنِ المُنشِدِ

أما تجربة الكاتبة تركية البوسعيدية، فهي مماثلة للسابقة، زينت غلاف كتابها لوحة للتشكيلي والنحات الراحل: أيوب بن ملنج البلوشي (ت:2018م)، وجمعت في كتابها 27 قصيدة من شعراء عمانيين، كتبوا في الدرَّة والأقصى وفلسطين، خرج الكتاب بعنوان: «صَرخة الأقصَى الجَريح»، وهو صرخة شعرية من شعراء عمانيين، تنوعت فيه القصائد بين المقفاة والمرسلة، من بينهم: اليقظان بن طالب الهنائي (ت: 2001م)، الذي شارك بقصيدة «كتائب الدرَّة»:

وَظنَنتُ أنكَ يا محَمَّد

في الطريقِ بجَانِبي

وَحَسِبتُ أنكَ

مَنْ يُهوِّنُ

في الزَّمان مَصَاعِبي

فأرَحْتُ عند صَباحِ خَطوِكَ

ليلَ كلِّ مَتاعِبي

ولبِثتُ أرْقبُ في انتشائِكَ

كلَّ عُمْري الغائِبِ.

وهناك قصيدة أخرى للشاعر حسن المطروشي، مطلعها:

قادِمُونَ غَدًا لاقتِسَامِ الوُرُود.

قادِمُونَ طيُورَ أذانٍ،

كأنَّ مَسِيحًا يَعُود.

وقصيدة للشاعرة د. سعيدة بنت خاطر الفارسية:

شكرا شارُون ولا تأسَفْ

أغرَيْتَ رِياحِي كيْ تعْصِفْ

صَمَتَتْ تسْتافُ هَزائِمِها

وتِلال الحُزنِ لها مِعطف.

وقصيدة أخرى للشاعرة مريم الساعدي، تقول:

إلى محمد

كم تشتَهيكَ أنامِلُ كفِّي

تبارَكَ فيكَ الرُّجُولة

ومَعنَى البَطولة

وَعَزْمًا تجَلَّى

يُزيِّنُ قبرَك بالكبرِياء.

وقصيدة أخرى لأمل القاسمي منها هذا النص:

أرْضُ فلسطين

يا نبْضَ العِرْقِ الصَّامِدِ بينَ عُروقٍ ماتَتْ

مِنْ دُون حَيَاء

شُهَداؤكِ كانوا جِزْعَة أنْوارٍ ودِمَاء.

وقصيدة للشاعر هلال بن محمد العامري (ت: 2022م):

سَجَى الطفلُ بينَ النَّدَى والدِّمَاء

فوْقَ لهيبِ السُّفُوحِ

على قارِعاتِ المَدَى،

والحُزنُ أرْجُوحَةٌ

في مَهَبِّ الحِجَارَة

والوَقتُ مِقصَلة الليل..

في تقديمها كتبت تركية البوسعيدية: عن موقف سلطنة عمان إزاء ما حدث، وإغلاق مكتب «التمثيل التجاري الإسرائيلي» بمسقط، ونظيره في تل أبيب، وأشارت إلى جموع المتظاهرين الذين ملؤا الشوارع، استنكارًا لما يحدث في فلسطين من تنكيل وتخريب.

واليوم حين ننظر إلى كلا التجربتين، ونقرأ النصوص الشعرية في الكتابين، يعود بنا الخيال إلى 23 عامًا ماضية، هي المدة الزمنية التي تفصل بين «انتفاضة الأقصى» في سبتمبر عام 2000م، و«طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر هذا العام، وبين الزمنين جيل شد أزره، كانوا أطفالًا فأصبحوا رجالًا، وجيل آخر كانوا شبابًا وأصبحوا كهولًا، وجيل آخر انتقل إلى العالم الآخر، وغزة فلسطين عروسٌ لا تكبر.

ترى ماذا ستكتب أقلام الشعراء والأدباء عن هذا الطغيان، وبم تجيش القرائح عن «طوفان الأقصى»؟!، وأنهار الدم التي تسيل، حتى أصبحت غزة مقبرة، ومدينة أشباح، تهاوت فيها البيوت والمجمعات السكنية والمستشفيات، هل ستأتي قصائد الشعراء أكثر بلاغة من أحزان أمهات ثكلى على فلذات الأكباد، ولا يزال أعداد الضحايا تتكاثر.

أما جمال الدرِّة والد الطفل الشهيد محمد، فقد رأيناه قبل أيام في مقطع متحرك، جاثمًا أمام جثامين أخوته الذين فقدهم، جرَّاء القصف الإسرائيلي الجائر على غزة، وكأنه يستعيد المشهد من جديد، مشهد استشهاد ابنه قبل 23 عامًا، واستشهاد إخوته في الأيام الأولى من اندلاع الحرب على غزة، ولكنه ظهر منهكًا، وقد رَسَمَت التجاعيد على وجهه خارطة الشقاء.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: محمد الدرة ل الدر

إقرأ أيضاً:

فاتن حمامة.. سيدة الشاشة التي صنعت مجد السينما المصرية وقلوب الجماهير لا تزال تنبض باسمها

في كل عام ومع حلول 27 مايو، تتجدد ذكرى ميلاد الفنانة القديرة فاتن حمامة، التي لم تكن مجرد نجمة لامعة في سماء الفن، بل كانت حالة فريدة من النقاء الفني والوعي الاجتماعي والذكاء الإنساني، لم تُعرف فقط بجمال ملامحها، بل بعُمق أدوارها وحرصها على تقديم فن نظيف وهادف يعبّر عن واقع المجتمع المصري ويُلامس قضاياه الحساسة ورغم مرور سنوات على رحيلها، لا تزال فاتن حمامة حاضرة في قلوب الملايين وأذهانهم، رمزًا للأنوثة الراقية والموهبة النادرة والالتزام القيمي.

النشأة.. بداية موهبة مبكرة

 

ولدت فاتن حمامة في 27 مايو 1931 في مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، وسط أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة، حيث كان والدها يعمل موظفًا في وزارة التعليم. 

 

منذ طفولتها، بدت عليها ملامح النجومية؛ فقد شاركت في مسابقة لجمال الأطفال وفازت بها، مما لفت أنظار المخرج الكبير محمد كريم، الذي قدمها لأول مرة في فيلم "يوم سعيد" عام 1940 إلى جانب الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكانت لم تتجاوز التاسعة من عمرها. ومن هنا بدأت رحلة الصعود، التي ستجعل من هذه الطفلة واحدة من أعظم الفنانات في تاريخ السينما العربية.

مسيرة فنية امتدت لعقود.. رقي وأداء بلا حدود

 

طوال أكثر من 60 عامًا، أبدعت فاتن حمامة في تقديم شخصيات متنوعة عكست تطور المرأة المصرية وتحولاتها، وتعاونت خلالها مع كبار المخرجين مثل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وكمال الشيخ. جسّدت المرأة القوية، المظلومة، المكافحة، العاشقة، والمتمردة، فتركت بصمة لا تُنسى في كل دور قدمته.

من بين أبرز أفلامها: "دعاء الكروان" (1959)، "أريد حلًا" (1975)، "الحرام" (1965)، "نهر الحب" (1960)، "الخيط الرفيع" (1971)، "أفواه وأرانب" (1977)، "إمبراطورية ميم" (1972)، "بين الأطلال"، "لا أنام"، و"الطريق المسدود".

 

كما أثرت الشاشة الصغيرة بمسلسلات ناجحة أبرزها "ضمير أبلة حكمت" و"وجه القمر"، الذي كان آخر ظهور فني لها في عام 2000.

فاتن حمامة والسينما النظيفة

 

لم تكن فاتن حمامة مجرد ممثلة تؤدي أدوارًا مكتوبة، بل كانت تمتلك رؤية وضميرًا فنيًا حيًا. كانت من أوائل الفنانات اللاتي رفضن المشاهد الجريئة أو الأدوار التي تُهين صورة المرأة أو تهدم القيم. بل كانت دائمًا تحرص على أن تقدم رسالة اجتماعية أو إنسانية من خلال كل عمل، لذلك لُقّبت بـ "صاحبة المدرسة النظيفة في السينما المصرية".

زيجاتها.. حبّان في حياتها وثالث كان السكينة

 

مرت فاتن حمامة بثلاث زيجات شكلت فصولًا مختلفة من حياتها:

عز الدين ذو الفقار: المخرج الذي تزوجته عام 1947 وأنجبت منه ابنتها "نادية"، وكان له دور كبير في بداياتها الفنية.

عمر الشريف: نجم السينما العالمي الذي وقعت في حبه أثناء تصوير "صراع في الوادي"، وتزوجا عام 1955، وأنجبا ابنها طارق، لكن انتهت علاقتهما بالطلاق بسبب حياة عمر الشريف العالمية.

 الدكتور محمد عبد الوهاب: وهو طبيب مصري تزوجته عام 1975، وعاشت معه حياة مستقرة بعيدة عن الأضواء حتى وفاتها.

تكريمات وجوائز.. اعتراف عالمي ومحلي

نالت فاتن حمامة عشرات الجوائز والتكريمات تقديرًا لموهبتها وحرصها على تقديم فن راقٍ، منها:

جائزة أفضل ممثلة من مهرجان طهران الدولي، جائزة أفضل ممثلة من مهرجان جاكرتا، جائزة "نجمة القرن" من منظمة الكتاب والنقاد المصريين، دكتوراه فخرية من الجامعة الأمريكية ببيروت عام 2013، وسام الفنون والآداب من فرنسا.

الرحيل في صمت.. لكن صوتها لا يزال حيًا

 

في 17 يناير 2015، غابت فاتن حمامة عن عالمنا إثر أزمة صحية عن عمر ناهز 83 عامًا. رحلت في هدوء كما عاشت، لكن ظلت سيرتها تتردد في كل بيت، وكل لقاء عن الفن الأصيل.

 

خرجت جنازتها من مسجد الحصري بمدينة السادس من أكتوبر وسط حضور فني وجماهيري كبير، مودعين واحدة من أنبل من عرفتهم الشاشة العربية.

إرث لا يُنسى.. مدرسة في الفن والخلق

 

بموهبتها وثقافتها واحترافها، أرست فاتن حمامة قواعد فنية وأخلاقية لا تزال تُدرَّس حتى اليوم. لم تكن مجرد فنانة، بل كانت صوت المرأة الواعية، والضمير الحي للفن. وفي كل ذكرى لميلادها، يعود جمهورها ليتأمل أعمالها، ويتذكر قيمة فنية وإنسانية قلّ أن تتكرر.

 

رحلت فاتن حمامة، لكن أعمالها لا تزال تنطق بالحياة، واسمها محفور في الذاكرة العربية كأعظم من أنجبتهم الشاشة المصرية.

مقالات مشابهة

  • حفلة صاخبة تفضح الوجه الآخر لمحمد الصباغ
  • رئيس الدولة يستقبل الفائزين في مسابقات “أمير الشعراء” و”شاعر المليون” و”المنكوس” ولجان تحكيمها
  • محمد بن زايد يستقبل الفائزين في مسابقات «أمير الشعراء» و«شاعر المليون» و«المنكوس»
  • رئيس الدولة يستقبل الفائزين في مسابقات «أمير الشعراء» و«شاعر المليون» و«المنكوس» ولجان تحكيمها
  • القصة الكاملة لمهاجمة طفلي زينة داخل كمبوند فاخر
  • أول تعليق لمحمد عزت مدرب سيدات الزمالك بعد تعيينه
  • أنشطة تثقيفية وورش فنية متنوعة للأطفال في لقاءات ثقافة الفيوم
  • فاتن حمامة.. سيدة الشاشة التي صنعت مجد السينما المصرية وقلوب الجماهير لا تزال تنبض باسمها
  • يسري عبدالله ومحمود خير الله يناقشان مرحلة النوم لمحمد خير
  • جيل ألفا وما بعده في معرض الكتاب