رائحة الموت في غزة تزكم الأنوف، القبور امتلأت وفاضت بساكنيها، والأكفان نفدت، الحرب الدائرة في قطاع غزة معقدة ومتعددة الأوجه، ليس فقط من الناحية السياسية، بل أيضًا فيما يتعلق بالناحية الإنسانية وتأثيراتها على الجهود العالمية الرامية لمواجهة أزمة التغير المناخي، من بين أزمات كثيرة خلقها العدوان الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة برزت أزمة الموت، حيث تواجه السلطات المسؤولة في القطاع المحتل أزمة في مجاراة الأعداد اليومية من الشهداء، حتى الأشلاء لا تزال عالقة تحت الركام بعد أن وجد رجال الإنقاذ والمسعفين صعوبة بالغة في انتشالها جراء القصف المتلاحق ما يثير التساؤل حول مصير تلك الأشلاء وعواقب تركها دون دفن.

أكثر من سبعة آلاف شخص شهيد في غزة من المفقودين تحت الأنقاض، بحسب آخر إحصائية صادرة عن الصحة الفلسطينية الأسبوع الماضي، أي بعد مرور قرابة شهرين كاملين على الحرب، لم يتمكن رجال الإنقاذ من انتشالهم حتى الآن، أكثر من نصفهم من الأطفال، ولا يزال مصير هؤلاء الأشخاص مجهولا حتى الآن.

الأزمة تتمثل في تعذّر وصول الكوادر المختصة للإنقاذ إلى داخل المباني التي تعرضت للقصف لانتشال الجثث، إضافة إلى نقص إمدادات الوقود التي تسببت في توقف عدد كبير من مركبات الإسعاف عن العمل، ما تسبب في تراكم الأشلاء على مدار الأيام ومع استمرار القصف دون انقطاع، وسط تحذيرات طبية من مخاطر انتشار أمراض وأوبئة نتيجة عدم دفن الجثث والأشلاء العالقة تحت حطام المنازل.

على مدار شهر كامل، ومع توافد البيانات الرسمية بشأن وجود شهداء عالقين تحت الأنقاض، تقصَّت «الوطن» مصير الأشلاء بالتواصل مع مسؤولين معنيين بذلك الحدث المخيف في غزة، لصعوبة التواصل بسبب الانقطاع المتكرر للإنترنت والكهرباء في قطاع غزة بالكامل.

«المسعفون»: نكفّن الشهداء بأغطية الوسائد.. ونجمع الأشلاء في خيام المستشفيات

مشاهد رعب حقيقية تعجز أفلام الخيال العلمي عن تصويرها مهما بلغ خيال المؤلف، يعيشها كل يوم أفراد الطاقم الطبي داخل مستشفيات غزة، وسط تزايد أعداد الجرحى وامتلاء ثلاجات حفظ الموتى بجثامين الشهداء على مدار الساعة.

 تزداد قتامة المشهد بتهديدات الاحتلال المستمرة للعاملين بالمستشفيات بضرورة إخلائها حتى لا تتعرض للقصف، ما يقود للتساؤل حول كيفية إجلاء المئات من المصابين ومثلهم من المدنيين الذين احتموا في طرقات المستشفى بعد قصف منازلهم؟ أين سيضعون جثامين الشهداء، وكيف سيتمكنون من انتشال الأشلاء المتراكمة وسط نقص حاد في الإمكانيات الطبية.

على مدار الساعة وفي أي لحظة يتلقى المسعف «نادر البحيصي» بلاغاً بوجود شهداء وجرحى في منطقة ما بمدينة غزة، يسرع مهرولاً بالإسعاف التي باتت شبه خالية من أدوات الإسعافات الأولية، يقوم بعمله ما استطاع إليه سبيلاً، «الوضع لا يوصف، ما في لا كاميرا ولا أي صور بتوصف المشهد الحقيقي في الواقع»، هكذا وصف المسعف الثلاثيني لـ«الوطن» المشهد من أرض غزة الثكلى.

حينما اشتدت وطأة الحرب، وزادت أعداد الشهداء -بل والأشلاء- لجأ «البحيصي» ومَن معه من المسعفين، إلى تكفين كل عائلة بكفن أو بكيس موتى واحد، لا رفاهية لديهم لتكفين كل فرد بمفرده، بل وصل الأمر إلى تكفينهم بما تبقى من القماش الموجود تحت أنقاض المنازل، «صرنا نكفن بالحرامات والشراشف من البيوت بنستر فيها الجثث ونوصلها للمشافي»، حسب وصفه.

هذا بالنسبة للشهداء ذات الأجساد الكاملة، أما الأشلاء فالأمر بات يصعب تخيله، قد يستطيعون استخراجها وقد لا يتمكنون من جمعها، فتبقى عالقة بين الركام، فأما القطع التي يتمكنون من جمعها يذهبون بها إلى المستشفى لتسليمها داخل خيام موضوعة في ساحات كل مستشفى ميداني، «الخيام بس لتسليم الأشلاء، ومقسمة حسب المناطق التي تم الانتشال منها»، بحسب وصف المسعف الثلاثيني.

حسب وصف المسعف الغزاوي، أشلاء كل عائلة يتم تجميعها معاً بواسطة أشخاص مفرزين من كل مستشفى بالتعاون مع المسعفين، لتوثيق الأعداد، ومحاولة التوصل إلى هويتهم، حتى يتم إصدار إشعار السماح بالدفن أيضاً أولاً بأول، «هاي المرة غير أي حرب قامت بغزة، الأعداد كثيرة تفوق قدرتنا وتفوق استيعاب النظام الصحي».

من داخل مستشفى القدس بغزة، تحدث لـ«الوطن» محمد أبو مصبح، مدير الإسعاف والطوارئ والمتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني في قطاع غزة، في عجالة، ليروي الوضع الذي آلت إليه الحرب داخل المستشفيات والذي انعكس بدوره على أزمة الموت وعدم قدرة النظام الصحي على استيعاب أعداد الشهداء والأشلاء.

وأكد «أبو مصبح» أن نقص إمدادات الوقود والتهديد المستمر بقصف المستشفيات، ليست الأزمة الوحيدة فقط التي تواجه الطواقم الطبية، بل هناك أزمة كبيرة في غرف الرعاية لهؤلاء الجرحى، فضلاً عن صعوبة عبور فرق الإنقاذ لانتشال الجثث من تحت الأنقاض، ما يقود القطاع بأكمله إلى كارثة بيئية إذا تحللت جثامين الضحايا تحت الأنقاض.

«هتحصل كارثة صحية قريب، الأشلاء ما زالت عالقة تحت الركام»، بحسب قول المتحدث الرسمي باسم الهلال الأحمر في غزة، حيث امتلأت ثلاجات حفظ الموتى وخرجت عن العمل في ظل نفاد مخزون الوقود بالمستشفيات ما دفع الطواقم الطبية إلى سرعة دفن جثامين الشهداء، بعضهم يتم دفنه في مقابر جماعية قبل وصول ذويهم، أما الأشلاء العالقة فهي قنبلة موقوتة تحت الحطام ستنفجر في وجه الجميع، حسب وصفه.

ثلاجات حفظ الموتى خرجت عن العمل في ظل نفاد مخزون الوقود في مستشفيات القطاع، وزاد المشهد صعوبة حين نقصت أعداد أكياس الموتى والأكفان، ما دفع الطواقم الطبية إلى سرعة دفن جثامين الشهداء، بعضهم يتم دفنه في مقابر جماعية قبل وصول ذويهم، «مفيش أكياس حفظ ولا أكفان بنضطر للدفن السريع»، وسط مناشدة عاجلة من «أبو مصبح»، بضرورة التدخل الإنساني العاجل وتحييد المستشفيات من القصف والصراع القائم.

بحسب الإحصائيات المنشورة عبر الصفحة الرسمية لوزارة الإعلام الفلسطينية على «فيسبوك»، حتى اليوم الـ51 من الحرب على غزة، فقد سقط أكثر من 16 ألف شهيد بينهم قرابة 6150 طفلاً، بينما بلغت أعداد الأشخاص المفقودين قرابة 7 آلاف شخص، إما تحت الأنقاض أو جثامينهم ملقاة في الشوارع، ولا يزال مصيرهم مجهولاً حتى الآن، من بينهم أكثر من 4700 طفل وامرأة.

مشاهد رعب عاشها الباحثون عن ذويهم أسفل الركام وفي ثلاجات الموتى

أمسى البكاء مبتذلاً والدموع صارت تستحي من نفسها، عائلات بأكملها في غزة تم مسحها من السجل المدني، وكفن واحد طوى العديد منهم في طية واحدة، مقبرة جماعية احتضنتهم بعد أن امتلأت القبور بساكنيها إثر القصف المستمر الذي تشنه قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي.

في مساء الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي، كان لؤي الغول على موعد مع تجربة جديدة عليه، هي الأصعب والأبشع في وصفها، حين فقد أربعين شخصاً من عائلته وبات لزاماً عليه الذهاب رفقة رجال الدفاع المدني للتعرف على أشلائهم تحت أنقاض منزل العائلة في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة، بعد أن قصفه الاحتلال فجراً أثناء نومهم، حسب روايته لـ«الوطن».

«الغول»: جثث أبناء عمي كانت أشلاء صغيرة تم تكفينها ودفنها بمقبرة جماعية.. و«الدحدوح»: عثرت على الجزء السفلي من ابن عمي وعرفته من وحمة في قدمه

حين وصل إلى المكان وقعت عيناه على أشلاء جثتي ابني عمه يهرول بهما المسعفون إلى مشرحة المستشفى، تجمّد الدم في عروقه وتوقف الزمن من حوله وبكى كطفل ضاع من أهله لا يدري إلى أين يذهب: «كانوا طالعين من تحت الركام بقايا جسم، واحد فاقد إيديه والتاني فاقد نصف جسمه». 

تعرّف على واحد منهما فقط من ملابسه التي كان يرتديها ليلة القصف في بيت العائلة: «ابن عمي كان لابس تي شيرت معين عرفته منه».. انتقل «الغول»، رفقة رجال الإنقاذ، إلى مستشفى الشفاء بغزة، حيث نُقلت أشلاء أبناء عمه جميعاً إلى هناك استعداداً لتكفينهم ودفنهم: «وصلوا جميعاً والجثث كانت ممزقة أشلاء صغيرة غير معروفة، تم تكفينها ودفنها بمقبرة جماعية، وتأكدنا من هوية كل واحد» دون التمكن من تجميع جسد كامل لكل واحد، حسب وصفه.

الموقف السابق لم يختلف في بشاعته كثيراً عن الموقف الذي عاشه أسامة الدحدوح حين اضطر للذهاب إلى ثلاجة الموتى بمستشفى الشفاء الطبي للبحث عن ابن عمه الأكبر الذي فُقد في قصف عنيف استهدف منزله بحي الزيتون بداية شهر نوفمبر الماضي.

رحلة البحث عن ابن العم الأكبر استمرت ثلاثة أيام متواصلة، بصحبة قوات الإنقاذ تحت ركام مجموعة من المنازل التي دمرها الاحتلال في الحي، حتى تم انتشاله أشلاء، فقط الجزء السفلي من جسده هو الذي تبقى منه، هكذا وصف «الدحدوح» باكياً لـ«الوطن» بشاعة المشهد الذي يطارده في منامه كل ليلة.

ساعات انتظار مضت كالدهر، حيث وقف «الدحدوح» على باب المستشفى، كلما فتحت سيارة إسعاف أبوابها لتنقل جثامين شهداء إلى داخل المشرحة هرول وراءها للتعرف على ابن عمه المفقود، بعد أن أخبرت قوات الإنقاذ الباحثين في مكان منزل الشهيد بنقله إلى مجمع الشفاء الطبي: «كل ما كانت تيجي دفعة جثامين أبحث بينهم، حتى جاء الجزء السفلي من جسد ابن عمي، عرفته من وحمة في قدمه اليسرى»، هنا استجمع أنفاسه وحاول التماسك لاستكمال إجراءات الدفن.

رحلة البحث بين الجثامين، حسب رواية «الدحدوح»، تفوق فى بشاعتها أصعب مشاهد أفلام الرعب، مجرد وجود واحد أو اثنين فقط من الأهل يؤكد هوية الشهيد، ينتقل بعدها إلى داخل المشرحة لأخذ البيانات وتسجيلها وإخراج الجثمان بسرعة دون حفظه في الثلاجات الممتلئة بجثث الآخرين، حسب روايته للمشهد من الداخل، ومن ثم يتم التكفين والصلاة عليه بالمستشفى والدفن مباشرة في مقابر العائلة لمن يتم التعرف على هويته، أو في مقابر جماعية لمن يتعثر التعرف على هويته.

ثلاث ساعات فقط، وكان «الدحدوح» قد انتهى من إجراءات التعرف على ابن عمه، وتوجَّه بعدها بصحبة أبناء عمه الآخرين إلى مقابر العائلة لدفن الأشلاء، كانت الرحلة الأصعب على الإطلاق حسب وصفه: «تخيل شخص أكل معك وبينكم ذكريات فجأة يتحول جسده لأجزاء ممزقة، شعور كتير صعب».

بسبب تعذر التعرّف على هوياتهم.. شهادات وفاة الضحايا دون أسماء ونقص الوقود أدى إلى تعطيل ثلاجات حفظ الموتى

انتشرت رائحة البارود في سماء غزة منذ اندلاع الحرب الأخيرة في السابع من أكتوبر الماضي، أبراج سكنية تحولت إلى ركام في ثوانٍ معدودة، عائلات بأكملها نزحت عن بيوتها ولم يرحمها الاحتلال حتى في أماكن الإيواء، ذاقوا الموت الذي فروا منه، فتحولوا إلى أشلاء متناثرة يصعب على ذويهم التعرف عليهم وسط محاولات مستميتة من قوات الإنقاذ لانتشالهم من تحت الأنقاض.

ثلاجات الموتى داخل مستشفيات القطاع امتلأت وفاضت، الأمر الذى يفوق الطاقة الاستيعابية لأي نظام طبي في العالم مهما بلغت قوته، يواجه أطباء الطب الشرعي الموزعون على المستشفيات كارثة غير مسبوقة، فبحسب تصريح الدكتور «يوسف أبوالريش»، وكيل وزارة الصحة في غزة، لـ«الوطن» ليس لديهم رفاهية لإجراء تحاليل الحمض النووي الـDNA للتعرف على هوية الجثث في تلك الحرب الطاحنة.

حلقة مفرغة يدور بداخلها كل يوم أطباء الطب الشرعي في غزة، وضعوا آلية واحدة للتعامل مع الأشلاء التي تصلهم من خلال المسعفين ورجال الإنقاذ، يحاولون خلالها الاستدلال -قدر استطاعتهم- على هوية أصحاب الأشلاء، إما من خلال ملابسهم أو خاتم ما زال في إصبعهم، أو علامة مميزة في أجسادهم، ومن ثم، بحسب «أبوالريش» يتم تسجيل تلك المعلومات كلها وتصويرها، ثم وضعها في ملف خاص، مدون على واجهته: «اليوم الموافق 10 نوفمبر، أشلاء مجهول رقم 1».

ينتظر الدكتور أحمد الضهير، استشاري الطب الشرعي بالمستشفى الأوروبي في غزة، مرور 48 ساعة على الأشلاء التي تصلهم، أملاً في أن يأتي ذووهم للتعرف عليهم، وحسب وصفه لـ«الوطن» في حال عدم الوصول إلى ذويهم بعد انتهاء تلك الفترة الزمنية، يتم دفنهم في مقابر جماعية مرقمة بأرقام محددة، فلا توجد لديهم رفاهية إبقاء تلك الأشلاء في الثلاجات لعدم وجود مكان، فضلاً عن توفير مخزون الوقود لتشغيل العناية المركزة: «نوفر الوقود لتشغيل الأجهزة الطبية بالعناية المركزة وهو ما تسبب فى توقف ثلاجات الموتى وبالتالي فنحن لا نحتفظ بالجثث».

 ويستطرد خلال وصفه للوضع الراهن في القطاع:«بشاعة الموقف لا تتوقف عند عدم التوصل إلى ذوى الجثث، فبعض الأشلاء يتم انتشالها بعد يومين أو ثلاثة من الموت وبالتالي تكون قد تحللت ولا يمكن الاحتفاظ بها ويتم دفنها على الفور دون انتظار أسرة الشهيد، ويتم توثيق حالات الوفاة لتلك الأشلاء من خلال الطبي الشرعي الذي يتبع وزارة العدل، عبر شهادة وفاة يكتب في خانة الاسم بها «مجهول»، بحسب ما أكد الدكتور أحمد الضهير.

«بيانات المتوفى، وسبب الوفاة واسم الطبيب»، بيانات مختلفة تحويها شهادة الوفاة الصادرة عن وزارة الداخلية الفلسطينية ومعتمدة من وزارة العدل، يتولى الطب الشرعى كتابتها فى حالة الوفاة العادية أو تسلم جثمان شهيد كامل، أما فى حالة الأشلاء غير المعروف صاحبها تترك خانة الاسم فارغة وتحمل الشهادة اسم «مجهول»، حسب قول الدكتور «يوسف أبوالريش»، وكيل وزارة الصحة فى غزة.

رحلة «الوطن» في تقصّي الوضع لم تقتصر عند ذلك، بل إلى ما بعد تحلل الأشلاء تحت الركام من خلال مسؤولين بوزارة البيئة الفلسطينية والمستشفيات الكبرى بالدولة لمعرفة العواقب البيئية والصحية.

جثث متحللة ونفايات صلبة ومياه ملوثة تهدد بظهور كوارث بيئية وصحية

وفق مبدأ «الأرض المحروقة»، يخطط الاحتلال لتحويل أراضي غزة إلى مناطق جدباء غير قابلة للحياة، الأمر الذي يجسد كارثة صحية وبيئية في انتظار القطاع بأكمله، إثر تراكم جثامين الشهداء تحت الأنقاض منذ أسابيع، وسط عرقلة مستمرة من قوات الاحتلال لوصول فرق الإنقاذ لانتشالها، فضلاً عن تكدس النفايات الصلبة وتلوث المياه وازدحام مراكز الإيواء بالنازحين المحرومين من الاستحمام بسبب النقص الحاد في المياه المتدفقة إلى القطاع، ما ينذر بانتشار الأوبئة والأمراض إذا استمر العدوان على هذا النحو.

ياسر أبوشنب، مدير عام حماية البيئة في السلطة الفلسطينية، أكد فى تصريح خاص لـ«الوطن»، أنّ قطاع غزة على شفا كارثة بيئية قد لا تقتصر عواقبها على القطاع فقط، بل تهدد الكوكب بأكمله، حال ظهور أوبئة وأمراض جديدة ناتجة عن تلوث الهواء والمياه والتربة، وتراكم الحشرات الناقلة للأمراض والأوبئة، لافتاً إلى أن استمرار القصف العنيف لقطاع غزة المحتل، يزيد حصيلة الشهداء كل ساعة، ويزداد المشهد تعقيداً، مع وجود أشلاء لبعض الشهداء تحت الركام، ولم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالها حتى الآن، ومع الوقت تتحلل تلك الأشلاء وتصدر غازات سامة، وديداناً وحشرات، محذراً: «إذا لم يتم انتشالها خلال الأسابيع المقبلة، سوف تظهر أوبئة جديدة بين الأهالى فى غزة».

تختلط الغازات السامة الصادرة من تحلل الأشلاء المتراكمة تحت الأنقاض بالمواد التى يستخدمها الاحتلال فى حربه الشرسة على القطاع منذ السابع من أكتوبر الماضى، بحسب مدير عام حماية البيئة فى السلطة الفلسطينية، مشيراً إلى أنها مواد محرمة دولياً وبينها الفوسفور الأبيض الفتاك، وأنواع غير معروفة لخبراء البيئة حتى الآن، مؤكدا أن ذلك يعجل بكارثة بيئية فى غزة والمدن المجاورة لها، معتبراً ذلك اختراقاً صريحاً لبنود المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الدولية.

انتشار الكبد الوبائي والأمراض الجلدية والتنفسية بين النازحين

من جانبها تحاول السلطات المحلية فى غزة جاهدة، رغم ظروف الحرب الصعبة، الاستجابة لاحتياجات السكان من المياه، وبينما تمثّل الآبار الجوفية مصدر المياه الرئيسى فى القطاع، إلا أن عمل تلك الآبار توقف بسبب انقطاع الكهرباء، وعدم توافر الوقود اللازم لتشغيل المولدات لضخ المياه، وهذا أكبر مسبب لسهولة تفشى الأوبئة والأمراض بين سكان القطاع، حسبما أكد «أبوشنب».

وعلى الصعيد الطبى، أكد الدكتور صالح الهمص، مدير التمريض بمستشفى غزة الأوروبى لـ«الوطن»، أن القطاع دخل بالفعل فى دائرة الوباء والأمراض المعدية سواء التنفسية أو المعوية، حيث انتشرت النزلات المعوية والإسهال والجفاف والسعال بين الأطفال، خاصة مع دخول فصل الشتاء وانخفاض درجات الحرارة دون وجود ملابس ثقيلة ولا مياه نظيفة ولا علاج ولا طعام: «اللى مماتش من القصف هيموت من الأنيميا والمرض والبرد»، حسب تعبيره.

دائرة مفرغة يدور فيها سكان غزة النازحون تقودهم إلى مصير مجهول، كارثة بيئية وصحية فى انتظار من نجا منهم لأسباب عديدة، أولها توقف محطات معالجة الصرف الصحى عن العمل، وتوقف آبار المياه أيضاً بسبب انقطاع الكهرباء ونقص إمدادات الوقود، وبات الجميع يلجأون إلى أى مصدر مياه حتى إن كان ملوثاً، ما يسبب أمراض الجهاز الهضمى، بحسب مدير التمريض بمستشفى غزة الأوروبى، فضلاً عن تكدس النازحين فى أماكن الإيواء الذى يؤدى بدروه إلى انتشار الأمراض الجلدية كالجرب.

«تحلل الجثامين العالقة تحت الأنقاض ستتسبب فى مصابٍ جلل»، هكذا اختزل «الهمص» حجم الكارثة التى سوف تؤول إليها أزمة غزة، حيث تصدر الجثامين غازات سامة عند التحلل، فضلاً عن انتشار الكلاب الضالة التى تتغذى على الجثث ما يعنى نقل أوبئة وأمراض من الحيوان إلى البشر: «بعض الجثث لم تتمكن فرق الإنقاذ من انتشالها وأصبحت فريسة للكلاب والحيوانات الضالة، الوضع يفوق الوصف».

الدكتور فؤاد عودة، رئيس الرابطة الطبية الأوروبية الشرق أوسطية الدولية، أكد رصد ارتفاع كبير في أعداد المرضى بأمراض معوة بسبب المياه الملوثة والشرب من مياه البحر المالحة، منها التهاب الكبد الوبائي والنزلات المعوية والإسهال، فضلًا عن انتشار أمراض الجهاز التنفسي بما يقدر بنحو 10 آلاف مصاب، بحسب إفادات الأطباء مراسلي الرابطة المتواجدين في أنحاء قطاع غزة.

ويفوق أعداد المصابين بالأمراض الجلدية، كالجرب، العدد السابق ذكره، بحسب «عودة» الذي أكد أنّ الوضع بين النازحين في مدارس الأمم المتحدة مأساوي نظرًا لتكدس المواطنين، ما يُسهّل عملية انتشار الأمراض المعدية بينهم دون توافر أي خدمات طبية.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: غزة فلسطين شهداء غزة فی مقابر جماعیة جثامین الشهداء رجال الإنقاذ فرق الإنقاذ تحت الأنقاض کارثة بیئیة تحت الرکام من أکتوبر لـ الوطن على مدار عن العمل حتى الآن قطاع غزة من خلال أکثر من بعد أن فی غزة فى غزة

إقرأ أيضاً:

الكتابة من تحت الأنقاض.. يوسف القدرة: في الشعر لغة فرط صوتية ضد عار العالم

في عرف الشاعر، تغدو القصيدة في زمن الجوع رغيفا من الكلام. واللغة لا تُطعِم، لكنها تذكّرنا، كما يقول، "بأننا بشر، لا مجرد أهداف حرارية". هكذا، وبلغة طازجة في أصالتها النابضة، يصرّح يوسف القدرة -للجزيرة نت- قائلا: "أنا رجل نجا بالصدفة، لا أكثر".

هكذا يعرّف في البدء نفسه، وسط أكثر من عدوان مستمر على غزة: "كنت واحدا من كثيرين عاشوا أكثر من 560 يوما من الحصار والقصف والموت البطيء في غزة".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2فلسفة الهجاء.. كيف جسّد العرب الشتم في الشعر والأدب؟list 2 of 2من بغداد إلى القاهرة.. دروس الروح الأدبية في منافسات الشعراءend of list

وبالتأكيد، فإن ما يكتبه يوسف القدرة ليس كتابة بالمعنى التقليدي، إنها شكل من أشكال البقاء. فهو، كما عُرف عنه وعن تجربته، صوت وسط أصوات كثيرة اختنقت، لكنه بصورة أو بأخرى أصرّ على "أن يتكلم"، لا عن نفسه فقط، بل "عنّا جميعا"، كما يقول: "أكتب لأنني لا أريد أن أموت صامتا".

عندما تدلف إلى عالم يوسف القدرة، تجد نفسك لا أمام نصوص أدبية فقط، بل داخل غرفة تتنفس فيها غزة— الحجارة، الأمهات، الشهداء، الصمت.

صدر له مطلع العام، عن دار الأدهم بالقاهرة، "كتاب غزة: يوميات ورسائل وقصائد من غزة"، و"عشبة الشغف"، كتابه الشعري الكثيف الصادر حديثا عن دار الرقمية برام الله. وفي هذين العملين، تمزج التجربة بين توثيق يومي مرّ من تحت الرّدم، وبين صياغة شعرية تتجاوز الخاص إلى العام.

ومن خلالهما، ورؤيته للكتابة بين خطوط النار والعدوان الإسرائيلي، نجول في هذا الحوار معه، لنتوقف عند تجربته الأدبية، وقضايا تخصّه بوصفه مثقفا وباحثا فلسطينيا، ورؤيته وفلسفته في الكتابة التي تختزل ما ترى دون إسهاب. ذلك أنها تجربة تُكتب من داخل لهب النيران، لتوثّق الشهادة والقضية والشعر معا، لا كحدث، بل كأسلوب حياة. فإلى الحوار:

"كتاب غزة: يوميات ورسائل وقصائد من غزة" ليوسف القدرة (الجزيرة) من خلال كتابيك الأخيرين "كتاب غزة" و"عُشبة الشغف"، هل نكون بإزاء معطى جديد من الكتابة كفعل مواجهة: يتحوّل معها الألم إلى وثيقة شعرية مفتوحة على الذاكرة والمقاومة؟ وفي السياق، كيف وُلدت فكرة "كتاب غزة"؟ وما الذي يميّزه عن "عُشبة الشغف"؟ إعلان

"كتاب غزة" لم يُكتب كفكرة، بل كفعل بقاء يومي. كل نص فيه خرج من مشهد حقيقي، من لحظة تحت الركام، من يوم فقدنا فيه شخصا أو حيّا كاملا.

الكتاب فيه 3 أصوات: اليوميات، التي توثّق ما جرى لحظة بلحظة، والرسائل، التي تتوجه إلى العالم، والقصائد، التي تحاول أن تقول ما لا يمكن أن يُقال.

أما "عُشبة الشغف"، فهو نصّ آخر، أكثر كثافة، وأكثر شعرا.

كُتب بصيغة الجمع، من "نحن"، لا من "أنا".

هو عمل يعبّر عن مدينة تُحِبّ وتحترق في آنٍ واحد.

هو ليس عن الحرب فقط، إنّه عن الحب في زمن الدمار، عن رغبةٍ مكبوتة وسط الركام، وعن رجلٍ يفنى ببطء على مرأى من نساءٍ يُنقذن روحه بالكلمات.

اللغة المباشرة لم تعد كافية. كنتُ بحاجة إلى لغة تهرب من الألم، ولكن لا تنكره، لغة قادرة على حمل مفارقة أن نحبّ في لحظة موت، وأن نحلم بينما ندفن أحباءنا. الشعر هنا ليس ترفا، إنّه ضرورة، وسيلة للعبور من الألم دون أن نتحطم. وأرى أن الكتابة عن غزة ليست قيدا، ولا اختيارا. هي قَدَر، كما قلتُ سابقا. هي الطريقة الوحيدة لأحمي الوجوه التي رأيتها من النسيان.

في "عُشبة الشغف"، مثلا، هناك تحوّل أسلوبي واضح نحو التجريد واللغة الكثيفة. لماذا اخترت هذه النبرة؟

لأن الواقع كان فظيعا لدرجة أن اللغة المباشرة لم تعد كافية. كنتُ بحاجة إلى لغة تهرب من الألم، ولكن لا تنكره، لغة قادرة على حمل مفارقة أن نحبّ في لحظة موت، وأن نحلم بينما ندفن أحباءنا.

الشعر هنا ليس ترفا، إنّه ضرورة، وسيلة للعبور من الألم دون أن نتحطم. وأرى أن الكتابة عن غزة ليست قيدا، ولا اختيارا. هي قَدَر، كما قلتُ سابقا. هي الطريقة الوحيدة لأحمي الوجوه التي رأيتها من النسيان.

"كتاب غزة" هو محاولة للقول: نحن كُنّا هنا، وشهدنا. و"عُشبة الشغف" هو محاولة لقول: حتى في أقصى الفقد، نحن نحبّ ونحلم ونتمسك بإنسانيتنا.

الحرب لا تأتي بنبرة واحدة. هناك ما لا يُقال إلا نثرا، وهناك ما لا يُحتمل إلا شعرا. في "كتاب غزة"، كتبتُ يوميات لكي لا أجنّ، وكتبتُ الرسائل لكي لا أنفجر في العزلة. أما القصائد، فهي لحظات الانهيار الصامت، عندما يتكلم شيء داخلك بلغة لا تُشبهك.

تمزج بين الشعر والنثر، اليوميات والرسائل والقصائد، في كتاب واحد. لماذا؟

لأن الحرب لا تأتي بنبرة واحدة. هناك ما لا يُقال إلا نثرا، وهناك ما لا يُحتمل إلا شعرا. في "كتاب غزة"، كتبتُ يوميات لكي لا أجنّ، وكتبتُ الرسائل لكي لا أنفجر في العزلة.

أما القصائد، فهي لحظات الانهيار الصامت، عندما يتكلم شيء داخلك بلغة لا تُشبهك.

وما الفرق إذا في التجربة الشعورية بين كتاب "عُشبة الشغف" و"كتاب غزة"؟ وكيف يحضر كلٌّ من الموت والحياة؟ كيف تصفهما في كتابيك هذين؟

في "كتاب غزة"، كنتُ أكتب من العراء. لا وقت للتفكير، فقط تسجيل لما يحدث. أما في "عُشبة الشغف"، فقد كتبتُ من داخل الجرح.

كان العمل أشبه بمواجهة مع الذات، مع الحب، مع العار، مع الرغبة، مع ما تبقّى من إنسانية وسط كل هذا الجنون.

في غزة، الموت ليس نهاية، والحياة ليست ضمانا. الموت يزورنا كل يوم، والحياة تلوّح لنا من بعيد.

إعلان

في الكتابين، حاولت أن أكتب هذه المفارقة: كيف نغسل ملابسنا بينما الطائرات تحوم، كيف نُحبّ وسط المقابر، وكيف نحاول بناء شيء بينما يُهدَم كل شيء.

الأدب لا يوقف الطائرات، لكنه يوقف النسيان.

عندما أكتب، أنا لا أغيّر الواقع، لكني أغيّر طريقة النظر إليه. هذا كافٍ في بعض الأحيان

وماذا عن دور الأدب؟ هل ترى أنه ما زال قادرا على إحداث فرق أو أثر ما، وسط عجز في كل شيء، حتى الموت ذاته؟ وما الرسائل التي توجهها إلى سكان العالم؟

الأدب لا يوقف الطائرات، لكنه يوقف النسيان.

عندما أكتب، أنا لا أغيّر الواقع، لكني أغيّر طريقة النظر إليه. هذا كافٍ في بعض الأحيان. القارئ البعيد ربما لا يُنقذنا، لكنه قد يتعلّم ألّا يصمت.

ورسالتي هنا: اقرؤوا غزة، لا كخبر، بل كمرآة.

في "كتاب غزة"، ستجدون التفاصيل التي خفيت عن الكاميرا. وفي "عُشبة الشغف"، ستسمعون الهمس الذي لا يصل في صخب الحرب. هذا ليس أدبا فقط، هذا أثر بشريّ في عالم ينسى بسرعة.

يوسف القدرة: "عشبة الشغف" هو عمل يعبّر عن مدينة تُحِبّ وتحترق في آنٍ واحد (الجزيرة) هل تتوقع احتفاء رمزيا من حفل التوقيع المرتقب في معرض القاهرة الدولي للكتاب مطلع العام القادم؟

أنتظر أن نعيد لغزة مكانها في الذاكرة الجماعية، لا كمأساة، بل ككائن حيّ. والتوقيع ليس مناسبة احتفالية، إنه لحظة اعتراف: هذا كتاب كُتب من تحت الأنقاض، وهذا صوت حاول أن يبقى.

في دواوينك، يظهر الموت كظلٍّ مقيم لا يغيب. كيف تحافظ القصيدة على توازنها الجمالي وسط كل هذه الأنقاض، وهذه الأدخنة المتصاعدة، والدفائن، وأسئلة الحيرة ذاتها؟

الموت كظلّ مقيم، والقصيدة ككائن هشّ وسط الأنقاض. الموت لا يغيب لأنه لا يُستدعى، بل يسكن في التفاصيل: في تنفّس الطفل لرماد الصاروخ، في جسد لم يُلملم، في عين لم تُغلق.

القصيدة عندي تمشي على حواف العدم، لا لتُزيّن الدمار، بل لتكشطه من الداخل. جمالها ليس زينة، بل جرحٌ مفتوح يُبقي المعنى حيّا.

هل الكلمة عندك تذكار نجاة، أم مرآة لفقد لا يرمَّم، وأنت تشهد أرض الشعر كمعادل للوجع والألم اليومي؟

الكلمة تذكار نجاة حين تُكتب من تحت الردم، لكنها مرآة لفقد لا يرمَّم حين نعيد قراءتها. أنا أكتب لكي لا أموت بالصمت، ولكي لا أزيّن القبر بالبلاغة. الشعر ليس عزاء، بل إنه احتجاج على ضرورة العزاء.

ما الذي تعنيه عبارة: "أن تكتب في غزة، يعني ألا تفصل القصيدة عن الجثة"؟

"أن تكتب في غزة يعني ألا تفصل القصيدة عن الجثة"، تعني ببساطة: لا توجد استعارة أنقى من الجثة. القصيدة عندنا لا تُكتب على ورق، بل على بقايا الحائط، على حواف الخوف، على دم الطفل في الممر. لا توجد مسافة بين الشاعر والميت. نحن نكتب بينما نشيح بنظرنا عن أشلاء أقاربنا.

بين البحث والقصيدة، هناك ما يشبه انشطار الذات. وهنا، كونك باحثا فلسطينيا إلى جانب كونك شاعرا، كيف تؤثر هاتان المنطقتان في بعضهما لديك؟

أنا لا أرى انقساما بينهما. الباحث يبحث عن المعنى، والشاعر يهجس بما لا يُقال. في لحظات معيّنة، تُعلّق اللغة بينهما. البحث يضيء الخلفية، والشعر يفتح الشقوق. لكنهما معا يشبهان شخصا يحمل مصباحا ليبحث عن نفسه في خرابٍ بلا نوافذ.

هل يهرب الشعر أحيانا من سلطة اللغة؟ ومتى يتحوّل النص النقدي إلى ما يشبه القصيدة المكتومة؟

يهرب الشعر من سلطة اللغة حين تكون اللغة مطفأة، متأخرة عن الجرح. حين يُقال "انفجار محدود"، بينما أمي لا تجد بيتا تعود إليه. حينها، الشعر يفرّ من البلاغة ليصبح همسا، أو شظية، أو حتى صمتا.
النص النقدي قد يتحوّل إلى قصيدة حين يعترف بعجزه ويتخفف من غروره التحليلي.

صوت الشعر في زمن التجويع، هل ما زال يصلح كفعل مقاومة بواسطة اللغة والصورة والإيقاع الخفي، وفي زمن يُستخدم فيه الجوع كسلاح؟ إعلان

الشعر الآن أشبه بسكين صغيرة في بطن الوحش. لا تقتله، لكن تُبقيه يقظا. نعم، في زمن الجوع، تصبح القصيدة رغيفا من الكلام، تكفي لقلبٍ واحد لكي لا ينهار.

اللغة لا تُطعم، لكنها تذكّرنا بأننا بشر، ولسنا مجرد أهداف حرارية.

هل ازداد صوت الشعراء الفلسطينيين تحت القصف، أم خفّ وخفت وتلاشى حضوره بالرغم من اتساع رقعة العدوان ومراوغة الحدث ذاته؟

بل تعرّى. لم يخفت، لكنه لم يعد يملك متّسعا للزخرفة. بعضهم مات قبل أن يكتب، وبعضهم كتب لأن لا أحد سواه بقي حيّا. الصورة الآن تسبق القصيدة، لكن من يعيد بناء الروح بعد الخسارة؟
هذا دور الشعر، وإن كان بأصواتٍ متقطعة.

هل ترى في الشعر الفلسطيني المعاصر لغة "فَرْط صوتية"؟

نعم. إنها لغة تصرخ حين لا يُسمع الصوت، تُكتب في الهواء، ضد الصمت الدولي، ضد بيانات الشجب، ضد عار العالم. قصائدنا تُطلق في الهواء كرصاصة احتجاج. تصل متأخرة، لكنها تصل.

عن صنعاء وملتقاها الشعري العربي، ما الذي تتذكره؟ وكيف تلقيتَ المكان والشعراء والمدينة؟

صنعاء كانت استراحة قلبٍ منجرف. لا شيء يُشبه مدينة تفوح منها القهوة والبارود في آن. الشعراء هناك كانوا كمن يكتبون الحنين بلغة الماء. تعلّمت أن القصيدة حين تُقال على جبل، تصدح أبعد.

ترجمة فرنسية لمجموعة "لعلكِ" ليوسف القدرة (الجزيرة) هل ترى مشاركتك في ملتقى صنعاء الشعري لحظة فارقة في مسيرتك؟

نعم. أن ترى أنك لست وحدك، أن الحبر مشترك، وأن الألم له لهجات متعددة. الملتقى جعلني أُصدّق أن الشعر لا يُكتب فقط في الغرف المغلقة، بل يُعاش في العيون التي لا تخاف.

ما الذي بقي من تلك الزيارة: قصيدة؟ صورة؟ رائحة تذكار؟ صداقة لا تبلى؟

رائحة. نَفَس. ظلّ. صورة لشارعٍ في الفجر. صداقة لم تشخ. وقصيدة ما زالت تتخلّق كلما سمعتُ "صنعاء".

هل للقصيدة التي تُلقى من غزة طعمٌ آخر حين تُلقى في مدينة تنهض من رمادها؟

نعم، للقصيدة هنا طعم آخر. القصيدة الخارجة من غزة تحمل جرحا لا يُترجم، لكنها حين تُلقى في مدينة تحلم، تصير مرآة لما يمكن أن يُبنى على الرماد. مدينة تنهض من رمادها تستقبل القصيدة كما تستقبل نجمة.

حول ثلاثية الأم، الوطن، الغياب… كيف تحضر الأم في شعر يوسف القدرة؟

الأم ليست رمزا، هي اللغة الأصلية للنجاة. حين أكتب عنها، لا أبحث عن استعارة. يكفيني أن ألمح عينيها على باب البيت الذي لم يبقَ. هي الذاكرة، وهي الوطن، وهي الغياب الذي لا يُشفى منه.

في قصائدك، يبدو الوطن يُلملم ذاته المكلومة؟

الوطن عندي ليس مكانا فقط، بل إنه جسد. وكلما تكسّر، نحاول بلغة القصيدة أن نُعيد تشكيل ملامحه. الكتابة عنه محاولة لترميم الصور المبعثرة، لكن الخريطة دوما ناقصة. ربما لأن القلب لا يعترف بالحدود.

كيف تنظر إلى المنفى الداخلي؟

المنفى الداخلي هو الأخطر. منفى داخل بيتك، داخل لهجتك، داخل جسدك. أن تكون هنا، لكنك خارج كل شيء. غزة ليست فقط حصارا جغرافيا، بل إنها استعمار داخلي لذاكرتنا.

الشعر الفلسطيني يُعيد خلق نفسه من الردم. نعم، هناك انكسارات، لكن أيضا هناك ولادات قاسية. لا صوت يخفت إلا إذا اختنق. الآن، تتشكّل جماليات جديدة: موجعة، مشوشة، لكنها أكثر صدقا.

كيف ترى المشهد الشعري الفلسطيني الآن؟

الشعر الفلسطيني يُعيد خلق نفسه من الردم. نعم، هناك انكسارات، لكن أيضا هناك ولادات قاسية. لا صوت يخفت إلا إذا اختنق. الآن، تتشكّل جماليات جديدة: موجعة، مشوشة، لكنها أكثر صدقا.

أصوات تتابعها وتجد فيها تمردا فنيّا جسورا في شعر اللحظة؟

الأصوات التي أتابعها، أصوات تكتب بالسكين لا بالقلم. لا أريد أن أذكر أسماء هنا، فكل من يكتب بعد أن دفن حبيبا هو شاعرٌ جدير بالذكر. المفارقة أن الشعر أصبح يلمع حين ينكسر.

لو خُيّرت أن تترك سطرا على بوابة غزة، فماذا سيكون؟

سطر على بوابة غزة: "هنا كتبتُ آخر نبضي… والباقي للسماء".

هل خانتك القصيدة في لحظة كنتَ بأمسّ الحاجة إليها؟

خانتني القصيدة كثيرا، لكنها تعود، أحيانا على هيئة ندم. شغفي باللغة لم يخفت، لكنه تعلّم الصمت. أنا أكتب حين لا أستطيع أن أتكلم.

ما الذي يُوجع أكثر؟

ما يُوجع أكثر هو التعود على الغياب. النسيان له دواء، أما التعود، فهو موتٌ بطيء.

مقالات مشابهة

  • لو الفيزا ضاعت أو اتسرقت.. خطوات استرجاعها وحماية أموالك من النصب الإلكتروني
  • الصحة بغزة:‎ 47 % من الشهداء في القطاع أطفال ونساء
  • شهداء ومصابون في غارات إسرائيلية على القطاع
  • الكتابة من تحت الأنقاض.. يوسف القدرة: في الشعر لغة فرط صوتية ضد عار العالم
  • غدًا.. الأعلى للثقافة يصوت على جوائز الدولة لعام 2025
  • حصيلة الشهداء في غزة تقترب من 60 ألفا
  • الإعلام الحكومي بغزة يحذر من كارثة صحية تهدد حياة عشرات آلاف الرضع
  • عشرات الشهداء بغزة وجيش الاحتلال يقدم خططا لاستمرار القتال
  • غزة .. شهداء ومصابون جراء استهداف الاحتلال منتظري المساعدات
  • قوة إسرائيلية تتوغل في كفر كلا جنوب لبنان وتنفذ تفجيرا في أحد الأحياء