محظوظ من ينصت إلى أحاديث الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب المولود فى شهر مارس، فإلى جانب كونه المجدد الأكبر للموسيقى المصرية، بعد سيد درويش، فإنه يتمتع بثقافة عريضة عميقة تجعله يتحدث فى أمور الفن والأدب والحياة بذكاء يخطف الألباب.
أزعم أننى شاهدت بتركيز شديد كل لقاءات الرجل التليفزيونية تقريبًا، ومعظمها شاهدتها فى حياة عبدالوهاب نفسه برفقة الوالد العظيم المرحوم عبدالفتاح عراق.
لقد علمنى هذا الوالد منذ الصغر كيف أنتبه إلى الموهبة الخارقة لصاحب (الجندول) وثقافته وأناقته وذوقه وحديثه الخلاب، كما أزعم أيضًا أننى استمعت إلى جميع لقاءاته الإذاعية المتوفرة حاليًا فى يوتيوب.
لذا، أشهد أنه ما من مبدع مصرى أو عربى، باستثناء طه حسين، يملك مهارات عبدالوهاب فى الحديث والشرح والتوضيح عن طبيعة الفن ودوره وتنوعه وكيفية (إنتاجه) وتطويره، علاوة على براعته العجيبة فى استرداد الذكريات الحلوة من كهف الزمن القديم.
أذكر جيدًا أن الإعلامية القديرة ليلى رستم سألته مرة فى لقاء تليفزيونى (كيف تصف دور المطرب؟)، فأجاب بحصافة (المطرب بالنسبة لى هو رسول يحمل أفكارى الموسيقية ويوصلها للناس، فإذا كان رسولاً مجيدًا، فقد ضمنت النجاح لعملى الفنى، وإذا كان غير ذلك، فتلك مشكلة كبرى).
هذه الإجابة الذكية تعلى من شأن المطرب، بل تمنحه صفة (مقدسة) وهى أنه (رسول)، بينما ملحن كبير آخر أجاب عن السؤال نفسه للمذيعة نفسها قائلاً باستخفاف غريب (المطرب بالنسبة لى مجرد آلة.. مثلها مثل العود أو الكمان أوظفها كيف أشاء).
فى برنامج (مع المشاهير) الذى يقدمه الإعلامى السعودى الموهوب ماجد الشبل وعرضه التليفزيون السعودى عام 1972، وقبل أن تشدو أم كلثوم بأغنيتها (ليلة حب) التى لحنها عبدالوهاب، قال الرجل: (إن الموسيقى العربية لن تتطور إلا بالعلم، وعلينا إرسال الموهوبين إلى أوروبا لتلقى أصول الموسيقى على قواعد علمية منضبطة).
أما برنامج (النهر الخالد/ 30 حلقة) الذى قدمه سعد الدين وهبة، فلم يغادر فيه عبدالوهاب كبيرة ولا صغيرة فى حياته إلا أحصاها، ولعل تفاصيل علاقته بأمير الشعراء أحمد شوقى تعد نموذجًا لذلك.
أرجو أن تشاهد الحلقة الرابعة من هذا البرنامج، حيث يشرح لنا عبدالوهاب بدقة بالغة اللحظات الحرجة التى تنتاب شوقى حين يتلقى (وحى) الشعر، وكيف يتفاعل مع هذا (الوحى).
أذكر أننى سألت الإعلامى الكبير الراحل أمين بسيونى رئيس الإذاعة المصرية الأسبق، وكنا دعوناه على العشاء فى دبى هو والسيدة قرينته. سألته كيف كنت تجرى اللقاءات الإذاعية السريعة مع عبدالوهاب، والتى كانت تذاع فى شهر رمضان المبارك؟
فابتسم الرجل وقال لى: (الاستاذ عبدالوهاب كان بيجننى). ومضى يحكى لى كيف أنه حين يطلب صاحب (الكرنك) ليستأذنه فى زيارة عاجلة حالاً ليسجل معه حلقة إذاعية لمدة خمس دقائق، لا يجد من عبدالوهاب سوى الرفض، قائلاً: (يا أمين عدى عليا بعد ثلاثة أيام، حتى أفكر جيدًا فيما أريد أن أقوله للناس).
ليتنا نشاهد لقاءات عبدالوهاب التليفزيونية لنستفيد ونستمتع.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: ناصر عراق محمد عبدالوهاب
إقرأ أيضاً:
قراءة في مجموعة «الرجل النائم إلى جوارك» شفافية الفكرة بين الانتصار للذوات ومسؤوليّة اختيارها
ندرك تماما دور العنوان كونه عتبة فنيّة إضافة إلى المشاهدات اللونيّة والشكلية على غلاف العمل الأدبي غير أن هناك عناوين كثيرة لا تستطيع أنْ تلهم العمل قلق الفكرة التي يستسلم لها التأويل، ثمة قراءات لا تعوّل كثيرا على العتبات لسبق مفرط للتوقّع أو لتأجيل فهمها إلى متن العمل.
في تجربة أسماء الشامسي القصصية يشكل العنوان بؤرة إشكاليات في الذوات بينها وبين الآخر ضمن علاقة الارتباط الاجتماعي (الزواج) باعتباره شكلا منطقيّا لضبط المسؤولية الجنسيّة والاجتماعية في المجتمع البشري عموما والمجتمع العماني خصوصا، وجرأة العمل تنشأ مع الصوت المرتفع الذي يظهر إشكاليّات الارتباط هذه بين الديمومة والاضطراب الذي يؤدي إلى طريقين؛ الإبقاء عليه مبطّنا بكثير من الانثيلات العاطفيّة والاجتماعية ضمن (النفاق الذاتي والمجتمعي) أو الخروج عنه إلى الخلاص وإنهاء الصراع.
إضافة إلى كثير مما يعود إلى هذه المنطقة الباهتة تنتصر الكاتبة في مجموعتها لمعاناة الواقع المعيش لكثير مما لا يلتفت له الأدب بأدوات الداخل الأسريّ؛ فتقرأ المعاناة بعين السّارد البطل باعتباره مركز المشاهدات الزمنيّة كما في نص (ذا برونكس عمان)؛ حيث حللت الشخصيّة الكثير من القضايا المرتبطة بحياتها وتطوّر فكرة السكنى، وتأتي رؤية أجزاء تشكيل أزمة النص من جهتها مختلفة لارتباطها برسم حركة البحث الموازية لسرد تفاصيل تشكيل عقدة القصة التي ولدت من رغبة البحث عن سلام «سكنّا الخوض لفترة طويلة في بيت جدي، وبسبب مشكلات معقّدة ونقار يوميّ قرر والدي أنْ يأوينا في بيته الخاص» ص14، وفي هذا النص والذي يليه تبدو الشخصيّة المحوريّة ذات شكلين من المسؤوليّة؛ في الأولى تعود إلى عالمها الذي تستحضره في ساعات البحث عن المسكن بحضور تحليلاتها عن الأحداث وردّات الفعل وأشكال الصراع بين الأطراف، أو بين والديها، والثانية تعود إلى المُدانة باليباس على الرغم من ظلّها، حيث تدفع ثمن البقاء مع عائلتها في موضع التهم والقسوة، فالأولى على عتبة الاختيار في ظل قسوة الواقع. «أمّا جيل التسعينيات؛ جيلي، الأبناء الصغار الفقراء، فيأخذون قروضا لبناء منزل من خلفيّة ماليّة مفلسة تعتمد على رواتبهم فقط» ص16، فنجد الخوف والقلق في الشعور بمسؤوليّة باهتة أمام ما تعيشه العائلة من شتات في البحث عن مسكن؛ إضافة إلى تعيين ملامح المستقبل الخاص، وفي النصّ الثاني هناك أنفاس تستحقها رئتا الكائن الذي يكتسحه استعباد الوظيفة لاختيار أسباب الحياة. «أمّاه لو كان بيدي لَمنحْتك كلّ شيء، لكن لم يَعُد لديّ ما يكفي، أريد أنْ أشْتري سيّارة، على الأقل سأدفع فاتورة الكهرباء لكن ليس أكثر من ذلك؛ قلت ذلك برجاء جريح «ص30». إنها اللحظة التي تبرز كثيرا من الأسئلة المطروحة على الذات المجلودة من قبل صاحبها، لماذا أنا فقط، ماذا عليّ أنْ أفعل لأحصل على بعض الرضا، وبعض الاحترام. هذه الشخصيّة لا تظهرها الكاتبة منعزلا عن العالم؛ فهي تحاكم الضعف أمام الآخر في لحظة الاختيار، وليس ما يصل إليه القارئ من المواقف هو فقط ما ترصده التجربة؛ إنه تحت مجهر متخصّصة ترصد القيمة التي تضيع أمام تحوّلات العالم في أي مجتمع صغير، فالمجهول في عمل قصصيّ شكل مختلف بظروفه في عالم آخر يعني تجزؤ القيمة البشرية في صراع الذوات، وأسماء الشّامسي تحمّل لحظات الاختيار المسؤولية الكبرى.
«أمي، ومريم، وحمد، وجدتهم جميعا يقفون أمامي مثل موجة تنطوي في هيئة مخروطيّة تتجوّف شيئا فشيئا، كان عليّ أن أندفع أكثر بقوّة، بصلادة أمامهم، كمتزلج أمواج ماهر ـــ لم أكن أحمل عُشر احترافيّته ـــ لأنجو. اندفعتْ مشاعري تجاههم كتظاهرة محتشدة... إلى آخر دفاعاتي؛ أنْ أتحوّل كوحشٍ في موقع تهديد» ص33. إن الكاتبة توظّف تشكيل المشهد هنا بكثير من الأدوات النفسيّة التي تتيحها لغة الوصف وتعيين الملامح، وباعتبار الشخصيّة المسؤولة الأولى عن النتيجة؛ ليس لكونها ضحيّة فقط بل لأنها فكرة تتعلّق بزمنيّة الاختيار وطبيعة المواجهة في محيط اختلاف الرؤى والقيم وكل ما يتعلق بوعي النظرة إلى الحياة واستحقاق الذات فيها بذاتها.
إنه جزء من التّردد منشأه تراكمات النقص والتعيين الجمعي باعتبار ثنائيّة (ذكر/ أنثى) في كفّتيْ ميزان (قويّ/ ضعيفة)، تتبعه الكاتبة في الوقائع والقصص والتجارب منطلقة من قراءتها الاجتماعيّة، وتأتي شخصيّة القصّة مجموعة من تمثّلات الاختيار والنكوص شعورا بالرغبة في النجاة أو الاستسلام أمام تراكمات الاقتناع بالضعف. «لم أدرِ ما أنا فاعلة. كنت أفكّر فعليّا في مواساة الأشياء التي لا تتحرّك... هل أتمادى؟ هل أثور؟ (ثمّ سؤال مصيريّ لحظة الشعور بالتلاشي والضياع) ماذا لو غادرت المنزل؟ بدت فكرة عظيمة وحلا نهائيّا لكل هذا العذاب... ستكونين طعاما للكلاب في الشارع لو فعلت» ص38. إن الكاتبة تشكّل محاكمة الذوات هنا باستقراء المواقف التي طالما تتكرّر أمام ثنائيّة (قويّ/ ضعيف) في وجود الشعور بتيه عاطفيّ أمام الانتماء إلى العائلة على الرغم من اختطافها حياة الفرد، أو الخروج عليها على الرغم من صعوبة الأمر في الغالب.
«سوف يرعبك شيء واحد، أنه ما زال نائما بجوارك، كأنه يموت معك أبدا» ص43. هذا الماثل في نصّ (الرجل النائم إلى جوارك)؛ شكل من العلاقات التي تخفي أكثر أجزاء الحياة الاجتماعيّة تحوّلا، لحظات تطوّر الوعي لدى الذوات بمفهوم واحد يختزل الحياة أو يتركها؛ (الشغف)، ثمّت هي مرحلة مهمّة يشير إليها أحد الخبراء النفسيين بمؤشرات تغيّر النظرة إلى الحياة، وقد ينهار الآخر تماما بشكله وتفكيره أمام هذه التّحولات، توظّف الكاتبة التوقعات ضمن ملموسات الحياة أفكارا ونتائج، وعلى الرغم من أنها لا تجبر المشهد في تكاثفه على إعطاء فرَص الخروج؛ لكنّه ومن خلال خبرتها تشير إلى أكثر من نافذة مرتبطة بتحوّلات الذوات يمكن الاختيار عندها، أو الاكتمال باللامعنى؛ «كان الرجل النائمُ يذهب ويجيء بماضيه وحاضره ومستقبله كلّه داخلها، بينما استقبلت كل ذلك برغبة عارمة» ص50. ولهذا فصور الاعترافات في المجموعة تقابل صور حياة ملموسة في الذوات بأشكال مختلفة من القبول أو الرفض، وبمحاكمة الذوات أمام رغباتها تقيم الكاتبة تناظرا يبدو بعيدا في الداخل النفسيّ، وجرأة ما يطفح على خارج الذوات ينبني على صمت مميت تعيشه ذوات كثيرة تضحية أو تسليما.
الحياة التي لا يريد الكثيرون أن يضعوها ضمن صيرورة جنسنا البشريّ إنكارا للمتغيّر البشريّ أو للضعف الإنسانيّ في مجتمع يتمنوه ملائكيّا (باعتبار الملاك بعيدا عن الرغبة) تزأر في تفكّك الداخل البشريّ بطبيعته في الخلاص من مسكنته أو رغبة في ذاته بكل تحوّلاتها، فالذات ليست ما هي عليه وليس ما يراها عليه الآخر، وفي ملموس الواقع سطوة الاختباء أو ضريبة التّفشّي وما بينهما إظهار أو تظاهر أو مقاومة. كل ما يعني هذه المناطق في الذوات تتجلّى بصور كثيرة في النص الواحد؛ فضلا عن تعدّد صورها في المجموعة كلها بأنواع مختلفة من الإخفاقات والانتصارات على الاختباء والضعف، لكنّ محاكمة الذوات أمام اختياراتها قبل أنْ تتحوّل إلى رمادا. وما استعرضه نصّ (مدينة الرغبات) هو تمثّلات الذوات في معترك الاختيار، فكلّ شيء يقع في المتناول إلا ما يملأ الذات في المشترك، وكأن الكاتبة تدفع المشترك إلى أنْ يكون واعيا بطبيعة تحوّلات الذوات على الرغم من أنه هو نتيجة اختيارها، فالمدينة تضيق بالذوات في بحثها عن المعنى الذي ولد إثر التحولات. «مسقط مدينة رغبات، ولا أقول مدينة حبّ، فكثير عليها أنْ تكون كذلك، وعزيزٌ على الحب أنْ يُضرب به المثل عليها» ص80، المكان انعكاس الذوات، يُدرك كما يقول يوري لوتمان حسّيا بخبرة الإنسان بجسده، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذا الامتلاء والخواء العاطفيّ أو الجسدي بتأثير المكان، واستبداله ببعيد آخر لا يمكن أنْ يسحق الشعور بتأثيره، وفي نصي (تعبُ الحكايات، والحج إلى مسقط) يشكّل المكان مزيجا من الهرب من/ إلى الذات، وهو حاضر بثقل شعوريّ واعٍ يرتبط بتلك الرغبة في رؤية العالم من زاوية تحاول الكاتبة أنْ تختزل مساحات التّحولات في شخوص القصّة بالمسافات بينها وبين واقعها، وكما قلنا سابقا فإن ذكاء العمل في ما يطفح حقيقة على سطح واقع نحاول تجاهله.
المجموعة ترسم مساحات هذه الاعترافات بما لا يمكن الإحاطة به في هذه العجالة التي حاولت مقاربتها انطباعيّا من جهة (شفافية الفكرة).
محمود حمد شاعر عماني