لجريدة عمان:
2025-12-09@19:18:00 GMT

«قصتي الحقيقية»

تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT

يبدو أن خوسيه مياس مشغول بالأبوين. فروايته «هكذا كانت الوحدة» تبدأُ بموت الأم، وتداعي العالم بعد هذه الحادثة، الموت الذي ما إن تعرف الابنة الكبرى عنه، حتى تترك ساقها الثانية غير حليقة بينما تحلق في حمام منزلها. تخرجُ الابنة للعالم بساق حليقة واحدة. هنا أيضًا تكمن إحدى مهارات مياس، إنه يضفي على التفاصيل الصغيرة غرائبية ساحرة، يكثفُ ما يفكر به داخل فعل صغير ودقيق للغاية.

هذا ما يفعله أيضًا في النوفيلا التي ترجمها المصري أحمد عبد اللطيف بعنوان «قصتي الحقيقية»، إذ يوجه صفعات متتالية لأبيه الذي يتجاهله مرارًا؛ لأن هذا الأب يقرأ طيلة الوقت، ويعزل نفسه بعيدًا عن أسرته، كانت تلك الصفعات عبر التبول على ملاءات السرير مهما تقدم هذا الطفل في العمر.

تدور حكاية «قصتي الحقيقية» عن طفل وحيد، يعاني من كراهية أبيه له. لكنه مع ذلك لا يتوقف عن محاولة إرضاء هذا الأب، مهما كلفه ذلك. يرتكب هذا الابن ما يبدو أنه تسبب في جريمة كبيرة، عندما رمى كرة زجاجية صغيرة جدًا من جسر في المدينة التي يعيش فيها، ليتسبب بحادث سير، راح ضحيته أب وأم، وخلفا وراءهما طفلة صغيرة مشوهة وستفقد ساقها. هذه الطفلة التي سيحبها بطل القصة كلما تقدمنا في القراءة، بل سيولعُ بها. يعيش هذا الطفل في عار ارتكاب تلك الجريمة، التي تغير حياته للأبد، خصوصًا وأنها سر لم يشاركه مع أحد، يصبح ممسوسًا بكونه مجرما وسفاحا حقيقيا، الأمر الذي يحيل القارئ على الفور لرواية ديستوفيسكي الشهيرة «الجريمة والعقاب».

لا يتركنا خوسيه مياس دون أن يستثمر «الجريمة والعقاب» بشكل صريح في الرواية، إذ إن بطلها يتجنب قراءة هذه الرواية، ورغم أنها تلاحقه كيفما ولى، إلا أنه اعتاد أن يدير ظهره لها، إن ما يفعله مياس هنا ذكي وحذق، إذ إن المراوغة التي تجري بين الشخصية الرئيسية في «قصتي الحقيقية» ورواية «الجريمة والعقاب» هي نفسها تلك المراوحة التي ما انفكت تحدث بين راسكولينكوف والجريمة التي ارتكبها بقتله العجوز، وبشعوره باقتراب اكتشاف أمره، أو محاولته هو نفسه للاعتراف بالجريمة. هنالك إذن اشتغال مياسي على مستويين هنا: مستوى ملاحقة هذا العمل الأدبي وما تعنيه هذه الملاحقة المستمرة، ومستوى أن يكون هذا العمل الأدبي هو الجريمة والعقاب لديستوفيسكي، ذلك العمل الذي تتردد فيه الشخصية بين ما إن كانت خيرة أم شريرة، ما إن كان ما فعلته هو صائب أم هو جريمة بشعة يستحق عليها العقاب، ولعٌ مرضي بالحادثة، وانهماك متطرف بها، كما يجري في «قصتي الحقيقية».

الطريقة التي يقرر بها بطل القصة تجسيد حالة الانهيار التي يمر بها بين أسئلته هذه التي يطرحها على نفسه كمجرم، هي الكتابة، يستثمر ذلك أيضًا وبشكل ممتاز في محاولته الحثيثة لإرضاء والده، كما ذكرت في بداية هذه المقالة، فأبوه قارئ، وإذا ما كان قارئًا فيمكن أن يحقق بطل القصة تواصلًا فعليًا مع أبيه بالكتابة، أو كما يقول في مشهد روائي رائع لأبيه عن اهتمامه بالكتابة: لو كنتَ سجانًا يا أبي فسأكون سجينًا ! يدون إذن حكايته في مذكرة يحتفظ بها في مكان قصي عن متناول يد أمه التي يعيش معها بمفرده بعد أن تركهما الأب، الأمر الذي ادعى أنه بسببه بطبيعة الحال! كما كل شيء سيئ يحدث بسبب هذا الابن المنحوس فحسب!

نشتبك إذن في هذه النوفيلا القصيرة مع سؤال الكتابة، ما الذي يجعل مني كاتبة مثلاً؟ وكيف سأكتب ما أريد قوله فعلاً. ثم إنني ما إن أفعل ذلك، ما الحدود بين الشخصي والمتخيل، هل ستكتشف أمه أن الجسر الذي ينتحر من عليه طفل صغير كتب عنه في قصة قصيرة فازت على مستوى إسبانيا، بأنه الجسر نفسه الذي أسقط منه كرته الزجاجية التي ستقتل عائلة إيريني وتجعلها طفلة وامرأة معوقة مقطوعة الساق للأبد؟ في هذا الاشتباك المحتدم الذي ينجح مياس في صناعته، يمرر لنا الممارسات العائلية التي نألفها، كالأسرار التي نقرر رغم معرفتنا بها ألا نكشفها لبعضنا البعض، للتواطؤ العائلي كما أحب أن أسميه على فاجعة ما، ودفنها تحت السجاد، أو تحت الزمن! يكتب بطلنا إذن، ويفوز، لكن فوزه هذا بالتحديد ما سيجعل أباه ينفر من قراءته، فالمؤلفون الذين يحصلون على الجوائز مبتذلون بالضرورة، رائجون، ويقدمون كتابة تجارية، الأمر الذي يكاد أن يُذهب عقل بطلنا الذي استمر في رباطة جأشه أمام والده القاسي هذا، واستمر في سعيه المحموم لإرضائه.

تكتشف مع مرور الوقت الأم علاقة ابنها بإريني، وما إن تدخل غرفته في أحد المساءات التي ظن فيها الابن أنها لن تعود إلى المنزل مبكرًا حتى تفجع بالساق الاصطناعية بجانب سرير ابنها بينما تستلقي هناك امرأة بساق واحدة، تطرده من البيت، فيلجأ لأبيه، هذا الأب الذي سيحب ابنه ويقبله أخيرًا، لماذا يا ترى؟ لقد أعجبه خيال ابنه، هذا الخيال الذي دفع هذا الولد ليحب ابنة مقطوعة الساق، يصبح الابن إذن كائنًا خياليًا، كائنًا حلميًا، تنتمي لعالم الأب أخيرًا، العالم الذي يفقه فيه، عالم الأحلام في الكتب، وها هو أخيرًا في ظل قبول الأب وخيلاء الظفر بهذا القبول. يختم مياس الرواية على لسان بطله: «أشعر أنني مدان منذ ميلادي بنوع من اللاواقعية».

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجریمة والعقاب

إقرأ أيضاً:

فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر

طاهر علوان -

في الحياة كما على الشاشة تبرز الشخصية كعنصر أساس في الأحداث وفي الدراما وفي تأسيس المواقف وطرح وجهات النظر والأفكار. إنها المنتجة لتلك الكثافة التعبيرية والوعي والنفاذ إلى الحقائق كل بطريقته الخاصة.

ولأن الشخصية بصفة عامة تعيش روتينها اليومي فإن براعة السينمائي في كيفية تحويل ذلك الروتين اليومي إلى قيمة درامية وجمالية مبتكرة ومؤثرة، النظر إلى حياة الشخصية ومسارها ويومياتها على أنها تلك خواص غامضة وعميقة وغير مكتشفة وغير ظاهرة على السطح من هنا ندرك الخط الفاصل ما بين ركام الأفلام التي نشاهدها حلال السنوات الأخيرة والتي تعجز أدواتها عن سبر أغوار الشخصية وبالبقاء على السطح والهامش في مقابل ندرة من الأفلام التي تبتكر وتجدد وتحافظ على الجودة وهو ما نبحث عنه على الدوام. من هنا يمكننا النظر إلى هذا الفيلم النرويجي للمخرج يواكيم ترير الذي يقدم لنا شخصيات من الحياة تعيش يومياتها كالمعتاد لكنها يوميات مثقلة بالتجليات الذاتية والذكريات ويلعب الماضي دورا مؤثرا فضلا عن الصلة بالآخر، المجتمع والصلة بالمكان.

ها هو المنزل البسيط الذي تعيش فيه الاختان نورا- قامت بالدور رينيت رينسيف واغنيس- قامت بالدور انكا ليلياس، هنا ثمة حياة كاملة ضاربة جذورها بعمق في وعي ولا وعي الشخصيات وفي ماضيها وفي إرباكات الطفولة ابتداء من ذلك الجدل الحاد والصراخ ما بين الأب ــ السينمائي والأم الطبيبة النفسية والذي ينتهي بعودة الأب إلى بلده السويد فيما تمكث العائلة في البيت القديم في النرويج، المنزل بوصفه الوحدة المكانية الأساسية يتحول إلى مسرح أو صالة عرض للشخصيات وخاصة بالنسبة لنورا الأكثر حساسية وتمردا وجموحا. سوف تتعمق عقدة غياب الأب بالنسبة للفتاتين وخاصة بالنسبة لنورا، ربما سنحيلها إلى عقدة اليكترا مثلا لكننا لن نحيد عن تلك النظرة العميقة للذات والأشياء لاسيما وان غياب الأب وذكريات الطفولة غير السارة لن تحول دون وقوف نورا على المسرح وفيما جمهور حاشد بانتظار إطلالتها على المسرح لتنتابها حالة من الذعر ويستعصي عليها التنفس، كان توقيت هذا المشهد في الربع ساعة الأولى من الفيلم الممتد لأكثر من ساعتين لكنه كان كافيا لحبس أنفاسنا وتفاعلنا مع حالة شبه الانهيار للممثلة البارعة.

لقد صرنا مع توالي السرد الفيلمي أمام ثنائية الأختين، الوجهين العاطفيين المختلفين، نورا بشخصيتها الحادة والمنفعلة والصريحة في مقابل اغنيس الوديعة الهادئة التي تجاوزت أزمات الطفولة وتزوجت وانجبت طفلا وهو ما يلتقطه الأب وهو يحاور نورا.

وها هي اغنيس تمضي إلى ما هو أبعد بتمثيل دور في فيلم من إخراج والدها لكن نورا سوف ترفض فيلما كاملا مكرسا لها من إخراج والدها أيضا، وليتكامل الثلاثي الأنثوي بحضور راشيل ــ تقوم بالدور الممثلة ايل فاننك، التي سوف يرشحها الاب ــ المخرج غوستاف بورغ بدلا عن نورا لكنها تهوي إلى قاع الشخصية وتعيش محنتها وتنهار باكية وتتمثل أدق أحاسيسها لتدرك أخيرا أن السيناريو مكتوب لنورا وليس لأي شخص آخر ولهذا تنسحب معتذرة.

يمزج المخرج ببراعة بين الأزمة ويقطع الأحداث ويتنقل بين الأزمنة ويصدمنا بالتحولات في نوع من التكامل البصري والفكري الذي يجعل المشاهد يقظا متفاعلا لأكثر من ساعتين، وخلال ذلك يستخدم زوايا كثيرة جدا ومستويات تصوير وطبقات إضاءة في مزيج فريد عزز البناء الدرامي ووظف السرد الفيلمي وكأنه نسق روائي جدير بالقراءة والتأمل.

لقد حظي الفيلم باهتمام كبير من طرف النقاد لا سيما بعد النجاح الذي حققه في مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، وفي هذا الصدد يقول الناقد برايان تاليريكو في موقع روجر ايبيرت « انه منزلٌ عائليٌّ تفتح أبوابه على جهدٌ جبارٌ في الأداء. هنا التاريخ، والذاكرة، والتعبير، والفن، والصدمة - كلها منسوجةٌ في دراما المخرج ترير الآسرة، فيلمٌ يُذكرنا بانغمار بيرغمان أكثر من أي فيلمٍ آخر صنعه حتى الآن. إنه فيلم يتسلل إليك كخيال عظيم، يمزج بين الموضوع والشخصية بطريقة تسمح له بالعيش في ذهنك بعد مشاهدته، متسائلاً عما يعنيه لكل من الشخصيات وحياتك الخاصة.

استطيع أن أقول أن هذا الفيلم هو إنجازٌ في الأداءِ وكتابةِ السيناريو، فضلا عن ضرورة الإشادةِ بالتصويرِ السينمائيِّ السلسِ لكاسبر توكسين والمونتاجِ المثاليِّ لأوليفييه بوج كوتيه. يتعاون المخرج ترير معهم لإضفاء زخم سينمائي قوي لأكثر من ساعتين، مانحًا الفيلم لغة بصرية واثقة دون لفت الانتباه إليه بشكل مبالغ فيه».

أما الناقد ريتشارد كوهيل فيكتب في موقع اوكسفورد أس فيقول « هذا الفيلم هو أحد هذه الجواهر الخفية. بعد نجاح فيلمه الروائي الطويل الأخير، والذي رُشِّح لجائزة الأوسكار، «أسوأ شخص في العالم»، أعاد المخرج ترير كلاً من الكاتب المشارك إسكيل فوغت والممثلة الرئيسية رينات راينسفي إلى دراما جديدة.

تكمن قوة فيلم في الصورة الدقيقة والمعقدة لأبطاله الأربعة.

يتميز أداؤهم بدقة متناهية تجبر المشاهد على الانتباه جيدًا للغة الجسد وتعابير الوجه، مما يعني أن الفيلم ينغمس تمامًا في أحداثه.

إنه فيلمٌ دقيقٌ وعميقٌ، نجح في تجسيد ديناميكيات شخصياته المعقدة بشكلٍ آسرٍ.. يُظهر الفيلم أن التنفيذ الدقيق والسيناريو المُحكم هما كل ما تحتاجه لسرد قصصٍ آسرة. في وقتٍ تُراهن فيه هوليوود بشكلٍ متزايد على الكمّ على الكيف، يحتاج المشاهدون إلى بذل قصارى جهدهم لدعم أصواتٍ بديلةٍ مثل صوت ترير لضمان استمرارية صناعة الأفلام المستقلة».

هذه الخلاصات المهمة تعطينا صورة تعود لمجد السينما الإسكندنافية والسويدية تحديدا على يد المخرج الكبير انغمار بيرغمان وروائعه وتحفه السينمائية الخالدة، وتجد في هذا الفيلم امتدادا وبعضا من تلك الخميرة، خميرة الصنعة والإتقان والمهارة في رسم المسارات الدرامية والبناء السردي والحبكات الثانوية. هنا الشخصيات تعيش ذاتها كما هي وأزماتها بلا ضجيج، تعابيرها كافية ونظرة العين تختصر الكثير من الحوارات.

خلال ذلك هنالك معطيات غزيرة من الناحية الفكرية والجمالية، وهنالك محنة الإنسان، التوالي المر للذاكرة الحزينة ، غوستاف ــ الأب شابا وهو يواجه عاصفة موت الأم أو انتحارها، صفحات من أيام الحرب العالمية الثانية، أرشيف يكفي لتطلع عليه اغنيس وليس نورا لأنها لو اطلعت عليه لزادت الأزمات تفاقما.

المخرج ترير لا يكتفي بسرد الحكاية وتقديم الشخصيات بل انه يجد القواسم المشتركة الإنسانية العميقة، الإحباط والحزن والأنانية والشك والخوف والعزلة كلها تحتشد وتحوم حول الشخصيات وحيث تتناغم الشخصيات في تلك الدائرة مع انها وهي في اكثر المشاهد تصعيدا وفي اشد مواقف الشخصيات سخطا ما تلبث أن تعود إلى سيرتها الأولى، تحن إلى الماضي الأجمل ومثال ذلك كلمات معدودة من اغنيس لأختها، «إنك بعد رحيل أمي غسلت لي شعري ومشطتيه وأخذتني إلى المدرسة» ليؤسس لمشهد شديد العاطفية بين الأختين وهما في ذروة أزمتهما مع الأب ليجدا أن الحل يمكن أن يكون بالرضا والتسامح وترك عجلة الحياة تدور.

سيناريو وإخراج: يواكيم ترير

شارك في كتابة السيناريو: ايسكيل فوكت

تمثيل: رينيت رينسيف في دور نورا، ستيلان سكارغارد في دور الأب ــ المخرج غوستاف بورغ، انكا ليلياس في دور الشقيقة اغنيس، ايل فاننك في دور راشيل

مدير التصوير: كاسبر توكسين

موسيقى: هانيا راني

مقالات مشابهة

  • إيرادات فيلم "السادة الأفاضل" في شباك التذاكر أمس
  • حساب المواطن: احتساب الأبناء الأكبر من سن الولاية المضافين من قبل الأب ضمن مبلغ الدعم  
  • شقيقة الفنان سعيد مختار تكشف عن الملابسات الحقيقية لوفاته
  • تعرف على المجاز وحكمه فى القرآن الكريم
  • والد مايلي سايرس يرد على ادعاء امرأة زعمت أنها والدتها الحقيقية
  • كم حقق فيلم السادة الأفاضل بالأمس؟
  • فيلم «القيمة العاطفية»: جماليات التعبير السينمائي تعكس أزمات الذات والآخر
  • جلال برجس: الرواية الحقيقية تذهب إلى العتمة لتضيئها ولا تمتدح البهجة أو الفرح الزائف
  • مطاردة في شقة بالتجمع بين الأب والأم وصديقتها والطفلة| إيه الحكاية؟
  • ما هي جنسية طارق سويدان الحقيقية؟