الكلفة الاقتصادية والاجتماعية للمعلومات المضللة
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
مع تزايد الاشتباك العالمي تزداد حدة عدم اليقين، ويستمر المشهد العالمي عمومًا في حالة من التقلب والغموض»؛ هذه هي سمة عالمنا المعاصر- كما تناولناها في مقالات عديدة سابقة- ويبدو أن هذه السمات تنتقل تمس إدراك الأفراد والمجتمعات، وتدفعهم بصورة واعية أو غير واعية لابتكار أدوات وسلوكيات للتكيف معها، حيث إن الكائن البشري بطبعه هو مبتكر لأدوات تكيفه، تلك الأدوات التي تضمن له أن يعيش وفق حيز معقول- بالنسبة له- من اليقين والوضوح.
وسط هذه المعطيات تنشأ مجموعة من المخاطر العالمية المشتركة، وتتسرب إلى النظام العالمي، مؤثرة على المجتمعات- على حد سواء- والاقتصادات والنظم السياسية، ومن بين أكثر المخاطر انتشارًا اليوم هي «المعلومات المضللة». حيث يصنفها تقرير المخاطر العالمي 2024 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بأنها الخطر رقم (1) في ترتيب شدة المخاطر العالمية خلال عامين (2024 - 2025) وستضل على قائمة أهم (5) مخاطر عالمية حتى عام 2034. تتشكل المعلومات المضللة في بيئة ترتكز على عاملين: قوة الدعاية السياسية والاجتماعية، وتوظيف التقانة وتضخيم الخوارزمية وآليات السيطرة الحكومية أو المؤسسية على انتباه الجمهور واختراق مستويات الوعي. ثم أن هناك مناخات محددة ينمو فيها خطر المعلومات المضللة؛ فعلى سبيل المثال - مثلما أوضح التقرير - فإن ثلث سكان العالم في هذين العامين سينخرطون في انتخابات رئاسية أو برلمانية في مختلف أقطار العالم وأهمها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وهو مناخ يسمح بظهور العديد من أشكال الدعاية السياسية وتحريك الاستقطاب المجتمعي. وفي جائحة كورونا (كوفيد 19) شكل الوضع العالمي المعقد والحرج مناخًا خصبًا لنشوء وتطور المعلومات المضللة وذلك بخصوص احتمالات الجائحة واستجابة الحكومات لها وعدم القبض على سيناريوهات دقيقة لمسارات تطورها. ففي عام 2020 وحده قدر موقع Statista الخسائر الاقتصادية الكلية الناجمة عالميًا نتيجة انتشار المعلومات الكاذبة والمضللة بنحو 78 مليار دولار أمريكي.
هناك ثلاثة أوجه راهنة لخطورة المعلومات المضللة؛ أولها أنه من الممكن أن تتسلل إلى مختلف القطاعات من الأسواق المالية، إلى النواحي الأمنية والآليات الحكومية، ومهددات الصحة العامة، إلى ضرب الاستقرار العام في المجتمع، ومع كل معلومة مضللة تنشأ في قطاع ما فإنها بالضرورة تتعدد لتستهدف استقرار عدة قطاعات مختلفة (مثل العلاقة بين احتمالية انتشار فيروس ما عالميا وتأثيره على أسواق المال وسلوكيات المستهلكين وتوقعات الحكومة). أما الوجه الآخر للخطورة فهو أن الآليات التقنية الناشئة من الممكن أن تبتكر في مستوى تقديم المعلومة المضللة لإلغاء أو تحييد أو تقليص قدرة الفكر البشري على فلترتها، ولعل أهمها ما يسمى اليوم بـ «التزييف العميق Deep fakes» المدعوم بآليات الذكاء الاصطناعي. ثالث أوجه الخطورة للمعلومات المضللة هو أنها (سائلة Liquid) بمعنى أنها تستطيع الاندماج في فضاء من الحقيقة الاجتماعية، وغالبًا ما يتم تصميمها وبثها بطريقة تتناسب مع المزاج الاجتماعي السائد. وهذه نقطة محورية جدًا تستلزم تعزيز قوة الفكر النقدي لدى الأفراد عبر مختلف المراحل العلمية والعمرية. وهناك كلفة اجتماعية واسعة لانتشار وتمدد المعلومات المضللة؛ منها توليد الانقسامات المجتمعية، وإضعاف ثقة الأفراد في الحكومات والمؤسسات على حد سواء، وتعريض الأفراد لمصادر غير صحية من المعلومات قد تؤثر سلبًا على خياراتهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية وقد تهدد النظام الصحي والاجتماعي والاقتصادي القائم في المجتمع.
الحكومات مدعوة اليوم عبر أذرعها الأكاديمية والبحثية لمناقشة (مُكنة التضليل Possibility of misleading) ومعرفة كيف يتسرب التضليل إلى المجتمع؟ وما هي الفئات المستهدفة غالبًا؟ ومن هم الأكثر قابلية للتضليل؟ وعند أي المستويات العلمية والثقافية؟ وما هي أكثر الوسائط التي يتم من خلالها التضليل؟ وما هي الهندسة الاجتماعية التي تستخدم في ذلك؟ الدراسات الاستباقية مهمة لأنها تحدد خارطة الطريق للعمل، وتمكن لاحقًا من وضع التدخلات الدقيقة الكفيلة برفع الوعي العام إزاء المعلومات المضللة أو فكرة التضليل في شكلها العام. وعلى مستوى الاستباق من المهم أن تكون هناك أركان ثلاثة تركز عليها الحكومات في التعامل مع المعلومات المضللة؛ أولها أجهزة التواصل الحكومي (التي يفترض أن تكون مصدرًا موثوقًا ومباشرًا وتفصيليًا للمعلومة، وإذا ما حدث تسرب تضليلي تكون سباقة للدحض والتوضيح وكشف اللبس). أما الركيزة الثانية فهي على مستوى مؤسسات التعليم (التي يتوجب أن تراجع جرعات التفكير النقدي في نظم التعليم ومناهجه وأن تكون تلك الجرعات متضمنة لتوعية الدارسين بآليات معرفة وتفكيك المعلومات المضللة لغويًا وموضوعيًا). أما الركيزة الثالثة فهي في منظومة التوجيه العام التي يقودها الإعلام ومبادرات وحملات تغيير السلوك (التي يجب أن تدرب عموم أفراد المجتمع على نماذج بناء المعلومات المضللة وأدوات وطرق تحليلها ومساءلتها ودحضها). كل هذه الركائز يجب أن تكون كذلك بمنظومة قانونية رادعة، لا تتسامح مع هذا الخطر، ولا تتساهل مع منابع بنائه وانتشاره؛ فمعلومة مضللة واحدة استطاع مصدرها أن يبنيها ويمررها بذكاء من شأنها أن تهدم مجتمعًا أو تقوض صلة وثقة أو تهدد نظامًا اقتصاديًا قائمًا.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المعلومات المضللة أن تکون
إقرأ أيضاً:
بمناسبة اليوم العالمي للإقلاع عن التدخين.. مصر تُسجّل تراجعًا لافتًا في معدلات التدخين
في إطار اليوم العالمي للإقلاع عن التدخين، الذي تُحييه منظمة الصحة العالمية سنويًا في 31 مايو، أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، اليوم الخميس 29 مايو 2025، تقريرًا يكشف عن مؤشرات مشجعة فيما يخص ظاهرة التدخين.
اليوم العالمي للإقلاع عن التدخيناليوم العالمي للإقلاع عن التدخينوأبرز ما جاء في التقرير هو انخفاض نسبة المدخنين بين المصريين الذين تبلغ أعمارهم 15 عامًا فأكثر إلى 14.2%، أي ما يُعادل نحو 10.3 مليون شخص.
ويمثل هذا الانخفاض تراجعًا ملحوظًا مقارنةً بنسبة 17% التي سُجّلت خلال مسح عام 2021/2022، ما يعكس نجاحًا ملموسًا في جهود التوعية والسياسات الصحية.
تراجع معدلات التدخين في مصر إلى 14.2%وحول هذا التطور، علق الدكتور محمد حنتيرة، أستاذ أمراض الصدر، بأن انخفاض نسبة المدخنين يُعد مؤشرًا واعدًا على تحسن الصحة العامة، خاصةً فيما يتعلق بالأمراض المرتبطة بالتدخين كأمراض القلب والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي.
وأشار إلى أن تراجع هذه النسبة يعني خفضًا محتملًا في نسب الإصابة بالأمراض المزمنة، وهو ما يُعزّز الأثر الوقائي لحملات الإقلاع والحد من التدخين.
تقرير يرصد تأثير نقص البدائل الخالية من الدخان على استراتيجية إفريقيا في مكافحة التدخين نائب وزير الصحة يشيد بأداء عدد من المنشآت الصحية بقنا ويمنح مهلة لتلافي السلبيات تشريعات صارمة ووعي متنامٍوأوضح حنتيرة أن جزءًا كبيرًا من هذا التراجع يعود إلى تطبيق قوانين صارمة تُقيّد التدخين في الأماكن العامة والمغلقة، بالإضافة إلى فرض غرامات على المخالفين.
وأكد أن هذه السياسات ساعدت في تقليل فرص التدخين، خصوصًا بين الفئات العمرية الأصغر، إلى جانب دور حملات التوعية المستمرة التي ركزت على إيصال الرسائل التحذيرية للفئات الأكثر عرضة كالشباب والنساء.
أهمية الدعم للإقلاع عن التدخينولفت الدكتور حنتيرة إلى ضرورة استمرار دعم المدخنين الراغبين في الإقلاع عن هذه العادة، وذلك من خلال برامج طبية ونفسية متكاملة، تشمل تقديم بدائل علاجية فعالة كالعلاجات البديلة للنيكوتين.
كما شدد على أهمية إدماج الدعم النفسي ضمن هذه البرامج، باعتباره عنصرًا حاسمًا في نجاح عملية الإقلاع.
السجائر الإلكترونية تحت المجهروحذّر حنتيرة من ازدياد انتشار السجائر الإلكترونية، خاصة في أوساط الشباب، موضحًا أن مخاطرها لا تقل عن السجائر التقليدية، بل وقد تكون أكثر خطورة بسبب غموض آثارها الصحية طويلة الأمد. ودعا إلى ضرورة تعزيز الوعي بمخاطر هذه البدائل الحديثة، وتشديد الرقابة عليها.