انشغلت مواقع التواصل الاجتماعى فى الفترة الأخيرة بأمر عقد مقارنات أحوالنا بأحوال الغير، بدلاً من تقدير ما نمتلك وما نحن عليه والانشغال بما يتم وضعه من خطط علمية لاستثمار كل الإمكانيات المادية والتطبيقية لبناء إنسان المستقبل القادر على المنافسة والاشتباك الإيجابى مع الآخر المتقدم..
معلوم أنه مع كل طلعة شمس يقدم لنا العلم والعالم معطيات جديدة لواقع مذهل يتشكل وينمو، والكثير من تلك المعطيات كفيل بتشكيل ملامح عالم جديد يفرض نفسه علينا، أو على الأقل قادر على تغيير الكثير من مفاهيمنا وتصوراتنا عن أمور كنا نراها ثوابت ونأمل أن نبنى عليها، فإذا ببعضهم يقدم لنا وللعالم البدائل الأفضل أو الأكثر قدرة ومنفعة للتعامل الأسرع أو الأقوى أو الأكثر نجاحاً وأغزر إنتاجاً إيجابياً.
وهنا يبرز السؤال، هل لدينا ثقافة المواجهة الفاعلة والتعامل السلس البناء، أو ما يطلق عليها مقومات «المناعة الثقافية» الكفيلة بالتعامل مع المعطيات الجديدة والقادرة على عمليات الفرز الإيجابية ورفع قدر المناعة الثقافية على المستوى الجمعى؟
وفى مواجهة ذلك السؤال عند طرحه على أرض الواقع، ينبغى إدراك أننا أمام مجموعة من التحديات فى مواجهة دنيا وعالم متعدد المفاهيم القيمية والعلمية، وعلينا الانفتاح الموضوعى ورفع شعار «نعم نستطيع»، دون التعرض لتيبس مفاصل الحركة بدعوى الحفاظ على الهوية والتراث والقيم والأصول، فالدول التى تمتلك «المناعة الثقافية والفكرية» قادرة على الفرز الإيجابى والتعامل العلمى الفاعل مع المعطيات الجديدة مهما كانت درجات الصعوبة الناشئة من حالات التباين بين القوى المتنافسة..
دون هوية اجتماعية وثقافية ينسلخ الناس عن بيئاتهم الاجتماعية والثقافية، بل عن أنفسهم تماماً، ودون تحديد واضح للآخر لا يمكنهم تحديد هوياتهم الاجتماعية والثقافية، ويشير «برهان غليون» إلى أنه «لا تستطيع الجماعة أو الفرد إنجاز مشروع مهما كان نوعه أو حجمه، دون أن تعرف نفسها وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة متميزة، فقبل أن تنهض لابد لها أن تكون ذاتاً»..
ولعل المقصود هنا بالهوية أنها جملة الملامح والرؤى المميزة للشىء التى تجعله هو هو، بحيث لا تخطئ فى تمييزه عن غيره من الأشياء، ولكل منا- كإنسان- شخصيته المميزة له، فله نسقه القيمى ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته، وهكذا الشأن بالنسبة للأمم والشعوب..
لا شك فى أن هوية الشىء هى ثوابته التى لا تتجدد ولا تتغير، وتتجلى وتفصح عن ذاتها دون أن تخلى مكانتها لنقيضها طالما بقيت الذات على قيد الحياة، إنها الشفرة التى يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه فى علاقته بالجماعة الاجتماعية التى ينتمى إليها، والتى عن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتمياً لتلك الجماعة..
وعليه، أرى أن الهوية الثقافية هى فى النهاية أساس التركيبة الحية للشخصية الفردية والجماعية، والعامل الذى يحدد السلوك ونوع القرارات والأفعال الأصيلة للفرد والجماعة، والعنصر المحرك الذى يسمح للأمة بمتابعة التطور والإبداع المتسق مع الهوية..
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: رؤية مواقع التواصل الإجتماعى الهوية الثقافية
إقرأ أيضاً:
المجلات الثقافية.. بين الحبر والخوارزمية
هزاع أبو الريش (أبوظبي)
أخبار ذات صلةرغم التحولات الرقمية الكبرى، وهيمنة الذكاء الاصطناعي على المشهد الإعلامي، لا تزال المجلات والصحف الثقافية الإماراتية تسجل حضوراً متماسكاً ومؤثراً، يوازن بين جماليات الورق، وديناميكية النشر الرقمي. وفي ظل هذا التداخل، تتنوع التجارب وتتعاظم التحديات، لكن الإصرار على البقاء يتغذى من إيمان المؤسسات بقيمة الثقافة واحتياجات القارئ المعاصر.
ثوب معاصر
ندى الزرعوني، مدير تحرير مجلة المقطع، الصادرة عن الأرشيف والمكتبة الوطنية، ترى أن «إصدار مجلة ثقافية في زمن الهيمنة الرقمية كان تحدياً أقرب للمستحيل»، لكنها تصف التحول بالقول: «لم يكن من الصعب أن أجد نفسي أحاول أن أفتح كوة صغيرة في هذه المؤسسة العريقة، أنقل عبرها لجميع المهتمين حكايات من التاريخ حول عظمة هذه الدولة، باعتماد كلي على ما نحتفظ به من وثائق وصور وفيديوهات وتاريخ شفاهي». وتؤكد الزرعوني أن التفاعل الجماهيري الكبير مع المجلة فاق التوقعات: «اكتشفنا بعد فترة وجيزة من انطلاق المجلة أننا نواجه طلبات لا تنتهي لنسخ المجلة ونرفع نسبة الطباعة مع كل عدد».
خادم لا خصم
من جهته، يوضح الدكتور وليد الساعدي، رئيس تحرير مجلة المنارة الإماراتية، أن الدولة «من الدول المتقدمة جداً في مجال الذكاء الاصطناعي، ما انعكس على مختلف أوجه الحياة، ومنها الإعلامية والثقافية».
وأشار إلى أن المجلات الثقافية الإماراتية واكبت هذه الطفرة بذكاء، حيث «أسهم الذكاء الاصطناعي في إتمام المهام الروتينية مثل التدقيق اللغوي، تحليل البيانات، وتوقع اتجاهات القراء».
ويختم بالدعوة إلى التوازن: «على الجهات والمؤسسات المعنية أن توازن بين الإبداع واستخدامات الذكاء الاصطناعي حتى نصل لنتيجة مرضية».
القاعدة الجماهيرية
أما الشاعر والكاتب خالد العيسى، مؤسس ورئيس تحرير صحيفة هماليل الأدبية، فيصف المشهد الإعلامي بأنه قائم على استراتيجيات «واعية ومهنية عالية المحتوى والمضمون»، مؤكداً أن النجاح في الإعلام يعني مجاراة الواقع، فيقول: «من أساسيات الإعلام مجاراة الواقع، والسير على الطريق الذي يوصلك إلى الجمهور، ويسهل عليك إيصال الرسالة».
ويكشف العيسى عن أن صحيفة هماليل تبنت هذا النهج منذ انطلاقتها: «حظيت الصحيفة بالعديد من المشاركات الثقافية في المحافل والمعارض الدولية، التي جعلتها تثبت وجودها بجدارة». ويضيف بثقة: «نحن حالياً بصدد التواجد بشكل جديد ومختلف يواكب المرحلة الراهنة، كما تتطلبه التحديات».
أرض الواقع
تُثبت هذه التجارب أن المجلات الثقافية الإماراتية لم تركن إلى الماضي، بل استخدمت أدواته، ودمجتها برؤية معاصرة تتجاوز الهيمنة الرقمية، وتسعى للحفاظ على الهوية الثقافية في زمن السرعة والتقنية. بين الورق والذكاء، تظل الكلمة الأصيلة سيدة الحضور، وتظل المجلة نافذة لا تغلق.