عندما تتحول الحالة اللأخلاقية الى الحداثة
تاريخ النشر: 18th, May 2024 GMT
فوزي عمار
أنتجت الحرب العالمية الثانية خلخلة اجتماعية في طبقات المجتمع، منها موت الرجال وخروج النساء للعمل وظهور أبناء الاغتصاب وهم بمئات الألوف، خاصة في نساء ألمانيا على يد الجنود الروس، مما أدى للمجتمع أن يعترف بقوانين جديدة لا تقدس العائلة وتعترف بآلام العزباء.
وظهر الفن التشكيلي الذي يعبِّر بالأساس عن الحالة النفسية المتشظية بعد حالة الحرب وظهر فلاسفة يكفرون بالإله، ويعلنون موت الاله مثل نيتشه في قوله "مات الإله بعد كل هذا الدم الذي سال".
كل هذا أنتج مفهومًا وواقعًا اجتماعيًا جديدًا، وحتى لا نطلق عليه وفق التقييم السابق اللا أخلاقي، أُطلقَ عليه "الحداثة وما بعد الحداثة"، حتى تتغلب هذه الشعوب على واقعها المرير الجديد وتتعايش معه ولا تستعر منه؛ بل وأصبح مدعاة للتطبيق من قبل شعوب أخرى لم تمر بالتجربة المخجلة ذاتها، وليس في حاجة لها تحت وطأة ماكينة تسويقية للمنتصر الذي يقتدي به المهزوم، كما يقول المفكر العربي ابن خلدون.
إنها أزمة أُمّة لا تملك مشروعًا خاصًا بها.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عندما يلبس المثقف لباس الواعظ في إقصاء المختلف
مصطلحات إقصائية اعتاد اللاهوتيون والمتكلمون إطلاقها لإقصاء بعضهم كالوثنية والهرطقة والأغيار والمبتدعة والزنادقة ونحوها، وعادة لا تطلق كحد تصنيفي، بقدر ما يتجاوز الحال إلى استخدام السلطة السياسية في حرمان المختلف من حقوقه المدنية، وقد يتجاوز الحال إلى حرمانه من حق الحياة، خصوصا لما يتكؤون على التهييج الاجتماعي، لتتحول إلى قضية رأي تضغط على الجانب السياسي، وقد تستخدم السلطة السياسة ذاتها الدين والمجتمع في حرمان من يمارسون حق التفكير والنقد الطبيعي، ولو في صورته الفردية غير المؤدلجة لاهوتيا واجتماعيا.
وإذا كان الميرزا مهدي الأصفهاني (ت: 1946م) مايز بين الوحي (الدين والقرآن)، والعقل (الفلسفة والبرهان)، والكشف (الرياضة والعرفان)، للخروج من أزمة تمازج النص الديني بنظريات وعنوصيات بشرية، إننا اليوم بحاجة أن نمايز بين السياسة والدين والثقافة، فالسياسة بنظرياتها الإجرائية حافظة لحق الجميع في تفكيره واعتقاده ورؤيته في الحياة، وهي إلى الفردانية أقرب منها من الجمعية باعتبار المساواة والعدالة، وإلى الإجراء أقرب منها من النظريات المطلقة والجامدة، ويبقى للدين اشتغاله دون أن يمارس من يعتنقه سلطة سياسية في المجتمع تهيمن على سلطة القانون ذاته، وللاهوتي حقه في معتقده وطقوسه وما يؤمن به على اختلاف رؤية الأديان والمذاهب داخل المجتمع، وله حقه أيضا في إبراز صحة معتقده دون أن يكره من يخالفه، أو يسعى إلى ممارسة العنف مع المختلف داخل التفكير الديني بين المختلفين في تأويلات الأديان نصا أو معتقدا أو طقسا، وكذا مع المختلف خارج التفكير الديني ذاته ممن له رؤية مادية أو علموية أو إنسانوية أو لادينية.
كما أن اللاهوتي لا يحق له أن يمارس دور السياسي في إقصاء الآخر كان مشتركا معه لاهوتيا أو مختلفا بالكلية، فكذلك المثقف أيضا لا يحق له أن يمارس دور السياسي في إقصاء الآخر المختلف عنه أيا كان الاختلاف، وهنا لا يعني أن لا يكون السياسي لاهوتيا أو مثقفا، كما لا يعني أن لا يكون اللاهوتي مثقفا، ويقابلهما قد يكون المثقف لاهوتيا ممارسا للسياسة وظيفيا، فهناك مشتركات بين الدوائر الثلاثة، فدائرة السياسة أقرب إلى الإجراء في تحقيق العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وفق مؤسسات المجتمع الأمنية والخدمية والمجتمعية، ودائرة الدين أقرب إلى الوجدان وحق الإنسان في الاعتقاد، وما ورثه من رؤية في الحياة والوجود، بيد أن دائرة الثقافة وإن كانت أكثر سعة في تقبل المفردات الثقافية وتعددها في المجتمع من جهة، وأقرب إلى الرصد الآني (حياة الناس وحقوقهم المعيشة) من جهة ثانية؛ دائرتها لابد أن تكون مستقلة قدر الإمكان في التفكير والرصد والانفتاح على المختلف.
ما أرمي به هنا كنا اعتدنا عند العديد من اللاهوتيين – كما أسلفت – في رمي تهم تصنيفية لإقصاء المختلف اجتماعيا وسياسيا، وفي العصر الحديث نماذج عديدة حتى داخل التيارات الدينية، كانت إصلاحية أم سلفية تقليدية، سواء كان باسم الوعظ الديني، أو باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو باسم الغيرة على بيضة الدين، دون نقد منهجي للرأي الآخر، وممايزة بين القائل وبين ما يطرحه من رأي أو فكر، ضمن دائرة البرهان لا التصنيف والإقصاء، والمتأمل – للأسف – أن بعض الاتجاهات الثقافية أصبحت تلبس ذات اللباس في نقد المختلف، وبذات التصنيفات كالماسونية والمارقة والخارجية مثلا دون نقد حقيقي لرأي المختلف، وأحيانا يعمد إلى المغالطات المعرفية في تشويه المختلف، وكثيرا ما يتبعه تناقض في الأحكام المسبقة من فترة لأخرى وقد تكون قصيرة لا يمكن بحال أن تدخل ضمن المراجعات المعرفية، والتي لها اقتضاءاتها الواضحة، بيد أن الغالب في هذا التناقض الركون لتقلبات الساسة والسياسة، أو مسايرة وتبرير الرأي العام والغالب في المجتمع، وليس ذات المعرفة، والقواعد العلمية والمنهجية، وما يتبع ذلك من بحوث ودراسات تفرز آراء ومراجعات علمية محكمة.
وأنا أتأمل الحوار بين الفيلسوف الإيطالي أومبرتو إكو (ت: 2016م) وكان علمانيا لا دينيا، وبين الكاردينال التقدمي كارلو ماريا مارتيني (ت: 2012م) وكان لاهوتيا كاثوليكيا، حيث كانت بينهما مراسلات ونقاشات لجدليات معرفية لها تبايناتها من حيث الرؤية العلموية واللاهوتية على نهاية القرن العشرين، ومنها ما يتعلق بالكتاب المقدس ذاته، وقد طبعت هذه المراسلات في كتاب «بماذا يؤمن من لا يؤمن؟»، وترجمته عن الإيطالية أماني فوزي حبشي، نجد في هذا الكتاب حوارا علميا منهجيا رصينا بعيدا عن الأحكام والتهم المسبقة، مع البحث عن المشتركات المعرفية والأخلاقية والإنسانية، وإبراز حق الاختلاف، فمثلا يرى أومبرتو إكو «أنني أعتقد بشدة أننا لابد أن نقلق على تلك المشكلات في أثناء حوارنا الذي يهدف إلى العثور على بعض النقاط المشتركة بين العالمين الكاثوليكي والعلماني... لا أعتقد أننا علينا الالتزام بمسائل آنية (تتعلق بالوقت الحالي)، ربما أقصد تلك التي ربما تستلزم اتخاذ مواقف شديدة التنافر، لابد أن نتطلع إلى أعلى، وأن نلمس موضوعا آنيا بالتأكيد، ولكن يعود بجذوره إلى الماضي البعيد، وطالما كان سبب انجذاب وخوف وأمل لكل المنتمين إلى العائلة الإنسانية...»، «حتى نكتشف أننا متفقون بشدة حول قضايا معينة مرتبطة بقيم بعينها؟ إذا كنا نرغب في حوار حقيقي، علينا أن نتحاور حول ما لا تتفق عليه، ولكن هذا لا يكفي: إذا كان الملحد على سبيل المثال لا يؤمن بعمل الروح القدس، بينما يؤمن به الكاثوليكي بالتأكيد، لا يمثل هذا سببا لعدم التفاهم، بل احتراما متبادلا فيما يتعلق بعقائد كل منهما، تُطِلُ اللحظة الحرجة برأسها عندما تنشأ من تلك الخلافات صدامات وسوء تفاهم أكثر عمقا، يُترجم فيما بعد على المستويين السياسي والاجتماعي».