برفضه دعوات اعتقال نتانياهو.. يقوض الغرب نظامه العالمي
تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT
وجهت المحكمة الجنائية الدولية الاتهامات، منذ إنشائها، إلى خمسين شخصا، منهم سبعة وأربعون من الأفارقة، كما تركزت تحقيقاتها بشكل كبير على جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية في الدول الأفريقية. والمفهوم منذ فترة طويلة وإن لم يذكر قط هو أن المحكمة وعملياتها، بصراحة، تستهدف نوعا معينا من القيادة السياسية تسهل ملاحقتها.
وذلك مرة أخرى، قول صريح وإن لم يكن كاشفا، أو ذلك على الأقل بالنسبة لأجزاء العالم الأكثر دراية بالمحكمة وتحقيقاتها. لقد عززت تشكيلة المشبوهين والمتهمين لفترة طويلة الانطباع السائد تحت خط الاستواء بأن المحكمة الجنائية الدولية محكمة للأفارقة، وربما للروس في الآونة الأخيرة. وكيف لا يكون هذا هو الدرس المستفاد وقد قامت الولايات المتحدة، في السنوات التي تلت تأسيس المحكمة، بدعم بريطانيا في كثير من الأحيان، بغزو العراق وأفغانستان بشكل كارثي وإقامة سجن خارج نطاق القضاء للمشتبه بكونهم إرهابيين، وإنشاء شبكة للتعذيب والاعتقال تابعة لوكالة المخابرات المركزية؟ والصراعات الأفريقية تعد صراعات حميمة وقبلية ومتعمدة على عكس الصراعات في أماكن أخرى. والانطباع الأساسي هو أن المدنيين في الحروب الغربية يلقون مصرعهم أو يتعرضون للاحتجاز غير القانوني بفعل الصدفة، بينما يحدث ذلك في البلاد الأخرى عن عمد.
لا بد من قدر من السذاجة كي يعتقد شخص أن تصرفات الزعماء الأفارقة أو الروس فقط هي التي تحقق معايير خرق قواعد الاشتباك في الصراع، ولكن الأمر كان دائما مغلفا بقشرة من المنطقية، وهذه القشرة انتزعت الآن برفض الولايات المتحدة وبريطانيا الساخط للخطوة التي اتخذتها المحكمة ضد نتنياهو، وتعليمات محكمة العدل الدولية بوجوب قيام إسرائيل بحماية الفلسطينيين من الإبادة الجماعية ووقف هجومها في رفح. لقد أرسلت إسرائيل قواتها لغزو منطقة أخرى، فتسببت في مقتل مدنيين في ثنايا ذلك، ومع ذلك نجد من يحثنا على الظن بأن حملتها تماثل «الحروب الجيدة» الأخرى التي شنها الغرب، فهي من تلك المهمات الأخلاقية الدفاعية التي حدثت خلالها أشياء مؤسفة. تلك الأشياء التي لا ترقى أبدا إلى المستوى الجنائي، لأن أهوال الحرب في ما يبدو لا يمكن اجتنابها.
وإسرائيل، بالإضافة إلى ذلك، دولة ديمقراطية. والبلاد التي لا تنتهي إلى قفص الاتهام هي التي تحقق في أفعالها، ولا تعدُّ بحاجة إلى رقابة أبوية من المحاكم العالمية. فقد قدم مجلس الشيوخ الأمريكي تقريرا وإدانة لأساليب الاحتجاز والاستجواب التي اتبعتها وكالة الاستخبارات المركزية، وأدان تحقيق تشيلكوت في حرب العراق الحملة العسكرية البريطانية ووجد أن الأساس القانوني لها قد تم بطريقة غير مرضية. وهذا هو أقصى ما ذهبت إليه التحقيقات. وكانت النتيجة اعتذارات (وتحدِّيًا غير نادم من توني بلير)، وكان أداء الرقابة كافيا للحفاظ على قشرة خادعة من العدالة.
أما سجل إسرائيل فيمحو كل هذه الاستثناءات. فقد عجزت أفعالها عن الوفاء بالمعايير التي وضعها حلفاؤها للحصانة من القضاء. إذ بلغت الخسائر في صفوف المدنيين في غزة حجما لا يمكن اعتبارها معه أضرارا جانبية حتمية. وبعد مرور سبعة أشهر، لم نشهد اقترابا من تحقيق هدف هزيمة حماس أو تحديده بطريقة متماسكة. والمجاعة والتهجير القسري للمدنيين أمران ممنهجان للغاية بحيث لا يمكن اعتبارهما مجرد نتائج ثانوية مؤسفة للحملة. لقد سقطت سمعة إسرائيل باعتبارها دولة ديمقراطية راسخة. وقدرتها على التحقيق في أفعالها تحقيقا ذا مصداقية معرضة لخطر كبير بسبب التاريخ القصير لحكومتها اليمينية المشاكسة التي لن تحتمل أي انتقاد، وبسبب تاريخها الطويل في تجاهل القانون الدولي بالسماح بتوسيع المستوطنات في الأراضي المحتلة.
ومن خلال الاستمرار في التعامل مع إسرائيل باعتبارها دولة مسؤولة تشوب أفعالها أحيانا عيوب إنسانية فإن حلفاء إسرائيل يجرون حسابات محفوفة بالمخاطر من شأنها أن تقوض مصالحهم على المدى الطويل. فدعمهم لتصرفات إسرائيل لا يضعف القانون الدولي فحسب، بل يضعف القدرة على محاسبة أعدائهم والحفاظ على الخطوط الحمراء ضد الدول المتحاربة في عالم أصبحت فيه أدوات النظام الدولي أكثر أهمية من ذي قبل. فالقوى السياسية والاقتصادية الصاعدة في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية تتحدى نماذج القوة الأنجلوأمريكية، وتزيد من صعوبة تحقيق أجندتها.
انظروا إلى قطر، التي لا تملك الولايات المتحدة إلا أن «تحثها» على طرد قيادة حماس السياسية من الدوحة. وإن لي من العمر ما يجعلني أتذكر زمنا كانت هذه اللغة تبدو فيه ضعيفة بشكل لا يمكن تصوره. كما أن ارتفاع حجم التجارة بين اقتصادات الجنوب العالمي يحمي البلاد بشكل متزايد من تأثير العقوبات الغربية العقابية فالشركات الصينية التي عوقبت أخيرا لمساعدة روسيا تنتمي إلى اقتصاد يعد ثاني أكبر شريك تجاري لأفريقيا بعد الاتحاد الأوروبي. والشبكات القائمة بين البلاد الخاضعة للعقوبات تزدهر خارج النظام المالي المنظم. وقد أصبح الذهب، وهو من الأصول غير القابلة للتجميد، جزءا مهما في انخراط دول مثل روسيا وفنزويلا وإيران في نظام المقايضة الدولي.
في هذا السياق الجديد، يصبح تنفيذ القانون أمرا بالغ الأهمية، ولكنه قد يكون مستحيلا. فبعد رفض دعوات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لإسرائيل إلى الامتثال للقانون الدولي، كيف يمكن للولايات المتحدة وشركائها تقديم حجة مقنعة مرة أخرى بأن قواعدهم عادلة ومطلقة، ومن ثم يجب على الجميع اتباعها؟ من الواضح بسفور أن النظام القائم على القواعد لا يتعلق بالقيم الديمقراطية وسيادة القانون وقدسية الحياة البشرية، بل بمراعاة التسلسل الهرمي العالمي الذي تكون فيه بعض الأرواح مقدسة وبعضها الآخر لا يكون كذلك.
ويوما ما، سوف تنتهي حرب غزة. وسوف يواجه حلفاء إسرائيل عالما يرفض هذا المنطق، المعلن الآن بوضوح، رفضا نهائيا قاطعا. ومخاطر ذلك أكبر مما يدركون. فهم لن يحصدوا العار الأخلاقي وحده، بل سيحصدون انهيارا كاملا لنظامهم العالمي في مرحلة ما بعد الحرب.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المحکمة الجنائیة الدولیة لا یمکن
إقرأ أيضاً:
صمت أميركي وتصعيد أوروبي.. كيف زعزعت انتقادات الغرب كيان إسرائيل؟
القدس المحتلة- بعد نحو 600 يوم من الحرب على غزة، تواجه إسرائيل تدهورا غير مسبوق في مكانتها الدولية، بعد تصاعد الانتقادات من أقرب حلفائها، حيث هدّدت بريطانيا وفرنسا وكندا بفرض عقوبات، في حين اتخذت لندن خطوات فعلية، شملت إلغاء مفاوضات تجارية، واستدعاء السفيرة الإسرائيلية، وعقاب عدد من قادة المستوطنين.
ويزداد الوضع الداخلي في إسرائيل سوءا، وسط تحذيرات من انهيار اقتصادي قد تصل خسائره إلى مليارات الدولارات، وتنامي المخاوف من عزلة دولية خانقة، حيث وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية المشهد بأنه "الأسوأ على الإطلاق"، في ظل تزايد الضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو.
وهذا "التسونامي الدبلوماسي"، كما وصفته مصادر دبلوماسية في تل أبيب، يحرج الحكومة الإسرائيلية، ويثير تساؤلات جدية حول مستقبل علاقاتها الدولية، واحتمال حدوث قطيعة مع شركاء تقليديين.
عداء عالميوقال مسؤول إسرائيلي لصحيفة "يديعوت أحرونوت": "نواجه موجة عداء عالمية، لا خطط، ولا حلول، فقط دمار، والعالم ضاق ذرعا"، بينما تتوسع المقاطعة الصامتة، وتتعمق العزلة، وتعيش إسرائيل أسوأ لحظاتها الدبلوماسية منذ عقود، على حد وصفه.
وداخليا، تتصاعد الأصوات المنتقدة لحكومة نتنياهو، بينها رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، والمسؤول العسكري السابق يائير غولان، في حين دعا إيهود باراك إلى عصيان مدني، كما امتنعت الأحزاب الحريدية (أحزاب اليهود المتدينين) عن التصويت مع الائتلاف الحكومي للأسبوع الثالث على التوالي، في مؤشرات تنذر بتفكك الحكومة.
إعلانوركزت التحليلات الإسرائيلية على ضغوط 3 دول أوروبية كبرى، أتبعتها بريطانيا بتحرك عملي مباشر، في رسالة واضحة مفادها: "كفى!".
أما الولايات المتحدة، الحليف الأقرب، فاختارت الصمت، مع تسريبات تشير لتراجع الدعم التقليدي، وسط أنباء عن "إحباط" الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أداء الحكومة الإسرائيلية.
ويعتقد مراسل الشؤون السياسية والدبلوماسية لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، إيتمار آيخنر، أن الرأي العام في الغرب بات معاديا بشكل متزايد لإسرائيل، بسبب صور الدمار وسقوط المدنيين، وسط غياب خطة إسرائيلية لإنهاء الحرب أو إعادة إعمار غزة.
ولفت إلى أن تصريحات وزراء متطرفين مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير زادت حدة الغضب الدولي، في ظل صمت أصوات إسرائيلية معتدلة؛ إذ يُتهم نتنياهو بإطالة أمد الحرب رغم مقترحات لوقف إطلاق النار، ويرى الغرب أن العمليات العسكرية تخدم أجندات داخلية أكثر من كونها تحقق أهدافا إستراتيجية واضحة.
وفي ظل هذه المعطيات، يضيف آيخنر "تجد إسرائيل نفسها محاصرة خارجيا ومهتزة داخليا، على شفا أزمة سياسية واقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة".
ضغوط العرب والغربوأكد أن إسرائيل تواجه ضغوطا اقتصادية خطيرة، وقال إن "بريطانيا وحدها تمثل شريكا تجاريا رئيسيا"، والاتحاد الأوروبي يلوّح بإلغاء اتفاقيات بمليارات الدولارات، وفي الوقت نفسه، تدرس دوله خطوات مثل سحب السفراء وتعليق التعاون العلمي والثقافي.
وأشار إلى أن فرنسا تقود تحركا للاعتراف بدولة فلسطينية، بدعم من السعودية، وقد تنضم إليها بريطانيا ودول أوروبية أخرى، في حين ترفض إسرائيل المشاركة في أي مؤتمر يبحث هذا الحل، وتلوح بردود حادة، مثل إغلاق القنصلية الفرنسية في القدس.
إعلانوحيال ذلك، يقول آيخنر إن الولايات المتحدة، "الحليف الأهم"، تلتزم الصمت، ولم تصدر أي إدانة للضغوط الأوروبية، مما يثير الشكوك حول موقفها في حال طرحت مبادرة لإنهاء الحرب في مجلس الأمن.
ولا تقتصر الضغوط الدولية على إسرائيل من الدول الغربية، بل تمتد للعرب، وخاصة دول الخليج، التي تمارس ضغوطا على ترامب، لحثّه على التدخل وإنهاء الحرب على غزة.
وحسب محلل الشؤون الدبلوماسية في صحيفة "هآرتس"، حاييم ليفينسون، فإن دول الخليج تحاول دفع واشنطن لتقديم مبادرة لوقف القتال، في ظل رفض نتنياهو الجدي أي مناقشة لإنهاء الحرب، وتعاطيه مع قضية المحتجزين الإسرائيليين قي غزة كـ"مأساة خاصة" لا كأولوية وطنية. ويرى أن استمرار هذا النهج يجعل مفاوضات الدوحة محكومة بالفشل.
يقول ليفينسون في أوروبا بدؤوا يدركون بأن اللحظة الحالية قد تكون "الفرصة الأخيرة" لوقف ما يعتبره البعض تطهيرا عرقيا واسع النطاق في غزة، وسط غضب أوروبي متزايد من تصريحات وزراء إسرائيليين، مثل سموتريتش، الذي دعا إلى تدمير غزة وتهجير سكانها وتجويعهم.
وأشار إلى أن تحالفا بين كندا وبريطانيا وفرنسا يتشكل للضغط على إسرائيل وإنهاء الحرب، مستفيدين من قوتهم الاقتصادية رغم محدودية تأثيرهم السياسي مقارنة بواشنطن.
صمت وشرخ الداخلفي المقابل، يتابع الكاتب الإسرائيلي، "تواصل واشنطن التردد"، ففي حين يبدي مسؤولوها رغبة بإنهاء القتال، يفضل ترامب البقاء على الحياد، مما يعيق طموحاته السياسية، ومنها حلم نوبل للسلام.
ويختم ليفينسون "إسرائيل تبدو معزولة دوليا، باستثناء دعم محدود من رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، في حين يترقب الجميع ما إذا كان ترامب سيتحرك أخيرا لإنهاء هذه الأزمة".
وفي خضم "التسونامي الدبلوماسي" الذي تواجهه إسرائيل دوليا، تتفاقم أزماتها الداخلية ويتعمق الانقسام في المجتمع، في ظل استمرار الحرب وغياب اتفاق لتبادل الأسرى يضمن عودة الأسرى الإسرائيليين في غزة.
إعلانوكتب المحلل السياسي شالوم يروشالمي في صحيفة "زمان يسرائيل" أن تصريحات غولان، التي دعا فيها إلى "دولة عاقلة لا تقتل الأطفال كهواية"، ألحقت ضررا كبيرا بمعسكره، رغم صحة تحذيراته من العزلة المتزايدة لإسرائيل، ووصف الكلمات بأنها "فظيعة"، حتى لو حملت مضامين صائبة.
في المقابل، يقول يروشالمي، إن نتنياهو سارع لوصف تصريحات غولان بأنها "انحلال أخلاقي"، رغم أن كثيرين يرون أن الانحلال الحقيقي يكمن في سياسات حكومته وخطواتها الفاسدة، التي عمَّقت الأزمة ووسعت رقعة الحرب.
ويعتقد يروشالمي أن تصريحات غولان أحدثت شرخا جديدا داخل المعارضة، التي تعاني أصلا من الانقسام والتشتت، مما قد يحد من قدرتها على تشكيل حكومة في المستقبل.
ومع استمرار القتال دون أفق واضح، يتابع الكاتب الإسرائيلي "تتزايد المخاوف من تآكل الدعم الشعبي"، خاصة في ظل خطر يهدد حياة الجنود والمحتجزين، وحرب تبدو في نظر كثيرين بلا جدوى أخلاقية أو إستراتيجية.
تطورات وترتيبات
وفي سياق الائتلاف الحكومي، قدّر الكاتب الإسرائيلي آفي بار إيلي، في مقال نشرته صحيفة "ذى ماركر" أنه "مع تعيين بيني غانتس للقضاة، يبدو أن زعيم حزب "شاس"، أرييه درعي، بدأ بالفعل في تشكيل الائتلاف المقبل"، وأن التطورات الأخيرة في الساحة السياسية تشير لإعادة ترتيب القوى تمهيدا لما بعد الحرب.
ورغم أهمية الحرب على غزة، وقضية المحتجزين، وتفاقم الضغوط والعزلة الدولية، والانكماش الاقتصادي الناتج عن استمرار القتال، انشغل السياسيون -هذا الأسبوع- يقول بار إيلي "بمعركة السيطرة على المحاكم الحاخامية"، في مشهد كشف ملامح محتملة لكيفية تعيين قضاة المحكمة العليا مستقبلا.
ويرى أن تعيين 21 قاضيا في المحاكم الدينية اليهودية تحول إلى استعراض للقوة السياسية، خرج منه درعي وسموتريتش منتصرين، بينما خسر الليكود نقاطا، وسجلت شخصيات من المعارضة مكاسب يمكن أن توظف لاحقا في مفاوضات تشكيل حكومة جديدة.
إعلانوربما يكون هذا التصعيد، وفق قراءة بار إيلي، بمثابة الطلقة الافتتاحية لمفاوضات تشكيل الائتلاف الحكومي المقبل، ما بعد الحرب.