المجتمع المدني الفلسطيني.. أزمات القيادة ودعوات للإصلاح والتجديد
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
يكثر النقاش هذه الأيام في أوساط قوى وتجمّعات شعبية ونخب سياسية وثقافية فلسطينية حول أزمة القيادة السياسية للشعب الفلسطيني، وضرورة العمل على تشكيل قيادة فلسطينية انتقالية، وإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، ومؤسسات منظمة التحرير، بما يضمن مشاركة كل مكونات الطيف السياسي والشعبي الفلسطيني.
تبنّت العديد من التجمعات والمؤتمرات الشعبية والشخصيات الوطنية هذه الفكرة، ودعت عبر عرائض موقعة من آلاف الشخصيات الوطنية والقامات العلميّة والأكاديمية والنشطاء، وكذلك عبر مؤتمرات عديدة عقدت في الدوحة وإسطنبول ورام الله ولندن، وغيرها من المدن حول العالم، إلى عقد مؤتمر وطني يتصدّى لهذه الأزمة ويضع آليات، ويتخذ خطوات لتجاوزها.
ميّز التجمعات والدعوات الأخيرة، بالإضافة لكونها صادرة عن قامات كبيرة تتواجد في عدد كبير من الدول، ومن مختلف القارات التي تتواجد فيها جاليات فلسطينية، أنها تحتوي على توجهات فكرية وسياسية وثقافية من مشارب شتى، فمن بين المشاركين يساريون وإسلاميون وقوميون وعلمانيون، ولديهم مواقف متباينة تجاه المشروع الوطني الفلسطيني والأزمات السياسية في المنطقة.
لكن جمعهم الهمّ الوطني وشعورهم بالواجب تجاه شعبهم في قطاع غزة، الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية، ويواجه توحشًا غير مسبوق من جيش الاحتلال، ويقف بكل كبرياء وعزة وكرامة يواجه المحتل ويفشل مخططاته.
كما جمعهم حرصهم على مقاومة شعبهم وتقديرهم لبطولاتها، ورغبتهم في الاستثمار في الصمود والبطولة والحيلولة دون تفرد العدو وحلفائه بشعبهم ومقاومته، خاصة في ظل العجز الواضح في أداء قيادة "م ت ف"، والتخلي عن مسؤوليتها الوطنية في لحظة تاريخية فارقة.
فزع من التغيير واتّهامات جاهزةأثار هذا التحرّك خوف وغضب قيادة "م ت ف" والسلطة الفلسطينية، وسارعت لإصدار بيانات باسم اللجنة التنفيذية للمنظمة، واللجنة المركزية لحركة فتح، وهي مؤسسات تستدعَى دومًا في الخلافات الداخلية، ولمواجهة محاولات التغيير والإصلاح في المؤسسة السياسية الفلسطينية.
فقيادة "م ت ف" لا تعمل بجد في أي من الملفات بقدر ما تعمل في مواجهة أي تغيير في الوضع القائم في المؤسسات السياسية، ومحاولات ترتيب البيت الفلسطيني، وما تحب هي أن تطلق عليه "الحفاظ على وحدانية التمثيل، ومواجهة تشكيل بديل عن "م ت ف" بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني".
رغم تأكيد كل الحَراكات والمؤتمرات الشعبية على مكانة "م ت ف" وحرصهم عليها، وأن هدفهم هو إصلاحها وتجديد شرعيتها من خلال مشاركة الكل الفلسطيني فيها، وبالذات فصائل المقاومة، فإن ذلك لم يحُلْ دون اتهامهم بالخروج عن الصف الوطني، وبأنهم أصحاب أجندات خارجية.
الفزع الذي يسببه التحرك لإصلاح "م ت ف" وترتيب البيت الفلسطيني والمؤسسات السياسية الفلسطينية لدى القيادة المتنفذة، يعود لأسباب عديدة، أهمها ضعف وشيخوخة وعجز هذه القيادة، والتراجع الكبير في شعبيتها، وعدم ثقة الجمهور الفلسطيني فيها وَفق العديد من استطلاعات الرأي، ولا يرتبط بالضرورة بفاعليّة وقوة حَراك القوى والتجمعات الشعبية.
أزمات وتحديات وطريق شائكولعل المتابع لنشاط قوى المجتمع المدني والحراكات الشعبية، يلاحظ الآتي:
أولًا: ضعف المشاركة في القضايا الوطنية والسياسية، إذ لم تنجح القوى الشعبية في حشد طاقات الشعب الفلسطيني وتحريك الجماهير، ومن ثم التأثير في المسارات الوطنية في أي من المحطات الهامة. ومن أبرز معالم هذا الضعف في السنوات الأخيرة غياب دورها عن التأثير في الانقسام الفلسطيني، وعن حشد الشارع للتضامن مع الحرب الأخيرة على غزة.
ثانيًا: ضعف البنية التنظيمية والإدارية للقوى والمؤسسات والحراكات الشعبية، ومؤسسات المجتمع المدني.
ثالثًا: أزمة النقابات والاتحادات المهنية، التي ينبغي أن تشكل العمود الفقري للقوى الشعبية؛ كونها تعبر عن قطاعات مهنية تنتمي إليها أعداد كبيرة من المهنيين، وسقوطها في مستنقع الانقسام. قاد تأثير الانتماء الحزبي والتجاذب الشديد بين الفصائل، وضعف ثقافة الشراكة إلى انقسام في معظم النقابات والاتحادات إلى الحد الذي تجد معه غالبية الاتحادات والنقابات أن لديها جسمين وقيادتين، الأمر الذي أضعف أداءها المهني، وشلّ قدرتها ودورها الوطني.
رابعًا: التأثير الإقليمي والدولي على العديد من مؤسسات المجتمع المدني وسطوة التمويل. غالبية مؤسسات المجتمع المدني وبرامجها وفعاليتها وقعت فريسة للتمويل الأجنبي المشروط، والذي وصل في كثير من الأحيان إلى حد اشتراط التوقيع على وثائق تدين المقاومة والعمل المسلح، وتُلزم المؤسسات ببرامج وقضايا محددة تعمل وفقها، وهو ما جعل من الصعب جدًا على هذه المؤسسات، أن تتصرف بحرية في القضايا الوطنية، ووفق ما يقتضيه الواجب لا ما يقتضيه التمويل.
خامسًا: أزمة الثقة والقيادة والرغبة في السيطرة عند فرقاء المجتمع المدني والقوى الشعبية، فهم نادرًا ما تمكنوا من العمل المشترك، والتنسيق بينهم متعثر، وإذا ما تمكنوا من التوافق والعمل المشترك فتوافقهم غالبًا لا يدوم.
من الأمثلة الصارخة التي تعبر عن حجم الأزمة لدى قوى المجتمع المدني، سلوكهم خلال التحضير للانتخابات التشريعية التي كانت ستعقد عام 2021م، والتي قام محمود عباس بإلغائها في آخر لحظة، حيث لم تتمكن هذه القوى من تجميع نفسها في قائمة واحدة، أو عدة قوائم، كما فعلت الفصائل، وقد ترشح ما يقرب من 30 قائمة غير حزبية للانتخابات.
سادسًا: أزمة البرنامج السياسي والرؤية الوطنية التي تلاحق قوى المجتمع المدني، كما الفصائل الفلسطينية. فلا تكاد تجد مجموعتين أو مؤسستين متفقتَين على برنامج أو رؤية وطنية واحدة، فما بين العمل من أجل حل الدولة الواحدة أو الدولتين أو التحرير الكامل.. إلخ من البرامج، تتوزّع القوى الشعبية الفلسطينية.
رغم كل ما سبق، فإن تحدّي الواقع والاستجابة لمتطلبات اللحظة التاريخية الفلسطينية، والانسجام مع حركة الشعب الفلسطيني ومقاومته أمرٌ لا مفرّ منه، والعمل المشترك أمرٌ ممكن، ولو على مشاريع محدودة ولأجل تغيير محدود، ولكنه ملحّ وضروري، كتشكيل قيادة انتقالية للشعب الفلسطيني، وإصلاح "م ت ف" انطلاقًا من مجلسها الوطني. هذا الأمر يتطلب من القوى والتشكيلات الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني، الآتي:
التسامي على الخلافات الإدارية والقيادية وتغليب المصالح والمهام الوطنية. بذل الجهد للتحرّر من التأثيرات الخارجية، سواء الفصائلية أو الإقليمية أو الدولية. العمل المشترك ضرورة، وبدونه لا أمل في النجاح، وعليه فالاستجابة لدعوات التوحد والتنسيق المشترك لإنجاز الأهداف، وبالذات عقد مؤتمر وطني جامع، أمرٌ في غاية الأهمية. التوافق على مشتركات محدّدة، وتأجيل القضايا الكبرى والخلافية. هدف تشكيل قيادة فلسطينية انتقالية هدفٌ موضوعي وملحّ وممكن، وكذلك هدف تشكيل مجلس وطني جامع يمثل الكل الوطني. تجاوز الخلافات السياسية والفكرية المرتبطة بالقضايا الإقليمية، والتركيز على الأهداف المحددة المرتبطة بالحالة الفلسطينية، فالطائفية والقضية السورية أو اليمنية أو غيرها، لا يمكن حلها داخل الطيف الثقافي والسياسي الفلسطيني.الحلُّ هو في القدرة على العيش ضمن إطار فلسطيني، والتعايش مع الاختلاف والمختلفين، وإلا فلا جدوى ولا معنى للعمل العام. وليعلم الجميع أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا الصواب المطلق، وأن كل المواقف نسبية الصوابية ولا يمكن الإجماع حول أيّ منها.
إن المشهد الوطني والسياسي الفلسطيني في غاية التعقيد والقسوة والخطورة، وهو يتطلب تواضعًا إنسانيًا ووطنيًا، وتجرُّدًا من الكثير من القضايا الذاتية، والتخلي عن المواقف المسبقة.
وإذا كانت الفصائل لديها من الحسابات السياسية والتنظيمية ما يقيد مواقفها ويعيق تحركها الداخلي، فينبغي على قوى المجتمع المدني والنخب الثقافية والسياسية أن تتحرر من كل القيود، وتتحرك بما يمليه عليها وجدانها وحسها الإنساني وضميرها الوطني وانتماؤها لهذا الشعب العظيم، الذي طالما قدّم وضحّى، وتقدم على قيادته عندما دعته الضرورة الوطنية، ولجأت إليه فلسطين مستنجدة وراجية الحماية من مكائد المستعمر، وتخاذل الأقارب، وتآمر القوى الدولية، ونجح دومًا في حماية أرضه ومقدساته وصون حقوقه والاستمرار في البقاء، والانبعاث من جديد بعد كل هجمة استعمارية أو حملة عسكرية أو استيطانية فاشية.
وسيخرج مرّة أخرى بعد "الطوفان" كما العنقاء ليكمل مسيرته في التحرّر والاستقلال. فلا أقلّ من أن تقف مؤسسات وقوى وفعاليات المجتمع المدني ونخبه وقياداته موقفًا بمستوى الموقف الشعبي العام، وبمستوى صمود وبطولة وتضحيات مقاوميه وفصائلهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات مؤسسات المجتمع المدنی العمل المشترک
إقرأ أيضاً:
الحاجة لـنظرية جديدة للمجتمع المدني العربي
لا تدعي هذه المقالة، إسهاما تأسيسيا لنظرية جديدة للمجتمع المدني العربي (الفلسطيني بخاصة)، ولا تحتمل دورا كهذا، بيد أنها إسهام في مراجعة جذرية يتعين على نشطاء هذا المجتمع ومنظريه، القيام بها، في ضوء حصاد تجربة الثلاثين عاما الفائتة، وبالأخص، ما شهده العامان الأخيران، من تطورات وانقلابات في المشهدين؛ الإقليمي والدولي، إثر طوفان الأقصى وحرب التطهير والإبادة.
بعض من دروسشهد المجتمع المدني العربي طفرة واسعة في العقود الثلاثة الأخيرة، استحدثت انقلابا في مكوناته وطبيعة القادمين الجدد إلى ملعبه، وتبدلا في توازنات القوى بين أركانه، تزامنا مع انطلاق مسار برشلونة للشراكة المتوسطية، الذي تزامن وتوازى، مع الاختراق الحاصل في مسار مدريد، وصولا لأوسلو ووادي عربة.
غابت المنظمات ذات العضوية الجماهيرية الواسعة من نقابات واتحادات على اختلاف تصنيفاتها عن الواجهة، لتحل محلها، مؤسسات ناشئة، غالبيتها العظمى، تدور حول شخص واحد، أو حفنة قليلة من الأشخاص، الذين لا صفة تمثيلية لهم، بخلاف النقابات والاتحادات.
مؤسسات طغى على الكثير منها سمة "المؤسسة العائلية- Family Businesses"، أغدق عليها المانحون أموالهم، وحجبوها عن منظمات وازنة، إن لعوائق قانونية وإدارية، أو لمواقف مسبقة لهذه المنظمات من "التمويل الأجنبي"، وغالبا لمخاوف لدى مجتمعات المانحين، من ذهاب أموال دافعي الضرائب في بلدانهم، إلى غير الأهداف والبرامج التي يتطلعون لتنفيذها.
تكفي الإشارة إلى حالة تسيدت فيها جمعيات- لا تضم أكثر من حفنة من الأفراد- المشهد المحلي، وبما يفوق أدوار منظمات جماهيرية راسخة، عمر بعضها من عمر استقلالات بعض البلدان العربية.
ستتراجع فكرة "العمل التطوعي" في أوساط الشباب والأجيال الناشئة، تحت وابل كثيف من الأموال، وقدر نادر من المحاسبة والشفافية والمساءلة، وستصبح هذه المؤسسات هدفا لموجات من "الهجرة" من الأحزاب السياسية الجدية، المكلفة في الغالب- لا سيما في دول الفساد والاستبداد- إلى فضاءات العمل المدني المريح، مدفوع الأجر تحت مسميات مختلفة، ولتصبح قاعات الفنادق الفاخرة، بديلا عن الاحتشاد في الشوارع والميادين، والعمل بين صفوف الناس في مواقعهم.
إعلانوستعمل حكومات وأنظمة عدة، على إغراق المجتمع المدني بمؤسسات من صنعها، وتحت إدارتها وإشرافها، إن بهدف مقاسمة المجتمع المدني الفاعل موارده، أو بالأحرى، لتجفيف موارد هذا النوع من مؤسسات المجتمع المدني، أو للعمل على احتوائه وتدجينه، وتوظيفه في غير "تفويضه" و"وظيفته" كفاعل مستقل بين المواطنين والسلطة التنفيذية. ستصبح ألوف وعشرات الألوف من هذه المؤسسات، أدوات للتشغيل ووسيلة لامتصاص فائض العمالة، ووظيفة لمن لا وظيفة له.
وسيجري استخدام المال المرصود لدولنا من المنح والمساعدات الأوروبية والأميركية بخاصة، لخدمة أجندات السياسة الخارجية والأمنية لدول المصدر، وفي مقدمتها "التطبيع" مع إسرائيل، إذ كان المال الوفير حاضرا دائما لدعم كل مشروع يستبطن مكونا إسرائيليا على طريقة المدن الصناعية المؤهلة "QIZ".
وتزامنا معها، وفي مطارح عديدة، تم "العزف على وتر" حاجة مجتمعاتنا العربية لمحاربة التطرف والإرهاب والهجرة، للوصول إلى ما يمكن تسميته، إعادة تشكيل الهوية والوعي الجمعي لشعوبنا ومجتمعاتنا، بما يتخطى موروثها الاجتماعي والثقافي والديني الراسخ.
وفي الوقت الذي كانت فيه دول الغرب، تضيق ذرعا باللاجئين والأجانب وتستهدفهم بالتمييز العنصري والكراهية، والإبعاد إلى دول أفريقية يعتصرها العوز والفاقة، كان المطلوب من مجتمعاتنا المدنية، تخفيف العبء عن دول المركز الغربي، والمنافحة لإدماج المهاجرين بين ظهرانيها، وهي التي بالكاد تجد ماء وطعاما لأبنائها وبناتها.
لقد جرت خلال السنوات الثلاثين، أعمق وأخطر عملية "تفتيت" للأجندات والأولويات الوطنية لمجتمعاتنا ودولنا وشعوبنا، وغرق المجتمع المدني العربي، في برامج تقررها سلفا "دول المنبع"، لتفرض عليها أولويات مصنعة، ولتغيب عن برامجها أولويات ضاغطة، ولتنشأ في ضوء ذلك كله، موجة من المنظمات والمؤسسات التي يمكن وصفها بـ "Doner Oriented Organizations"، تعمل بوحي من الحكمة المستلهمة من الأفلام والمسلسلات البوليسية الأميركية: "اتبع المال – "Follow the Money، وبصرف النظر عن نتائج وتأثير ما تقوم به من أنشطة وفعاليات.
كما أظهرت تجارب المجتمع المدني العربي، في دول الأزمات المفتوحة، أن كثرة من مؤسساته و"رموزه"، كانوا أول الملتحقين بـ"الطيور المهاجرة" إلى دول المنبع" وحواضن الاستقرار في الجوار القريب والبعيد (إلا من رحم ربي)، تاركين شعوبهم ومجتمعاتهم، تكتوي بنيران حروبها الداخلية وحروب الآخرين عليها.
وستنشأ ظاهرة "متعهدي المؤتمرات"، الخبراء بـ"حيل التذاكر والسفر"، وبعضهم بات مؤهلا للعمل مستشارا لأضخم شركات السياحة والفنادق والـ "Catering"، في العالم. وبعضهم تحول إلى "رؤوس جسور" لدول وعواصم، معروفة بكرهها للإسلام السياسي ومناوأتها الربيع العربي، وميلها الجارف للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، ورغبتها الجارفة في "شراء أصوات" النشطاء والمثقفين، فإن تعذر ذلك، "شراء صمتهم".
بالطبع، لا ينطبق كل ما ذُكر، على جميع المنظمات والمؤسسات المدنية، ولا يجوز إقامة تماثل بين أوضاع المجتمعات المدنية العربية في بلدانها المختلفة.
إعلانكما أنه لا يقلل من أهمية الدور الذي يتعين أن يضطلع به المجتمع المدني في الدعوة للحرية واحترام الحقوق والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، واستكمال التحرر الوطني، وتعزيز الاستقلال، إنها محاولة للفت النظر إلى أن كثيرا من المؤسسات والفاعلين، قد "ضلوا طريقهم"، وأن الأوان قد حان، لوقفة مراجعة وتصويب مسار.
إنهم يسدون بإحكام طرق الإصلاح والتحول الديمقراطي في بلداننا، إنهم يمنعون عن شعوبنا، حقها في الاستقرار والازدهار، إنهم يقترحون طريقا واحدا للمستقبل، يمر حصرا بإسرائيل، فما الذي يتعين على المجتمع المدني العربي فعله؟
خمسة معايير للمراجعةسنكتفي بإيراد خمسة من المعايير والأسس التي يتعين أن تنطلق منها المراجعات الهادفة إلى تصويب المسار؛ لضمان إسهام المجتمع المدني في إنجاز "ما ينفع الناس ويمكث في الأرض"، وهي:
أولا؛ استقلالية هذه المؤسسات عن السلطات التنفيذية في بلدانها، شرط حاسم لإنجاز تفويضها الذي يبرر وجودها، كما أن اعتمادها أرقى معايير المساءلة والشفافية والحوكمة الرشيدة، هو المقدمة الضرورية للفكاك من "العلاقة الزبائنية" التي تربطها إن بالحكومات أو بمصادر التمويل.وإن إعادة الاعتبار للعمل "الطوعي" بدلا عن "العمل المأجور"، هي السبيل لإعادة تعريف نشطاء هذا المجتمع، بوصفهم "مناضلين" في مشروع وطني، وليس بوصفهم "زبائن" لملء المقاعد الشاغرة على موائد المؤتمرات والندوات.
ثانيا؛ على المجتمع المدني العربي، أن يدرك تمام الإدراك، وأن يبني رؤيته وإستراتيجياته، على قاعدة أن الكفاح ضد إسرائيل ومقاومة التطبيع معها، هو كفاح من أجل مستقبل حر ومزدهر للشعوب والمجتمعات العربية، وليس تضامنا مع الفلسطينيين في مواجهة الفاشية الصاعدة ونظام الفصل والتطهير والإبادة في إسرائيل، مع أنه تضامن واجب.هو دفاع عن الذات والراهن والمستقبل والذاكرة والسردية، ولتذهب إلى الجحيم، كل التمويلات المشروطة بالتوقف عن ممارسة هذا الدور، أو التساوق مع حسابات الحكومات التي ترتبط بعلاقة تطبيعية مع هذا الكيان، ومن لم يستفد من دروس عامين من الإجرام والتجويع والترويع والتدمير، لن يستفيد أبدا.
ثالثا؛ لقد كشف الغرب الاستعماري عن وجه بشع خلال العامين الفائتين بخاصة. سقطت منظومته القيمية والأخلاقية المدعاة، ونطق قادته بخلاف كل ما روجوا له طيلة عقود ثلاثة أو يزيد، دعما لإسرائيل وهي في ذروة مقارفتها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولاذ بعض قادتهم بخطاب مثقل بالتعابير الموحية بصراع الحضارات والأديان، لتبرير استهداف أمة بأكملها، لا شعب بمفرده.وإن لم يكن هذا الدرس حاضرا بقوة، عند صياغة "النظرية الجديدة" واشتقاق برامج العمل وتطوير الإستراتيجيات، فلا بارك الله في جهود من ينظرون إلى ما حدث، بوصفه "فاصلا قصيرا"، نعاود بعده استئناف يومياتنا كالمعتاد.
رابعا: إن التمييز واجب، بين حكومات غربية كشرت عن أنيابها ومخالبها طيلة عامي الإبادة والتطهير من جهة، ورأي عام عالمي، غربي بالأساس، من جهة ثانية، يشهد انقلابات وتغيرات جوهرية، تحاصر السردية الإسرائيلية، ويبدي التضامن بأجمل صوره مع كفاح فلسطين من أجل التحرر والاستقلال.ومرة أخرى، إذا كانت محاربة التطبيع عربيا، هي حلقة في مسار كفاحي شعبي عربي، من أجل مستقبل حر ومزدهر ومستقل لدولنا وشعوبنا العربية، فإن ارتباط حركة التضامن العالمية مع فلسطين، بكفاح شعوب الغرب ومجتمعاته، ضد يمين شعبوي، ذي نزعة فاشية، معادية للآخر، وملتزمة بإسرائيل حتى وهي تمارس الإبادة والتطهير، هو أمر يتعين العمل على تظهيره، وتعميق عراه.
هؤلاء هم حلفاء المجتمع المدني العربي الحقيقيون، وليست الحكومات والصناديق المانحة، إن مهمة تطوير حركة فلسطينية- عربية- أممية، مناهضة للصهيونية والتطبيع والفاشية واليمين الشعبوي والفساد والاستبداد، هي الخطوة الأولى على طريق الإطاحة بهذا الحلف غير المقدس.
خامسا؛ على المجتمع المدني العربي أن يدرك، أن "الديمقراطية" لم تعد بضاعة قابلة للتصدير في الغرب، فهي في مأزق هناك، في موطنها الأصلي، وقد انحدرت مكانتها على لائحة أولويات العلاقة بين ضفتي المتوسط إلى أدنى السلم، وإستراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة، قالتها بصراحة: إن الإصلاح والديمقراطية ليسا على جداول أعمالنا في الشرق الأوسط، وسياسة تغيير الأنظمة، باتت من الماضي. إعلانوما لم تقله "الإستراتيجية" بالوضوح الكامل، قاله توم براك بفجاجة: لا مطرح للديمقراطية في الشرق الأوسط (باستثناء إسرائيل بالطبع)، وإن "الملكيات المستنيرة"، هي خيار هذه المنطقة، المستند إلى إرثها وتقاليدها في الحكم والحوكمة، متناسيا حقيقة أن من بين 22 دولة عربية، ودول أخرى شرق أوسطية، هناك ثماني ممالك فقط.
وبفرض القبول بفرضيته، ماذا عن بقية الدول، وهل يقترح علينا "الموفد فوق العادة"، أن نعاود تجربة "الجملوكيات" التي اكتوينا بنارها في عشريات الركود والاستنقاع، وكانت سببا محركا لموجات الغضب والانتفاض في سنوات الربيع العربي؟
إنهم يسدون بإحكام طرق الإصلاح والتحول الديمقراطي في بلداننا، إنهم يمنعون عن شعوبنا، حقها في الاستقرار والازدهار، إنهم يقترحون طريقا واحدا للمستقبل، يمر حصرا بإسرائيل، فما الذي يتعين على المجتمع المدني العربي فعله؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline