كامل إدريس.. من “سويسرا” إلى “بورتسودان”
تاريخ النشر: 31st, July 2025 GMT
صحيح أن رئيس الوزراء “د.كامل ادريس” اقترب من شهره الثالث منذ أدائه القسم الدستوري، وأن حكومته تبدو متعثرة ، ولكن أمامه فرصة عظيمة وحالة نادرة في التاريخ، مع هذا فإن درب الحكم الجديد ليس معبداً ولا الرحلة سلسة.
طريق التغيير من “سويسرا” إلى “بورتسودان” كان مفتوحاً لأن الأغلبية في السودان راغبة فعلاً في التغيير، لأن عملية وصول شخص “مدني” إلى رئاسة وزراء حكومة الحرب كان مخاضاً طويلاً ودامياً، وربَّما أكثر عمليات التغيير تعقيداً في السودان ، ومن هذا المنطلقِ يفترض أن نقرأَ الأحداث الحَالية والتالية في هذا السياق، وليس في سياق ساعة النصر.
هناك من يعتقد أن “القوات المسلحة” في تمظهرها المهني والسياسي تبطئ في حسم الحرب وآخرون يظنّون أنها تتجنب المزيد من الخسائر بين صفوفها. والبعض يرى أنها عاجزة عن القضاء على ما تبقَّى من قوة ” مليشيا الدعم السريع”، ولكن .. رأيي أنها لا تريد حسمهَا إلا وفق نهاية تكتبها هي وليس القوى الاجنبية.
في خضم اهتزازات الواقع السوداني يتساءل المرء مجدّداً: إلى أين تسير بلادنا ؟ هل تستمر الصيغة الحالية لنظام الحكم ؟ أم تنهار هذه التشكيلة السياسية الضامنة لوحدة الأرض، التي قام عليها النظام السوداني عام ٢٠١٩، وهي شراكة العسكر والمدنيين ، والتي اجتازت حتى الآن من دون تصدّع أخطر الحروب والأزمات؟.
في خضم هذه الأمواج العاتية، سيعمل “د.كامل ادريس” على تأسيس الانتقال إلى السودان الجديد، عليه أن يدرك انه “عمود المنتصف”، يجب أن يمشي على أشواك الواقع دون أن تدمي قدميه.
هناك فئتان خطرتان عليه، الأولى معادية، أبرزُها مليشيا الدعم السريع وحلفائها، بعض من فلول النظام السابق، وقوى خارجية ، وعصاباتٌ الفساد السلطوي داخل الدولة؛ هؤلاء سيسعونَ مراراً وتكراراً لخلق مناخ تصادمي يكبر مع الوقت، وسيدفعون باتجاه تقزيم دور رئيس الوزراء وإشغال حكومته في معركة طويلة.
وقوى داخلية من صُلب النظام،تشارك في خلق الأزمات، ولها وجهات نظرها في إدارة البلاد والعلاقة مع العالم. وهذه الموالية لا تقل خطراً على سلطته من المُعادية لأنها تفتح المعارك، وتعمِّق الخلافات، خطرهَا أنها تجر الدولة الى معارك دونكيشوتية وتستدعِي القوى الخارجية للاستثمار في حرب أهلية محلية.
هذه الأفخاخ تتطلَّب حكمة في المعالجة حتى لا تشغل الحكومة عن تنفيذ المهمة الأصعب، وهي بناء الدولة الجديدة التي تنتظرها غالبية السودانيين، من تحسين المعيشة، والانتقال إلى دولة حديثة.
للدكتور “كامل ادريس” شعبية داخلية عليه أن يعززَها حتى لا تتآكل نتيجة تحديات كثيرة مقبلة، أبرزُها الخبزُ والغلاء وتدنِي المرتبات، تضافُ إلى الحاجةِ إلى إطفاءِ الأزمة الاجتماعية التي نتجت عن خطاب الحرب المتطرف،الذِي هو في حد ذاته مشروع حرب أهلية. بالمنخرطين فيه باسم المظالم التاريخية والتهميش يعملون على تأجيج مكونات السكان المتناقضة المسكونة بالقلق والرّيبة.
المجتمع الدولي يريد دولة مدنية تدير منظومة أمنية وعسكرية منضبطة،وهذا لن يحدث اليوم او غداً، لأن ظروفنا المحلية تتطلب وجود “الجيش” في السلطة، وأهمها الهزيمة النفسية التي لحقت بالشعب نتاج تسويف وفشل النادي السياسي في تجنيب البلاد اندلاع الحرب.
اتمسك برأيي القائل بأن أمام “كامل ادريس” فرصة تاريخية نادرة للانتقال بالسودان من الحرب إلى السلام، وأن اليوم التالي سيكون الحوار السوداني/السوداني، داخل الأراضي السودانية، وبارادة سودانية.
ادريس سينجح في تحقيق الانتقال، لأنه أعلن عن انفتاحه على الجميع من خلال تشكيلة حكومته التي اظهرت خبرات مهنية بخلفيات فكرية مختلفة، وأن همَّه سودانياً وليس دولياً. وأظهر اعتدالاً فاجأ الكثيرين وأدار علاقاته ببراغماتية تنسجم مع ما وعد به في رؤيته للسودان ٢٠٢٥ (المارشال) .
وسط هذه التجاذبات فإن المسار سيستمر صعباً. النظام ورث بلداً مدمراً منتهكاً من قوًى داخلية وأجنبية، وسيتطلب لمعالجته المهارات السياسية لا العضلات، وحاسة سادسة تستبق الأزمات وتطوقها.
محبتي واحترامي
رشان اوشي
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: کامل ادریس
إقرأ أيضاً:
حمى الأمن تضع حياد سويسرا على صفيح ساخن
من دول البلطيق إلى غرب أوروبا، تجتاح حمى الأمن والدفاع دول الاتحاد الأوروبي، تحسبا لتداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا منذ 2022 بالإضافة إلى الغموض المحيط بمستقبل الدفاع المشترك في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وقد بلغت الحمى ذروتها مع انضمام "دولة الحياد" في قلب أوروبا سويسرا، إلى موجة التسليح ومراجعة السياسات الدفاعية، لكن مع الالتزام بجميع القيود التاريخية التي تقود السياسة الخارجية لهذا البلد الفدرالي المتنوع، منذ مؤتمر فيينا لعام 1815 واتفاقيات لاهاي لعام 1907.
لا تبدو هذه المعادلة سهلة على أرض الواقع، فالتغيرات الجيوسياسية في القارة الأوروبية اليوم من شأنها أن تجعل من هذا الالتزام السويسري العريق بمثابة المشي على حبل مشدود.
ومع ذلك تشير قرارات الحكومة الاتحادية، بشأن التعاون الخارجي ومناقشة إلزامية التجنيد وموقفها من الحرب الروسية في أوكرانيا وخصوصا مشاريعها لإصلاح الجيش والبنية التحتية الدفاعية في المدن، إلى خروج محتمل وغير مألوف عن "الحياد التقليدي".
مراكز دفاعية حديثةلم تعد سويسرا بمعزل عما يحصل لدى جيرانها في دول التكتل الأوروبي، فقد أعلن مؤخرا الجيش عن خطط لتأهيل الملاجئ الحربية القديمة المهجورة منذ تسعينيات القرن الماضي، وإعادة توجيه استخدامها.
ومن أجل ذلك، دعت شركات التكنولوجيا والباحثين والشركات الناشئة إلى المساعدة في تحويل ما يقارب 8 آلاف ملجأ إلى مراكز دفاعية حديثة عبر حلول مبتكرة ومنخفضة التكلفة.
ويعود بعض هذه الملاجئ إلى عام 1886، وقد بنيت في الأصل لحماية مواقع إستراتيجية، مثل "سكة حديد غوتهارد" وممرات جبال الألب، وأصبحت لاحقا مكونا رئيسيا ضمن شبكة من التحصينات المصممة تحسبا لغزو محتمل خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة.
وفي حين أن العديد من هذه المخابئ كان مزودا بأنظمة دفاعية متقدمة للحماية من التهديدات الصاروخية السوفياتية، فإن استخدامها تراجع بشكل حاد بعد الحرب الباردة. وأدت مراجعات الميزانية وتغير أولويات الدفاع إلى بيع العديد منها إلى المدنيين.
إعلانلكن في عام 2023، أوقف الجيش السويسري عروض البيع، واختار بدلا من ذلك التفكير في أفضل السبل لإعادة توظيفها، بعد تقييمات لطبيعة التهديدات العسكرية الجديدة.
ويعمل الجيش الآن على تحويل هذه المخابئ إلى "نقاط دفاعية يصعب مهاجمتها" باستخدام أحدث التقنيات، مع ضمان أن تكون التحديثات فعالة من حيث التكلفة ومستوجبة لحد أدنى من الكوادر.
ووفقا لوسائل الإعلام المحلية، تخطط الجمعية السويسرية للتكنولوجيا والقوات المسلحة لتنظيم "يوم الابتكار" في منتصف سبتمبر/أيلول ليتم من خلاله الكشف عن المزيد من التفاصيل وتمكين المشاركين في قطاعات أخرى أيضا بخلاف قطاع الدفاع، من طرح أفكارهم.
تأتي هذه الخطوة في وقت تحاول فيه سويسرا التكيف مع التحولات الجيوسياسية الجديدة وحالة الطوارئ الأمنية والدفاعية التي تجتاح أوروبا.
وقد سبق أن وضع الجنرال الأميركي المتقاعد والقائد السابق لقوات الناتو في أوروبا، بان هودجز، سويسرا أمام حقيقة أنها لم تعد تحت ضمانات مطلقة للحياد.
وأبعد من ذلك، نصح في مقابلة مع صحيفة "زونتاغز بليك"، الحكومة الاتحادية بالاستعداد للحرب، ليس بسبب التداعيات المحتملة للحرب الروسية على أوكرانيا فحسب، ولكن أيضا مع توقعات بسحب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب القوات الأميركية أو جزءا منها من أوروبا، وهي "مسألة وقت" في تقدير الجنرال المتقاعد.
لذلك يرى هودجز في نصيحته لسويسرا بأن "أفضل طريقة لمنع الحرب هي الاستعداد لها"، ومن أجل استعداد جيد تحتاج سويسرا في تقديره إلى استثمارات ضخمة في الدفاع الجوي والتدريب على المناورات واسعة النطاق وعلى الاستخدام المكثف للطائرات المسيرة وطرق صدها.
وفي الواقع، لم تكن أفكار ودعوات بان هودجز مفاجئة للمزاج العام السويسري، فقد خلصت دراسة "الأمن 2025" التي نشرتها الأكاديمية العسكرية السويسرية بالتعاون مع مركز الدراسات الأمنية إلى أن 60% من الشعب السويسري يؤيد فرض الخدمة العسكرية الإلزامية.
كما يرى 80% أن الجيش ضروري ولا غنى عنه، و90% يفضلون جيشا "مدربا تدريبا جيدا"، بينما يشدد 74% على أهمية أن يكون الجيش "مجهزا تجهيزا كاملا".
لقد ترافقت تحذيرات الجنرال الأميركي بالفعل مع تحذيرات أخرى داخلية صدرت عن جهاز الاستخبارات السويسري، حيث أشار التقريران الآخران لعامي 2023 و2024 بعدة مخاطر تمحورت بالخصوص حول 3 قطاعات رئيسية وهي:
التجسس الروسي والصيني:تعتقد الاستخبارات السويسرية أن حوالي ثلث ممثلي الدبلوماسية الروسية والبالغ عددهم 220 دبلوماسيا في سويسرا يمارسون التجسس، وهو العدد الأعلى على المستوى الأوروبي، والسبب في ذلك أن سويسرا تضم أكبر عدد من المنظمات الدولية كما أنها لم تبادر -على خلاف باقي دول أوروبا الغربية- بطرد دبلوماسيين روس.
إعلانأما الدبلوماسيون الصينيون، فإنهم يميلون أكثر إلى زرع عملائهم داخل المجتمع المدني في هيئة خبراء وعلماء أو صحفيين أو رجال/نساء أعمال، وفق الاستخبارات السويسرية.
الهجمات السيبرانية:حذر جهاز الاستخبارات من تصاعد الهجمات السيبرانية التي طالت دولا أوروبية بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا، حيث تعرضت بالفعل مؤسسات تابعة للاتحاد السويسري مثل هيئة السياحة والسكك الحديد إلى عمليات قرصنة، كما تم رصد تطور في الهجمات الإلكترونية عبر "برامج الفدية".
خطر التطرف:لاحظت الاستخبارات زيادة في حالات تطرف القاصرين في سويسرا، سواء ارتبط ذلك بـ"الحركات المسلحة" أو تيار اليمين المتشدد والعنيف، وتحدث عمليات الاستقطاب عبر الإنترنت في فترة قصيرة، مما قد يهدد بارتكاب جرائم إرهابية.
في كل الأحوال هناك إجماع بين جبهتي اليمين واليسار في سويسرا على ضرورة تحديث القوات المسلحة وتعزيز القدرات الدفاعية مع اتساع مناخ انعدام الأمن في عموم أوروبا، هذا ما لاحظته هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية.
ومع أن البرلمان أقر بالفعل تخصيص المزيد من الأموال بنسبة 1% من الناتج المحلي الإجمالي لقطاع الأمن ابتداء من عام 2032، فإن الخبراء يشيرون إلى تحديات رئيسية تعترض خطط إعادة تأهيل القوات المسلحة لا سيما فيما يرتبط بالقوة القتالية، وهي نقطة الضعف الأولى.
وأول تلك التحديات أن الجيش السويسري يفتقد إلى إستراتيجية واضحة في وقت تتصاعد فيه الحرب الهجينة كما تتسارع التطورات في مجال التكنولوجيا الرقمية، وهو ما أقرته بريسكا سيلر غراف رئيسة لجنة السياسات الأمنية في المجلس الوطني، التي شددت على ضرورة تحديد الأوليات في عمليات الإصلاح والتطوير.
وتعاني أيضا سويسرا من ضعف في الأنظمة المرتبطة بالطائرات المقاتلة والدفاع الجوي. وأحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك، هو تعثر أعمال الصيانة لحوالي ثلثي طائرات "إف/إيه-18 هورنت" البالغ عمرها 25 عاما.
كما تواجه عملية تجهيز الجيش تعطيلات بسبب تأخر شراءات تشمل صواريخ مضادة للطائرات المسيرة و36 طائرة مقاتلة من نوع إف-35 وطائرات "بلوك 4" التي تخضع إلى تعديلات في الأجهزة والبرمجيات.
وعلى الجانب الآخر، يعاني الجيش السويسري كذلك من ضعف في البنية التحتية الرقمية، لهذا خصت الحكومة الاتحادية وزارة الدفاع بـ9 مشاريع من بين 22 مشروعا للتحول الرقمي.
لكن جميع المشاريع لا تزال قيد التخطيط، وهي مهددة بالفشل بسبب التأخيرات الحاصلة في تأمين الموارد المالية اللازمة والمقدرة بنحو 19 مليار فرنك سويسري.
أما من ناحية الموارد البشرية، ومثل أغلب دول أوروبا الغربية، لم تسلم سويسرا من مخاطر التطور الديموغرافي السلبي على التجنيد، وهو الهاجس الأكثر خطورة في نظر مخططي الإصلاح في المؤسسة العسكرية، حيث تحوم شكوك حول قدرة وزارة الدفاع على تجنيد 100 ألف جندي في أفق عام 2030.
وتسود الآن حالة ترقب في سويسرا بشأن المبادرة الشعبية "خدمة المواطن" التي طرحت اقتراحا يلزم جميع المواطنين السويسريين بأداء خدمة مجتمعية، بما في ذلك الخدمة العسكرية الإلزامية والخدمات شبه العسكرية والأمنية.
ومن المقرر أن يصوت السويسريون على هذا المقترح في عام 2026، وقد طمأنت صاحبة المبادرة نومي روتن -رئيسية جمعية "خدمة المواطن"- في تصريحاتها للصحافة المحلية بأن حصة الجيش ستكون مضمونة في مشروع الخدمة المجتمعية.
لكن إصلاح الجيش وحده قد لا يكون كافيا لتعزيز القدرات الدفاعية لسويسرا في ظل الزخم الذي تشهده التكتلات الدولية، خصوصا مع معضلة الالتزام بالحياد السياسي والعسكري الكامل في الوقت نفسه.
View this post on InstagramA post shared by الجزيرة (@aljazeera)
ضغوط دوليةمن بين النتائج التي كشفت عنها دراسة "الأمن 2025" للأكاديمية العسكرية السويسرية أن 53% من السويسريين يؤيدون توثيق العلاقات مع حلف الناتو، كما يدعم 32% من المشاركين عضوية سويسرا في هذه المنظمة.
إعلانلكن النتائج الأكثر جذبا للانتباه هو تراجع الالتزام بالحياد منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى 87% في 2025، مقارنة بـ97% قبل بدء الحرب في 2022.
ويعتقد على الأقل 40% من المشاركين في الدراسة أن الترابط السياسي والاقتصادي الوثيق لسويسرا مع الدول الأخرى يجعل الحياد مستحيلا، ومن نتائج ذلك أن 28% يرون ضرورة أن تتخذ سويسرا مواقف واضحة أثناء النزاعات العسكرية في الخارج، ويعكس هذا تطورا مهما في بلد ظل حبيس مربع الحياد لأكثر من قرن.
وقد أدارت الحرب الروسية في أوكرانيا الرقاب إلى سويسرا كبلد يستفيد من حماية الدول الأعضاء في حلف الناتو لكنه لا يقدم إسهامات، وهو ما ورد في تصريحات مباشرة للسفير الأميركي السابق في سويسرا سكوت ميلر في 2023.
وأدى ذلك بالنتيجة إلى اتخاذ سويسرا لاحقا لخطوات جادة من أجل بناء تعاون مع تحالف الدفاع الغربي، وآلية "بيسكو" (التعاون الهيكلي الدائم) لتنسيق الدفاع والأمن بين دول الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الموافقة على المشاركة في نظام الدفاع الجوي "سكاي شيلد" التابع للاتحاد الأوروبي.
لكن هذه الإجراءات أعادت الجدل القديم داخليا بشأن الحياد إلى السطح، فمن جهة يدعو حزب الشعب السويسري اليميني المحافظ إلى التمسك بالحياد التقليدي الصارم بمفهومه الدستوري الضيق، باعتباره آلية "حماية وجزءا من عقيدة الدفاع السويسرية"، لذلك هو يستبعد أي ترتيبات بإمكانية التعاون أو التحالف مع الناتو.
وفي الجهة المقابلة، تطالب دوائر أخرى أكثر انفتاحا، بما يعرف بـ"الحياد النشط" من أجل إتاحة الفرص للتعاون والتنسيق الخارجي في مجالات حساسة مثل الأمن السيبراني والدفاع الجوي.
الحياد في قلب التغيرات الجيوسياسيةعلى الرغم من المرونة التي رافقت النقاش العام في سويسرا لقواعد الحياد الصارمة، فإن الحكومة الاتحادية لا تزال حتى اليوم تبدي التزاما بالقواعد الجوهرية التي جرى التأسيس لها منذ مؤتمر فيينا عام 1815 من قبل القوى المنتصرة على جيوش بونابرت، مقابل عدم نقل الحرب إلى أراضيها مجددا.
كما تلتزم سويسرا حتى اليوم بالحقوق والواجبات في قانون الحياد، المدون في اتفاقيات لاهاي المؤرخة في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1907، ومن أهمها:
الامتناع عن المشاركة في الحروب. ضمان الدفاع عن النفس. معاملة جميع الأطراف المتحاربة على قدم المساواة فيما يتعلق بتصدير المعدات العسكرية. الامتناع عن إتاحة أراضيها للأطراف المتحاربة أو تزويدهم بالمرتزقة.علاوة على ذلك، ووفق التعريف الرسمي للخارجية الاتحادية على موقعها بشبكة الإنترنت، لا تخضع سياسة الحياد لأي قواعد قانونية، فهي تمثل مجمل التدابير التي تتخذها الدولة المحايدة بمبادرة منها لضمان استمرارية حيادها الدائم ومصداقيته. ويعتمد تطبيق سياسة الحياد على تحليل البيئة الدولية الراهنة.
وعلى هذا الأساس أعادت التغيرات الجيوسياسية المتلاحقة مناقشة الحياد من جديد في عدة منابر، من بينها هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسري، حيث دعا خبراء في هذا المنبر الحكومة الاتحادية إلى ضرورة شرح مفهومها للحياد أمام الخارج.
وتشير شتيفاني فالتر، أستاذة العلاقات الدولية والاقتصاد السياسي بجامعة زيورخ، في حجتها إلى أن حياد سويسرا لم يكن واضحا دائما، بدليل أنها مثلا وقفت خلال الحرب الباردة، ضمنيا إلى جانب المعسكر الغربي، كما أدانت بيرن منذ بداية الحرب في أوكرانيا الهجوم الروسي على الفور، باعتباره مخالفا للقانون الدولي.
لكن في الحقيقة، فإن النقاشات العلنية بدأت قبل ذلك بعدة سنوات، منذ مشاركة بعثة سويسرية في قوات حفظ السلام في كوسوفو عام 1999 ثم انضمام سويسرا إلى الأمم المتحدة بعد استفتاء شعبي في 2002 أفضى إلى فوز "نعم" بأغلبية تجاوزت 54%.
وفي الواقع لا تعد سويسرا استثناء اليوم في أوروبا، فقد كسرت كل من السويد وفنلندا سنوات طويلة من سياسة الحياد وعدم الانحياز ليقررا الانضمام إلى الناتو ردا على التطورات الأمنية والتحركات العسكرية المتتالية من الجانب الروسي في الألفية الجديدة.
وفي سياق ظرفي يتسم بتغير خارطة التحالفات الدولية، فإنه من غير المستبعد أن تبادر المزيد من الدول سواء في أوروبا أو العالم، بمراجعة سياسات الحياد لحماية مصالحها الأمنية.