رواية ثورية تواكب الحداثة الأدبية.. غسان كنفاني وتجسيد السردية الفلسطينية عالميا
تاريخ النشر: 7th, August 2024 GMT
لقد كان غسان كنفاني أديبا ملتزما باشتراطات الجمال الأدبي، ولم يكن أديبا أيديولوجيا دعائيا، ولهذا السبب ما زالت رواياته مقروءة يجد فيها القراء على اختلاف مستوياتهم قدرا عاليا من الجاذبية وإمكانيات القراءة والتحليل.
وبمعنى الحرص على التجديد الشكلي والفني تقع أعماله الروائية في طليعة الأعمال المجددة بخروجها على النسق السردي المنظم، وباختيارها الشكل الحديث الذي يميل إلى التكثيف وإلى التداعي وإلى خلخلة الانتظام السردي.
يضاف إلى ذلك لغته السردية المنضبطة التي توازن بين المحتوى الحكائي المكثف، واستعمال اللغة الشعرية باقتصاد شديد يقتصر على المواقف الدالة، مع التنبه إلى إمكانيات الإفادة من الفنون المجاورة، كالرسم والتشكيل الذي برع فيه غسان وأفاد من تقنياته في رسم المشهد السردي بطريقة تشكيلية جديدة.
ونتيجة لاختياره الطريقة المختزلة المكثفة بدت رواياته من نوع "النوفيلا" أو الرواية القصيرة، وهو نوع ثالث في رأينا يقع بين القصة القصيرة والرواية، وبهذا التصنيف ينبغي التعامل مع كتاباته.
وسوف يتفهم القارئ حينذاك العلاقة بين قصر الرواية والعدد القليل من الشخصيات، والتقسيم إلى فصول أو مشاهد أو لوحات، وهي طريقته الأثيرة في بناء رواياته القصيرة، مما يمكّنه من السيطرة على عالمها المكثف.
تلفتنا لغة غسان أيضا، فبالإضافة إلى الاقتصاد اللغوي فإنها تظل لغة سردية بعيدة عن أصباغ البلاغة التقليدية، وهي من أقرب الأعمال المبكرة التي وسمت لغة الرواية الحديثة بلغتها المنطلقة السهلة خلافا للغة الشعر "الرفيعة" بتركيزها على عناصر التصوير والبديع والزخارف.
ولعل طبيعة حياة غسان ونشاطه الإعلامي وكتاباته الصحفية قد أسهمت في صقل لغته وتدريبه على هذا المستوى المهم الذي يذكرنا ببلاغة السهل الممتنع، بما فيه من جاذبية قرائية، ومن إمكانية الوصول إلى جمهور واسع من القراء، وهي أمور مهمة سعى دائما إلى الالتزام بها.
رواية ثورية تواكب الحداثة الأدبيةلجأ غسان بتأثير من قراءته ورغبته في أن يكون كاتبا مواكبا للحداثة الروائية إلى التقنيات الحديثة التي يمكن أن تستجيب لرؤيته، وربما نتيجة لاندماجه في القضايا التي كتب عنها، وكلها ذات صلة بالفلسطيني وبالهوية والمقاومة والثورة.
فقد طوّر تلك التقنيات وكيّفها ولم يكن تطبيقه لها ميكانيكيا حتى في أكثر أعماله وضوحا من ناحية وضوح مصادر التأثير، وهي رواية "ما تبقى لكم" التي أفاد فيها من الصخب والعنف، وحاول أن يكتب رواية فلسطينية بصخبها وعنفها، وبما يمور فيها من اكتشاف الطريق الصحيح الذي كان غائبا أو خاطئا في "رجال في الشمس".
وكلتا الروايتين فيها صحراء، صحراء الكويت وصحراء النقب في فلسطين، ولكن الثانية بدت شديدة الرفق بحامد وكأنها أم حنون، حتى وهو يصارع عدوه وجها لوجه، كأن هذه الصحراء في بعض استبصاراته هي ساحة النزال وليس صحراء الكويت والبصرة.
ولقد لجأ غسان إلى التداعي الحر ولوجهات النظر وتعدد الرواة وإلى الرسائل وأشكال من الحوارات وإلى تحويل الفكرة إلى تمثيل سردي يتمثل في مبدأ الاختيار أو التعمد أو المصادفة التي تؤدي إلى فكرة بعينها تعكس رؤيته وتفكيره.
لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟وفي رواية "رجال في الشمس" تنتهي رحلة الفلسطيني بعيدا عن الوطن إلى الموت القاسي وليس الموت الكريم، ولا تنفع حين ذاك محاولة أبو الخيزران تبرئة نفسه بتوجيه التهمة إلى الآخرين الذين لم يدقوا جدران الخزان:
"انزلقت الفكرة من رأسه ثم تدحرجت على لسانه:
لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟
دار حول نفسه دورة، ولكنه خشي أن يقع فصعد الدرجة إلى مقعده وأسند رأسه فوق المقود:
لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا؟ وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ [1].
إن هذا المصير الذي انتهى إليه أبطال الرواية الثلاثة على يد السائق/ القائد الذي وعد أن يصل بهم بر الأمان مشهد ينطوي على عنف شديد، سواء في الطريقة المفزعة لموتهم اختناقا داخل الخزان المعدني المغلق، وتحت لهيب الصحراء، أو في القفلة اللغوية التي صاغها كنفاني بتكرار "لماذا" 13 مرة.
وهو تكرار يؤكد عنف اللغة وعنف السؤال الذي يتجاوز أبا الخيزران ليغدو سؤالا وجوديا عنيفا، فضلا عن أنه سؤال يجمع الفجيعة مع غياب العلة أو السبب فيزداد عنفا وسطوة، إنه سؤال المصير الفلسطيني عندما لا يهتدي إلى الطريق الذي يوصله إلى الوطن.
رواية فلسطينية بإيقاع عالميأما روايته القصيرة "ما تبقى لكم" فقليلة الشخصيات، إذ هي قصة حامد وأخته مريم، وزكريا زوج مريم، إضافة إلى الساعة والصحراء.
وقد حاول فيها أن يكتب رواية فلسطينية حديثة بأسلوب فوكنر في "الصخب والعنف)" كما أشار هو وكما حلل بعض نقاد الأدب المقارن هذا الأثر.
ويمكن القول بوجه الإجمال إن ذهابه إلى فوكنر وتأثره به لم يكن تأثرا آليا، بل فيه جهد كبير لتكييف شكل صعب مشتت مع أحوال الشتات الفلسطيني.
وتمر فلسطين كخلفية وعلة للمصائر المأساوية تفسر كل ما حدث: تأخر زواج مريم بسبب منها، وضعفها أمام زكريا وحملها منه، ثم الزواج القسري درءا للفضيحة.
أما حامد فقد غادر هاربا متسللا إلى غزة مرورا بصحراء النقب الفلسطينية المحتلة، وتتناوب الشخصيات في الظهور دون فواصل سوى ما تدل عليه تقنية حجم الخط على طريقة فوكنر.
ومادة الرواية تعتمد على التداعي ونتف الذكريات المكسرة وعلى فيوض الوعي وأفكار الشخصيات.
عائد إلى حيفا.. الإنسان قضيةوتقدم رواية "عائد إلى حيفا" مواطنا فلسطينيا من حيفا اسمه "سعيد. س"، كان قد غادر مدينته بأثر من نكبة عام 1948، وهو الآن بعد 20 سنة يقود سيارته برقمها الأردني بصحبته زوجته "صفية" يوم 30 يونيو/حزيران 1967، أي في نهاية شهر الهزيمة وذيولها عندما فتح الاحتلال باب العودة للزيارة المؤقتة وهدم أو فتح بوابة منلدبوم بعدما استكمل احتلال فلسطين وأعلن انتصاره على الجيوش العربية.
الزيارة بعد 20 سنة من خروج هذه الأسرة من حيفا عادت مستفيدة من ذلك الإذن لسبب تلكأت الرواية في إعلانه، في نوع من الإرجاء الفني التشويقي.
لكنها قبل الوصول إليه أثثت الطريق ببعض ما يتصل بأبعاد الصراع، يقول "سعيد. س" لنفسه ولزوجته "لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفورا، لم يحدث ذلك في أي حرب في التاريخ.. لماذا؟ لسواد عينيك وعيني؟! لا، ذلك جزء من الحرب، إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقيا، عليكم أن تقبلوا أن تكونوا خدما لنا، معجبين بنا، ولكن رأيت بنفسك: لم يتغير شيء.. كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير" [2].
ويذكر "سعيد. س" بوابة "مندلبوم"، وهي بوابة شهيرة أنتجتها الحرب بين شطري القدس، قبل استكمال احتلالها عام 1967، حيث كانت ملتقى الفلسطينيين من الجانبين، من ظلوا تحت الاحتلال ومن غدوا لاجئين في الجهة الأخرى، يلتقون عندها في الأعياد وبعض المناسبات لتكون شاهدا على تمزيق الوطن وبعض مآلات الصراع، وتكون مظهرا "إنسانيا" مصطنعا لهيئات الإغاثة.
فُتحت هذه البوابة من جهة الاحتلال مؤقتا بعد حرب 1967، وعكست رواية غسان قراءته وقراءة الراوي لهذا الحدث وما يختزنه من مفارقة "أتعرفين طوال 20 سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم، ولكن أبدا لم أتصور أنها ستفتح من الناحية الأخرى، (أي من ناحية الاحتلال وبإذنه)، لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك حين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعبا وسخيفا وإلى حد كبير مهينا تماما، قد أكون مجنونا إذا قلت لك إن كل الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة، وإنها إذا فتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال، ولكن تلك هي الحقيقة" [3].
هذه الفقرة المهمة يجب أن تقرأ بدقة وحسم، خصوصا في موضع التطبيع وافتعال الأسباب للتعامل الطبيعي مع العدو، على المستويين الفلسطيني والعربي.
ومشهد لقاء الوالدين بابنهما أو من كان ابنهما هو المشهد الأشد عنفا، إذ يجدان هذا الابن جنديا صهيونيا بعدما تبنته الأسرة اليهودية وسرقته كما سرقت بيتهما، يتحاوران مع المرأة اليهودية التي تقابلهما ببرود وتعرض عليهما أن يخيرا خلدون-دوف، فهو اليوم شاب يستطيع أن يختار.
كيف يحل غسان هذه المسألة المعقدة بلا شك؟ يحلها بالانتصار لمبدأ الانتماء للقضية "الإنسان قضية" فلا يتحدد بانتماء بيولوجي أو دموي، وإنما بانتمائه لقضية فلسطين، وهكذا يخسر خلدون رغم أنه حاول استعادته، ويكسب خالد.
خلدون يغدو "دوف" الجندي الصهيوني، في الجانب المضاد لخالد الذي يعلن رضاه عن رغبته في الانضمام إلى الفدائيين رغم اعتراضه على ذلك أول الأمر، قبل أن ينتبه إلى أبعاد القضية قبل زيارته الجديدة إلى بيته وإلى مدينته، لقد وجد كل شيء محتلا.
وهكذا تبدو المقاومة قرينة للاحتلال وردا عليه وسبيلا وحيدا للتخلص منه، تسوية الأمور في المدينة تحتاج إلى حرب، ولن تسويها أي أمور أخرى، لقد تحاور أو تفاوض مع "دوف- خلدون" ولكن دون جدوى، ولذلك فإن الحرب هي ما يلزم وليس شيئا آخر.
ورغم الحمولة العاطفية فإنه يتخفف منها وتتخفف منها زوجته، فلا يغدو الحنين إلى البيت مسيطرا كما كان، وإنما الرغبة في الحرب التي تسوي الأمور وعيد تعريف الأشياء، المقاومة عند غسان شديدة الصلة بالهوية وبفلسطين، فليست الهوية موقفا رومانسيا ولا ارتباطا ببيت ما أو زمن ما.
يقول "سعيد. س" لخلدون- دوف بعدما اختبر انتماءه ووجد استحالة استعادته "لا حاجة لتصف لي شعورك فيما بعد، فقد تكون معركتك الأولى مع فدائي اسمه خالد، وخالد هو ابني، أرجو أن تلاحظ أنني لم أقل إنه أخوك، فالإنسان كما قلت قضية، وفي الأسبوع الماضي التحق خالد بالفدائيين".
أم سعد وتمجيد المقاومةأما رواية "أم سعد" (ط 1: 1969) فهي رواية تمجيد صعود المقاومة بشكل واضح في صورة رد متفائل على هزيمة نكسة يونيو/حزيران 1967، وفي صورة حل وحيد يعيد تسوية الأمور وترتيبها.
إلى جانب ربط هذه المقاومة بجذورها الأولى التي بدأت في النصف الأول من القرن الـ20، وتجلت أكثر ما تجلت في عام 1918 (ثورة البراق) وأحداث يعبد وثورة عز الدين القسام التي كانت ثورة فلاحين مقموعين في مواجهة الاحتلال البريطاني.
طوّر غسان في هذه الرواية ميله إلى ذلك الشكل الأثير عنده: النوفيلا أو الرواية القصيرة التي تبنى من قصص مشهدية، تكاد تستقل كل منها في مشهد قصصي موحد، ولكنه يتصل في الوقت نفسه متكاملا مع بقية المشاهد، وبين ومضات الاتصال والانفصال تتأسس جماليات الرواية بنزعتها الاختزالية المكثفة وطريقتها المركزة في التعبير الموجز القوي.
وفيها أيضا قدر من التركيز على دور المرأة الفلسطينية من خلال بطولة نموذج "أم سعد" الأم الثورية كأنما بالفطرة، القادمة من شعب المخيمات وليس من القيادات البرجوازية أو المثقفة.
وقد مرت صور المخيم في أعمال سابقة، لكن المخيم ظل مكانا مقلقا لغسان يذكّره بعذاب شعبه، ويرى فيه مكانا معدا لهدر الطاقات وإسقاط الناس في حومة الجوع والحاجة.
واختبر كنفاني مرة أخرى إمكانية تقديم رواية تجمع بين البساطة والعمق، وتتأسس على بلاغة "شعبية" بصورة من الصور، مع تخفيض التعقيد التقني الذي ظهر في روايات سابقة مثل "ما تبقى لكم" إلى الحد الأدنى، مما يجعل الرواية سهلة القراءة والتناول دون أن تفقد جماليتها ومعناها.
لا تعتمد الرواية على بنية إخبارية متصاعدة، وإنما بنية مشهدية تتناسب مع ما ترغب الرواية في قوله، كما تمنح الكاتب حرية الاختيار من الوقائع بما يجعل لها معنى موجها في ضوء المذهب الواقعي.
وقد أدت هذه المشهدية إلى ضرورة نهوض اللغة بدور مؤثر يتمم تأثير الرواية وحيويتها ويكسر أي رتابة متوقعة في شكل أميل إلى الثبات من الحركة، ومن هنا حضرت تلك الحزمة الوصفية والشعرية والتشكيلية التي أبرزت التفاصيل والحركات والإيماءات، كما غدت لغة موازية بليغة في تصوير نموذج لم تصوره الروايات السابقة.
إنها نوفيلا يوميات تذكرنا بصمت البحر لفيركور [4] من روايات المقاومة الفرنسية في مواجهة الاحتلال النازي، تقترب منها في محدودية المسرح الذي تتحرك فيه الشخصيات، ففي كلتيهما تجتمع الشخصيات في مكان ضيق هو البيت أو النزل، أما الأماكن الأخرى فترد عبر استذكارات أو تعريفات الشخصيات وهي في المكان الثابت إياه، الأمر الثاني قلة عدد الشخصيات، وهي سمة قصصية تؤكد شكل النوفيلا أيضا.
والأمر الثالث التركيز القصدي على ملامح الشخصيات، خاصة حركة اليدين والكفين وملامح الوجه، بحيث تنال اهتماما تشكيليا قصديا يكمل دلالات الرواية، ويغدو سمة فنية في الرواية.
ولقد أبدع غسان في هذا الجانب، فبدا متلذذا بخبرته في الرسم ولكنه يمارسها هنا معتمدا على اللغة وليس بالخطوط والألوان.
والامر الأساسي أن صمت البحر رواية مقاومة بأسلوب خاص، قاوم فيها الرجل وابنة أخيه بالصمت والتجاهل الاحتلال الذي تمثل في شخصية الضابط الذي فرض عليهما قبول إقامته معهما، ورغم كل مواصفاته وأخلاقه وثقافته المتميزة فإنهما لم يقبلاه لما يمثله من احتلال، فليس المهم أخلاق الفرد ونعومته وإنما ما يمثله وفي أي سياق، كما أن هذه الطبيعة الفردية لا تغير شيئا من حقيقة الاحتلال.
أم سعد في جنازة غسان كنفانيولقد شهدت أم سعد الحقيقية (أم حسين) استشهاد غسان كنفاني، وكانت في مقدمة مشيعيه، كأنها خرجت من روايته أو حولتها إلى رواية واقعية 100%، كما كان غسان يطمح في الوصول إلى بلاغة الواقع القصوى، وظلت على علاقة بأسرته.
وها هي ليلى غسان كنفاني تأخذ بعض معرفتها بالمخيمات من أم سعد، فتقول في حوار صحفي "ليلى، لمّا كنا في برج البراجنة ورد ذكر جوع الناس في حصار العام 1986، وأتذكر أن أم حسين (أم سعد) أخبرتني أنهم كانوا يقتلعون الحشيش (العشب) ويغلونه بالماء ويأكلونه".
وفي نهاية الأمر، النساء كنّ من فك الحصار عن المخيم، إذ حملن أطفالهن واتجهن إلى الحاجز، وقلن "نحن جوعانين (جائعات)، نحتاج أن نأكل، بالطبع، كان هناك تنسيق أمني، لكنهن كن المبادرات، وقتلت منهن 42 امرأة قنصا لمنعهن من الخروج" [5].
ولإيضاح هذا الجانب نلتفت إلى المعلومات القليلة عنها، منها ما كتبه الأديب سليمان الشيخ "أم سعد الرواية، هي أم حسين أو آمنة أحمد ياسين في الحقيقة والحياة، وهي كما يعترف غسان تربطه بها قرابة ما ومن واقع علاقته معها وما كانت تنقله من أحداث المخيم برج البراجنة ومن أحداث في حياتها أعطت لغسان المادة الخام للرواية".
كبرت "أم حسين" وشاخت، وجسدها الذي كان شامخا كرمح صلبا كصخور البراري غزته الأمراض: السكري والضغط وآلام القدمين.
تقول في إحدى المقابلات القليلة التي أجريت معها "أعاني من السكري والضغط وألم القدمين، ومع اقتراب الثامن من تموز، اليوم الذي استشهد فيه غسان يرتفع السكري والضغط وينتابني ألم في جسدي وأحس بـ"نثرات" الزجاج التي ملأته -غسان- حين انفجرت السيارة بجسده عام 1972، أم سعد، أي آمنة أحمد ياسين دخلت في الرواية عام 1969 ولم تخرج منها، ولن تخرج، وجسدها الحقيقي جاور جسد غسان في مقبرة الشهداء في بيروت في 10 أغسطس/آب من عام 1993″ [6].
الكتابة كمعنى للحريةلقد أعطى كنفاني الكتابة معنى الحرية، وقرنها بأعلى معاني النضال، كما جعل من شخصية المبدع شخصية مقترنة بالقضية المشرّفة التي يحق للمرء أن يفخر بها، لقد صار للكتابة القصصية والإبداعية منظور مغاير مع الممارسة الكنفانية.
ومع استشهاده في شبابه المتألق نتيجة لخوف المحتل منه ومن كتابته تبدو الكتابة مع ظاهرة غسان كنفاني جزءا أساسيا من حركة المجتمع، وقسيما أساسيا في هويته النضالية، إنها شريك الجماهير ومرآة وعيهم وإنسانيتهم، وهي أيضا مفزعة ومرعبة توازي البندقية وأدوات النضال المباشرة.
وهكذا صار كنفاني حياة متجددة للأدب العربي الحديث بإنتاجه الحي وبنهايته المأساوية التي تطايرت فيها أشلاؤه تحت أثر العبوة الناسفة، لكنه تحول إلى علامة خالدة من علامات الأدب العربي كله، في صورة مثقف كبير منح وطنه وشعبه كل ما يملك من عطاء ووعي، وكتب كأفضل ما تكون الكتابة، وربما هذا ما يفسر خلوده المتجدد رغم كل هذه السنوات التي مرت على غيابه المدوي.
رسم غسان كنفاني في قصصه ورواياته صورة ممتلئة بالتفاصيل للحياة الفلسطينية في إطارها الإنساني والوجودي.
وكانت اللمسات الوجودية المعبرة إحدى ميزات كتابة غسان، فهو حين يكتب عن انتظار الفدائي وعن ولادته، ثم حين يمجده ويعد به ينظر له من منظور إنساني ممتد، ولا يغلق شخصيته على أبعادها الفلسطينية وحدها، إنه إنسان أولا.
وهكذا تمكن كنفاني مبكرا من اقتراح أحد سبل الكتابة العالمية، كيف تنقل هموم شعبك لتغدو هموم الشعوب كلها حتى تجد من يتعاطف معك وينتصر لك، ليس الأمر سهلا، لكنها خيارات الكاتب الواعي، والمبدع الإنسان.
[1] . كنفاني، غسان، رجال في الشمس، ضمن: مجلد الأعمال الكاملة-الروايات، دار الطليعة، بيروت، 1972، ص 152.
[2] . كنفاني، غسان، عائد إلى حيفا، مؤسسة الأبحاث العربية، ط 6، 2004، ص 12.
[3] . كنفاني، عائد إلى حيفا، ص 11.
[4] . فيركور، صمت البحر، ترجمة وحيد النقاش، ط 5، دار أزمنة، عمّان، 2015.
[5] . حوار سحر مندور مع عائلة غسان كنفاني.
[6] . سليمان الشيخ، أم سعد الرواية.. أم سعد الحياة، في: جريدة الحياة، بيروت، 2022/7/6، رقم العدد: 14352، ص 21.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات غسان کنفانی لماذا لم أم حسین لم یکن أم سعد
إقرأ أيضاً:
اقرأ لي رواية
أنطونيو مونيوث مولينا
ترجمة: حسني مليطات
طلب مني عمّي، الذي كوّن ثروة مهمة في حياته أنّ أنصحه بكتب لتقرأها بناته، اللاتي أوشكن على الخروج من سنّ الطفولة، والبدء بمرحلة عُمرية جديدة، فقال لي: «أريد كتبًا مُؤَسِّسة، ليست بروايات، ولا شيء من هذا القبيل». تجدر الإشارة إلى أنّ عمي وصل إلى مكانته الاجتماعية المرموقة دون الحاجة إلى قراءة ولو كتاب واحد، ومع ذلك، له قناعته الصارمة حول ما لا ينبغي على بناته ألا يقرأنه، ولا يعزو سبب ذلك إلى الظّن المتعارف عليه عن الانحلال الأخلاقي في بعض الروايات، لا سيما عند النساء، بل بسبب توجسّه من «الخيال». ما الفائدة من قراءة حكايات مختلقة عن أناس لا وجود لهم؟ أتذكر الآن عمي المسكين؛ لأنني أقرأ هنا وهناك تقارير وتحاليل عن اللامبالاة المتزايدة، بل وحتى الرفض الصريح من الرجال للكثير من الروايات، وخاصة عند الشباب، أو أولئك الذين هم في مرحلة المراهقة الأولى. إنّ ما يرصده الخبراء اليوم، وبهذه الحدّة، يعرفه أيّ كاتب يهدي كتبه إلى عدد من القُرّاء، أو يلقي محاضرةً، أو يقبل دعوة من نادٍ للقراءة. إحصائيًّا، القارئ «قارئة»، تمامًا كما أنّ الممرض «ممرضة». وكما يوجد قُرّاء ذكور ممتازون، يوجد أيضًا ممرضون رائعون في عملهم، لكن منذ منتصف القرن الثامن عشر، وتحديدًا حين شاع فنّ الرواية، لوحظ بأنّ جمهورها الأكبر كان من النساء، وهو ما جعل البعض يُعدّ ذلك دليلًا على ضعف الاتساق الفكري لهذا الشكل الأدبي. وقد استطاعت بعضُ النساء، وخاصة في بريطانيا وفرنسا، أن يصنعن لأنفسهنّ «مهنة أدبية»، وقد نجحن في ذلك؛ لأنها، كما ترى فرجينيا وولف، من أرخص المهن. فامرأة مثل جاين أوستين تحمّلت كلفة المواد القليلة التي نحتاج مثلها في عصرنا الحالي؛ لتحقيق فعل الكتابة، مثل: الحبر، والورق، والريشة، وشيء من الكسل.
ويوجد عنصرٌ آخر أساسي، رغم مجّانيته، وهو: فضول التعرّف على حياة الآخرين، والقدرة على التخيّل، الذي يُتيح مراقبة الحياة نفسها من الداخل والخارج، وبسرد تجارب الآخرين، كما لو أن المرء عاشها أو ما زال يعيشها إلى الآن. إنّ تلك القدرة التي يمتلكها الروائي يقابلها، بشكل دقيق، قدرة القارئ على العيش المتخيّل لحياة الأشخاص المُتخيلين في الرواية، ولا يكون ذلك خبط عشواء، ولا بتقريب تلك الشخصيات بآخرين من الواقع، وإنما من خلال تلك الآلية المعقدة، التي سمّاها الشاعر كوليردج التعليق المؤقت أو المشروط للشك وعدم التصديق. أنا أعرف بأنّ الأمير أندريه بولكونسكي وفريدريك مورو ليسا شخصيتين حقيقيتين، موجودتين في الواقع، لكن عندما ينظر بولكونسكي، المصاب بجروح خطيرة في معركة أوسترليتز، إلى السماء الزرقاء الصافية، ويتملّكه شعور الحزن بدنوّ الأجل في سن مبكر، أو عندما يودّع فريدريك مورو حبيبته، مدام أرنو، وينظر إليها وهي تبتعد ببطء بشعرها الأبيض، في هاذين المشهدين من روايات «الحرب والسلم»، و«التربية العاطفية»، يخنقني الحزنُ، لدرجة أنني لا أستطيع أن أتمالك نفسي، فتبلّ الدموع عينيّ. ولذلك، يقول مارسيل بروست: إنّ الأدب، والموسيقى، والفن، السبيل الوحيد لمعرفة نفوس الآخرين، الموسومة بـ«علامات» من الكلمات والإيماءات، التي تظلّ موضع شكّ دائمًا».
يعيش كلّ واحد منّا مُقيّدًا داخل حياته الخاصة، في بيئة محدودة من الأشخاص والأماكن، وفي زمن مُنح قصيرًا لهذا العالم. لا أعتقد بأنّ الروايات تواسينا عن تفاهة الواقع، ولا تتيح لنا الاستمتاع بمشاعر أقوى وأصدق من تلك التي تُقدّمها لنا الحياة؛ فبالطبع هناك روايات سيئة، وروايات بغيضة، وروايات قد يكون لها، في بعض الأحيان، تأثير مُدمّر، في لحظات أو في فترات الهشاشة المُطلقة. ومع ذلك، فأنا مقتنع بأنّ امتلاك «عادة» قراءتها، وتثقيف الذات نقديًّا، ومع توليد الحماس أثناء ممارسة فعل القراءة نفسه، يمكن أن يُنير لنا الطريق للتعريف بذواتنا والآخرين، دون أن ننسى أهمية تلك الروايات في التسلية السليمة والزهيدة؛ ففي الأدب، كما يقول إسحاق باشيفيس سينجر «الحقيقة المملة ليستْ حقيقة». إنّ عالم اليوم، الذي يبدو أنّه يمنحنا منظورات غير محدودة لكل شيء، يحصرنا في قوقعة التشابه والانتماء القبلي: هويتك الجنسية، ومبادئك الأيديولوجية، والجيل الذي تنتمي له. إنّ الرواية الجيدة تُعلّمك تذّوق الفروق اللامتناهية للخاص وغير القابل للاختزال، وتُعرّفك على الأخوّة العميقة التي قد تربطك بمن يبدو غرباء عنك: أشخاص من زمن آخر، ومن جنس آخر، ومن طبقة مختلفة، ويتحدثون بلغة أخرى غير لغتك، للتعرف، فجأة، على ذاتك بهوية، نادرًا ما تجدها عند معاصريك، لا سيما بين المجموعة التي تنتمي لها، برغبتك، وتكيّفك، وبكامل قوّتك.
يتحدث بعضُ المؤرخين عن زمنٍ، بدأ تقريبًا في عصر التنوير، حدث فيه ما أطلق عليه «توسعة الدائرة الأخلاقية». الزمن الذي يتزامن أيضًا مع بداية العصر الذهبي لفنّ الرواية. بدأ الأشخاص أو الجماعات الذين حرموا من إنسانيتهم، أو وصفوا بمستويات دنيا، بالحصول على حق الاعتراف بهم، وبحقوقهم، وبمساواتهم مع الآخرين. وبينما كان المستكشفون والتُجّار يُخضعون الشعوب الأصلية باسم تفوّق الإنسان الأبيض، كان هناك مفكرون مثل ديدرو وغيره الكثير، بينهم نساء، يدينون الاستغلال والعنف الاستعماري، وينددون بالعبودية، مُتخيّلين أنّ أولئك الأشخاص من ذوي البشرة المختلفة، وأنماط العيش المغايرة، يستحقوّن أن يُدرجوا ضمن دائرة أخلاقية، عرفت بأنها كانت، في ذلك الوقت، حكرًا على «الذكور البيض»، من ذوي السلطة الاقتصادية. دافع الروائي والفيلسوف جان جاك روسو عن مبدأ المساواة بين البشر، غير أنّ ماري وولستونكرافت ذكّرت أتباعه -أتباع روسو- في الثورة الفرنسية بأنّ الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان والمواطنة لن يكون فاعلًا إلا إذا شمل حقوق المرأة. وعُرفت ابنتها ماري شيلي بشجاعتها الموروثة من أمها، فقد رسمت من ملامح «فرانكشتاين» الشخصية الإنسانية التراجيدية لأشد الكائنات إقصاء عن الدائرة الأخلاقية، «فرانكشتاين» ذلك المخلوق المسخ الذي تبرأ منه خالقه نفسه؛ مذعورًا من هيئته. وسلط الاهتمام الأكبر بمسألة المعركة السياسية ضد العبودية، حين انضمّت إلى الحُجج النظرية شهادات صادقة من عبيد فارّين، رووا بأنفسهم قصص استعبادهم، وتمرّدهم، وشجاعتهم، ليجبروا خيال القُرّاء، من خلال ذلك السرد، على أن يتقمّصوا شخصيات المُضطهدين، وأن يتعرفوا، كما لو أنّهم ينظرون إلى مرآة مقلقة، على وجوه مَنْ صنّفوهم يومًا ما على أنهم أدنى منزلةً. تجدر الإشارة إلى أنّ العلم لم يتحرر كليًّا من أوهام العنصرية إلا بعد العقاب القاسي الذي فرضه النّازيون: فأفضل الأدب، هو الذي فتح عيون القُرّاء للتعرف على أدلة المساواة بين البشر، وعلى تفرّد كل واحد منهم.
لقد شهدنا بأعيننا اتّساع الدائرة الأخلاقية، سواء في القوانين، أو في الحياة اليومية، أو داخل العائلة نفسها، حيث بات ما كان، حتى وقت قريب، لا يُتخيّلُ أمرًا معتادًا: خيارات النّاس الحيوية والجنسية، والتابوهات القديمة التي تلاشت إلى حدّ لم يعد أحد يتذكرها. إنّ تخيّل ما لا يمكن تخيّله هي مهمة الروائي والمصلح الاجتماعي. لكن لأننا ما زلنا نتذكر البشاعة الجمالية والأخلاقية لماضٍ غارق في الأحكام المسبقة، فإننا نرتعب أكثر عندما نرى كيف أن الدائرة الأخلاقية عادت تضيق مرة أخرى: حيث الحدود القاطعة بين «نحن» و«الآخرين»، والحدود الذهنية التي تساعد الروايات على زوالها، والحدود الجغرافية التي عادت من جديد بكل ما في هذا العالم من تشدد سياسي وتوحش تكنولوجي. ففي غزة، وأوكرانيا، والسلفادور، ومناجم الجحيم في الكونغو، وأفغانستان، وفي الزنازين المحاطة بالتماسيح في فلوريدا، يُعذّب النّاس ويُبادون بكل سهولة، وكأنّ الآخرين لا يعرفون عنهم شيئًا، أو أنهم لا يريدون أن يتصوروا بأنّ أولئك الذين يعيشون في ذلك الجحيم هم بشر مثلنا.
حسني مليطات مترجم وأكاديمي في جامعة صحار
المقال عن صحيفة ألباييس الإسبانية، منشور بتاريخ 5/7/ 2025.