عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا الأسبوع الماضي ندوة بعنوان "شهادات حية لأطباء عائدون من غزة" حول الأزمة الإنسانية المتصاعدة في قطاع غزة وشلل القطاع الصحي نتيجة القصف الإسرائيلي الذي لم يتوقف منذ عشرة أشهر مع بداية الإبادة الجماعية التي فتكت بمعالم الحياة العادية في القطاع.

شارك في الندوة مجموعة متميزة من الأطباء الدوليون الذين تواجدوا في قطاع غزة في فترات مختلفة منذ بداية الحرب في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 2023، وشهدوا بأنفسهم الظروف المروعة التي يعيشها المدنيون هناك بفعل الهجمات الإسرائيلية والممارسات غير الإنسانية مثل قطع الكهرباء ووقف الإمدادات الطبية الأساسية، والتي بطبيعة الحال تسببت في تأثير مباشر على القطاع الصحي، وخلال الندوة، استعرضوا هذا الواقع المزري لتسليط الضوء على هذه المأساة وبحث السبل الممكنة لإيجاد حلول لإنقاذ المدنيين هناك.



قدم الدكتور أمجد الشريف، جراح الصدر، رواية مروعة عن تجربته الشخصية أثناء عمله في مستشفيات شمال غزة، حيث زار القطاع مرتين - مرة في مارس/ آذار ومرة أخرى في يوليو/ تموز 2024- وغادر القطاع حديثًا في 1 أغسطس/ آب 2024. وروى د. أمجد عن الظروف المروعة التي يعيشها أهل الشمال، والذين يبلغون حاليًا حوالي 700 ألف شخص، جميعهم فاجأوه بقدرتهم العالية، بما في ذلك المهنيين الطبيين، على الصمود على الرغم من التحديات والصعوبات التي تواجههم في كل ساعة بسبب الحرب. ووصف د. أمجد الشمال بأنه "عالم مختلف تمامًا" مقارنة بالجنوب، مشيرًا إلى أن المنطقة كانت منطقة كوارث، حيث يعاني السكان من أوضاع غير إنسانية بالمرة، وعلى الرغم من الظروف المزرية، أكد د. أمجد أن الأطباء المحليون أظهروا تفانيًا غير عادي في التعامل مع الحالات الطبية المعقدة بموارد محدودة للغاية.

كان أحد الجوانب الأكثر لفتًا للانتباه في شهادة د. أمجد على الأحداث انتشار المجاعة بصورة كبيرة في الشمال، والتي أثرت على الجميع بلا استثناء، بما فيهم الطواقم الطبية، مشيرًا أن أغلب الناس، بما في ذلك الأطباء والممرضات، فقدوا ما بين 25 إلى 30 كيلوغراماً بسبب نقص الغذاء والماء والكهرباء.

وبين أنه ولمدة ثلاثة أشهر، لم يكن هناك أي وصول تقريباً إلى هذه المواد الغذائية الأساسية، ولم يخفف وصول الأغذية المعلبة إلا قليلاً من سوء التغذية المنتشر. وروى الدكتور أمجد رؤيته لمرضى يعانون من سوء التغذية وهم يصلون إلى غرفة الطوارئ في ظروف مروعة، مثل مريض بمستوى صوديوم 178 - وهي حالة متطرفة لدرجة أنها لم يسمع بها في الكتب التعليمية الطبية.

ووصف الدكتور أمجد هجمات القناصة الوحشية التي تستهدف الأطفال، الذين عانى العديد منهم من إصابات خطيرة في الصدر. وبصفته جراح صدر، تعامل في المقام الأول مع مرضى تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات و35 عامًا، وكان 70% منهم من الأطفال. وكثيراً ما كان هؤلاء المرضى الصغار يعانون من حالات معقدة مثل انتفاخ الرئة وتليف الصدر، مع ترك أنابيب الصدر لشهور، ما يؤدي إلى الإصابة بعدوى ببكتيريا مثل كليبسيلا وسودوموناس. وقد أدى نقص المضادات الحيوية والأنسولين إلى تعقيد الوضع، حيث أصبحت عمليات البتر حدثًا يوميًا بصورة روتينية بسبب عدم القدرة على علاج المضاعفات السكرية بالصورة المطلوبة. وسلط الدكتور أمجد الضوء على نجاة بعض المرضى بأعجوبة، بما في ذلك فتاة تبلغ من العمر 12 عامًا تعاني من إصابة دماغية رضية، والتي نجت على الرغم من كل الصعاب بعد ستة أشهر من الانتظار لإجراء الجراحة - وهي شهادة على الجهود غير العادية التي يبذلها الطاقم الطبي في مثل هذه البيئة القاسية.

قدم الدكتور جيريمي هيكي، الذي عمل في المستشفى الأوروبي في غزة (EGH) ومستشفى شهداء الأقصى، رواية مفصلة عن تجاربه في العمل في المنطقة الجنوبية من غزة. وصل إلى غزة في منتصف يونيو/ حزيران 2024، وبدأ العمل في المستشفى الأوروبي في غزة، الواقع بالقرب من الحدود بين رفح وخانيونس. ومع ذلك، بسبب تدهور الوضع الأمني بسرعة، تم إجلاء فريقه من المستشفى الأوروبي في غزة ونقلهم إلى مستشفى شهداء الأقصى، مشيرًا إلى أن الأوضاع لم تكن أفضل هناك، بل كانت مشابهة للوضع في المستشفى الأوروبي حيث يعاني المستشفيان مع تدفق المرضى والنقص الشديد في الموارد والمستلزمات الطبية.

في الجنوب، بينما لم يكن نقص الغذاء حادًا كما هو الحال في الشمال، أكد الدكتور هيكي أن توفر المواد الغذائية كان أيضًا محدودًا، موضحًا أن السكان يعتمدون بشكل كبير على الحبوب والكربوهيدرات، مع القليل من الوصول إلى الأطعمة الغنية بالبروتين. روى الدكتور هيكي أنه خلال إقامته، وصلت شحنات من الدجاج المجمد لأول مرة منذ شهرين، ما يسلط الضوء على ندرة الغذاء الشديدة. حتى خلال عيد الأضحى، والذي من المفترض أنه الوقت الذي يزيد فيه استهلاك اللحوم الحمراء في الدول الإسلامية، لم يتمكن سكان غزة من الوصول إلى اللحوم بسبب التكلفة الباهظة، حيث يبلغ سعر الحيوان الواحد حوالي 2000 دولار، لافتًا أن سوء التغذية كان عاملًا رئيسيًا في المساهمة في انتشار الأمراض والأوبئة.

سلطت شهادة الدكتور شعلان الضوء على التحديات الشديدة التي يواجهها الطاقم الطبي بسبب نقص الإمدادات والمعدات الطبية، ووصف كيف كانت العناصر الأساسية، مثل الأدوات الجراحية والصفائح الجراحية للعظام، غير متوفرة أو كان لابد من تهريبها عبر مصر بصعوبة، وفي معظم الأحيان لم ينجحوا في ذلك.وسلط الدكتور هيكي الضوء على الحالة المزرية للصرف الصحي والنظافة في المستشفى الأوروبي في غزة، والتي تضررت بشدة بسبب الاكتظاظ ونقص مواد التنظيف، مبينًا أن المستشفى كانت تُستخدم أيضًا كملاذ للاجئين والنازحين ما أضاف ضغوطاً هائلة على مرافقه. وتحدث د. هيكي على الانفجارات المتكررة لمياه الصرف الصحي التي خلقت بركاً من النفايات بالقرب من المناطق الحرجة مثل وحدة العناية المركزة، ما أدى إلى تفشي أمراض مثل التهاب الكبد الوبائي أ. وتفاقم الوضع بسبب وجود الذباب في غرف العمليات، وعدم توفر الستائر والعباءات المعقمة بشكل منتظم، ما جعل الحفاظ على بيئة معقمة أمراً شبه مستحيل. وأكد الدكتور هيكي على الواقع المأساوي المتمثل في علاج المرضى الذين يعانون من إصابات شديدة متعددة، وخاصة الأطفال، الذين تأثروا بشكل كبير في هذه الحرب. وأدى عدم القدرة على الحفاظ على الصرف الصحي السليم والإمدادات الطبية المحدودة إلى ارتفاع معدل الوفيات، حتى بين أولئك الذين نجوا من إصاباتهم جراء القصف أو القنص.

شارك الدكتور محمد شعلان، استشاري جراحة العظام، تجربته الشخصية في العمل في المستشفى الأوروبي في غزة خلال فترة الحرب. وصل إلى غزة في مارس/ آذار 2024، في وقت كان فيه المستشفى الأوروبي أحد المرافق الطبية القليلة العاملة المتبقية بعد أن أصبح مستشفى الشفاء في مدينة غزة خارج الخدمة بسبب الهجمات الإسرائيلية المتكررة. وسلط الدكتور شعلان الضوء على التناقض الصارخ بين البنية التحتية الطبية في غزة وما اعتاد عليه في أيرلندا، لافتًا إلى أنه في إيرلندا فإن حالات الإصابات الكثيرة قد تضغط على مستشفى مجهز تجهيزًا جيدًا. ومع ذلك، فإنه في غزة، غُمر المستشفى الأوروبي بأكثر من 270 مريضًا مصابًا في يوم واحد، جميعهم مصابون بإصابات خطيرة ومعقدة، ولم يكن لدى المستشفى سوى أربع غرف عمليات لإدارة هذا التدفق الهائل.

وسلطت شهادة الدكتور شعلان الضوء على التحديات الشديدة التي يواجهها الطاقم الطبي بسبب نقص الإمدادات والمعدات الطبية، ووصف كيف كانت العناصر الأساسية، مثل الأدوات الجراحية والصفائح الجراحية للعظام، غير متوفرة أو كان لابد من تهريبها عبر مصر بصعوبة، وفي معظم الأحيان لم ينجحوا في ذلك.

وبين أن عدم القدرة على إجراء العمليات الجراحية بسبب نقص الموارد تسبب في عدد كبير من حالات البتر التي يمكن الوقاية منها ومضاعفات أخرى. وتحدث الدكتور شعلان عن صدمته بشكل خاص من الوضع الذي تحولت إليه المستشفى، إذ يعيش المرضى وأسرهم داخل مباني المستشفى، حيث ينام الناس في الممرات وعلى السلالم. هذا الاكتظاظ لم يعرض سلامة ونظافة المرضى للخطر فحسب، بل إنه زاد أيضًا من خطر الإصابة بالعدوى، وخاصة في الحالات التي كانت تعاني من كسور مفتوحة.

وأكد الدكتور شعلان على التأثير الكبير للحرب على النساء والأطفال، الذين شكلوا 70% من المرضى الذين عالجهم. أصيب معظم هؤلاء المرضى في منازلهم، غالبًا بسبب ضربات الطائرات بدون طيار، ما يسلط الضوء على الطبيعة العشوائية للعنف. ولفت الدكتور شعلان إلى أنه خلال فترة تواجده في غزة لم يصادف أي إصابة من المقاتلين أو العسكريين، وأنهم جميعًا كانوا من الضحايا المدنيين. كما أنه أشار إلى انتشار سوء التغذية الحاد بين السكان، بما في ذلك الطاقم الطبي، الذين يعانون هم أنفسهم من نقص الغذاء والضروريات الأساسية. وأشار إلى أنه فقد تسع كيلوغرامات من وزنه خلال إقامته لمدة أسبوعين ونصف في غزة على الظروف القاسية التي يعيش فيها سكان غزة، مع عدم القدرة على الوصول إلى المياه النظيفة، أو الغذاء الكافي، أو الصرف الصحي المناسب.

في مداخلتها، سلطت الدكتورة سارة بدران، أخصائية أمراض القلب التداخلية للأطفال، الضوء على الجوانب التي لا يتحدث عنها أحد تقريبًا، ولكنها مدمرة بنفس القدر، في الأزمة الإنسانية في غزة. أمضت الأسابيع الثلاثة الأولى من شهر مايو/ أيار 2024 في غزة، حيث شهدت الصعوبات اليومية التي عانى منها السكان، وخاصة الأطفال. سلطت الدكتورة بدران الضوء على الافتقار إلى الضروريات الأساسية التي غالبًا ما يتم تجاهل الحديث عنها، مثل الأحذية ومنتجات النظافة والحفاضات والإمدادات الطبية للأمراض المزمنة. لاحظت أن العديد من الأطفال كانوا بدون أحذية مناسبة، بل إن امتلاك حذاء في هذه الظروف كانت رفاهية بعيدة المنال، وقد تحدثت بأن المواد الأساسية مثل حليب الأطفال ومنتجات النظافة النسائية كانت تعاني من نقص حاد. وأدى هذا النقص، إلى جانب النزوح المستمر وظروف المعيشة السيئة، إلى تفاقم معاناة السكان.

تأثرت الدكتورة بدران بشدة بمعاناة الأهالي، وخاصة الشباب. وروت قصص الأطفال الذين انقلبت حياتهم رأسًا على عقب، والطلاب الذين فقدوا أحلامهم المستقبلية، إذ إن بعضهم كان على وشك إكمال تعليمهم الثانوي والبدء في الدراسة الجامعية، والبعض الآخر كان على وشك التخرج من الجامعة، لكنهم وجدوا مدارسهم وجامعاتهم مدمرة ومستقبلهم غير واضح المعالم. ولم يكن الدمار جسديا فحسب، بل إنه كان نفسيا أيضا، مع ذلك أظهر سكان غزة قدرة كبيرة على الصمود على الرغم من الظروف المروعة. وأشارت الدكتورة سارة بدران إلى الفجوة بين التعبيرات الخارجية عن القوة واليأس الكامن، حيث حاول الناس الحفاظ على تماسكهم وحفظ الكرامة في مواجهة هذه الظروف المروعة، لافتة إلى أن الأطفال، على وجه الخصوص، كانوا يكافحون للتعامل مع فقدان منازلهم ومدارسهم، وحتى حقوقهم الأساسية في الصحة والتعليم.

بالإضافة إلى التأثيرات المباشرة للقصف الإسرائيلي، سلطت الدكتورة سارة بدران الضوء على الآثار المدمرة المترتبة على الافتقار إلى الرعاية للأمراض المزمنة، وتحدثت عن الأطفال الذين يموتون من حالات يمكن علاجها بسهولة، مثل الربو والسكري، بسبب عدم توفر الأدوية الأساسية مثل الأنسولين. وأدى الافتقار إلى التحاليل الطبية المناسبة إلى تعقيد الوضع، حيث لم يتمكن الأطباء من تشخيص وعلاج الحالات بشكل فعال. على سبيل المثال، كانت هناك زيادة كبيرة في حالات التهاب الكبد بين الأطفال، لكن السبب ظل غير واضح بسبب عدم القدرة على إجراء التحاليل المناسبة. وأكدت الدكتورة سارة بدران أن هذه الوفيات يمكن الوقاية منها، مما يجعلها أكثر مأساوية. واختتمت حديثها بالتأمل في الآثار الأوسع للأزمة، مشيرة إلى أن تدمير أنظمة الصحة والتعليم في غزة من شأنه أن يخلف آثارًا طويلة الأمد على مستقبل أطفالها.

قدم الدكتور محمد عبد الفتاح، وهو طبيب في وحدة العناية المركزة للكبار، رواية مفصلة ومؤلمة عن الوقت الذي عمل خلاله في المستشفى الأوروبي في غزة في أوائل مايو/ أيار 2024، مشيرًا إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة كانت في جوهرها حربًا على الأطفال. وخلال فترة وجوده في وحدة العناية المركزة، رأى عددًا كبيرًا من المرضى الأطفال الذين يعانون من إصابات مروعة، بما في ذلك الحروق الشديدة، والبتر المتعدد، والجروح المهددة للحياة الناجمة عن الشظايا والمتفجرات. وتفاقمت شدة هذه الإصابات بسبب نقص الإمدادات الطبية الأساسية وانتشار البكتيريا المقاومة، مما جعل السيطرة على العدوى شبه مستحيلة. وأشار الدكتور عبد الفتاح إلى أنه في أي مكان آخر، ربما كان لدى هؤلاء المرضى فرصة للبقاء على قيد الحياة، ولكن في غزة، استسلم العديد منهم لإصاباتهم ولقوا حتفهم في غضون 24 إلى 48 ساعة.

قدم الدكتور محمد عبد الفتاح، وهو طبيب في وحدة العناية المركزة للكبار، رواية مفصلة ومؤلمة عن الوقت الذي عمل خلاله في المستشفى الأوروبي في غزة في أوائل مايو/أيار 2024، مشيرًا إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة كانت في جوهرها حربًا على الأطفال.وأضاف الدكتور عبد الفتاح إلى أن الافتقار إلى النظافة الأساسية والصرف الصحي في وحدة العناية المركزة أدى إلى تفاقم الوضع، متحدثًا عن الظروف المروعة التي كان على الطاقم الطبي العمل فيها، مع عدم توفر معقمات الأيدي أو الصابون للحفاظ على النظافة. كما ساهم وجود الذباب في وحدة العناية المركزة في انتشار العدوى، وخاصة بين ضحايا الحروق الذين كانوا بحاجة إلى تغيير الضمادات بشكل متكرر. كما أدى التوفر المحدود للإمدادات المعقمة والعدد الهائل من المرضى إلى استحالة توفير مستوى الرعاية المطلوب لمنع العدوى. ونتيجة لذلك، توفي العديد من الأطفال، الذين نجوا من الإصابة الأولية، بسبب العدوى التي كان من الممكن منعها في ظل ظروف طبيعية.

وسلط الدكتور عبد الفتاح الضوء على التأثير الأوسع للحرب على أطفال غزة، مشيرًا إلى أن غالبية الضحايا كانوا من الأطفال الذين وجدوا أنفسهم في ساحات الحرب بدلًا من ساحات المدارس للتعليم لمدة عشرة أشهر، يعيشون في ملاجئ مؤقتة داخل أراضي المستشفى. وكان هؤلاء الأطفال يعانون من سوء التغذية وحفاة الأقدام ومحرومين من الضروريات الأساسية، ومحرومين من العيش حياة طبيعية بروتين واضح. وأكد د. عبد الفتاح أن الصدمة النفسية التي يتعرضون لها نتيجة العيش في مثل هذه الظروف، إلى جانب الإصابات الجسدية التي يتعرضون لها، من شأنها أن تخلف آثاراً طويلة الأمد على مستقبلهم وحالتهم النفسية. وأكد الدكتور عبد الفتاح أن الأزمة في غزة ليست مجرد حالة طوارئ طبية، بل كارثة إنسانية من شأنها أن تترك ندبة دائمة على جيل كامل من الأطفال.

قدم الدكتور أحمد السيد، جراح الصدر، شهادة قوية ومؤثرة حول الظروف المزرية في غزة والتحديات الهائلة التي يواجهها كافة الطواقم الطبية، معربًا عن إحباطه العميق إزاء الافتقار إلى الموارد مقابل العدد الهائل من المرضى المصابين بجروح خطيرة الذين قابلهم خلال فترة وجوده في غزة. وتحدث د. السيد عن حالة من الحالات التي أثرت فيه شخصيًا، وهي حالة لفتاة صغيرة أصيبت برصاصة قناص، ما أدى إلى إصابتها بالشلل الرباعي، وبسبب غياب المعدات الطبية اللازمة، مثل قضبان التثبيت، كان هناك أمل ضئيل في شفائها، وظلت تعاني من موت بطيء ومؤلم. وقد أبرزت هذه الحالة، من بين العديد من الحالات الأخرى، القيود الشديدة التي تواجه البنية التحتية الطبية في غزة، حيث غالبًا ما كانت حتى الإمدادات الأساسية غير متوفرة.

وتحدث الدكتور السيد عن التدابير القصوى التي كان عليه هو وزملاؤه اتخاذها لعلاج المرضى المصابين بإصابات تهدد حياتهم، وفي غياب الإمدادات الجراحية المناسبة، اضطروا إلى الارتجال، باستخدام أدوات بدائية لإجراء عمليات إنقاذ الحياة. وعلى الرغم من بذلهم قصارى جهدهم، مات العديد من المرضى من شدة الألم بسبب الافتقار إلى الرعاية الطبية الكافية. ووصف الدكتور السيد العبء العاطفي الذي يسببه مشاهدة العديد من الوفيات التي كان من الممكن منعها، وخاصة بين المرضى صغار السن الذين كان مستقبلهم ينتظرهم. وانتقد المجتمع الدولي لتجاهله محنة شعب غزة، ورسم مقارنة صارخة بين معاملة المدنيين والظروف اللاإنسانية التي أجبروا على تحملها في غزة وفي دول أخرى تعاني من كوارث وصراعات.

وفي شهادته، سلط الدكتور السيد الضوء أيضًا على التداعيات الأخلاقية الأوسع للحرب، وتساءل عن أخلاقيات العالم الذي يسمح بحدوث مثل هذه الفظائع، وأشار إلى نفاق المجتمع الدولي، الذي يتحدث عن احترامه حقوق الإنسان، لكنه يفشل في اتخاذ أي اجراء عندما يتعلق الأمر بحماية شعب غزة. كانت شهادة الدكتور السيد بمثابة تذكير مؤثر بالتكلفة البشرية للحرب وفشل المجتمع العالمي في التدخل بشكل فعال، لم تنقل كلماته المعاناة الجسدية لشعب غزة فحسب، بل وأيضًا الشعور العميق بالتخلي الذي يشعرون به، حيث يغض العالم الطرف عن معاناتهم.

وقدم الدكتور زهير الهنا، وهو طبيب أمراض النساء والتوليد ذو خبرة واسعة في مناطق الصراع، رواية مؤثرة عن زياراته المتعددة إلى غزة، حيث كان شاهدًا على الظروف القاسية التي تواجهها النساء والأطفال بشكل خاص بسبب هذه الحرب. وأكد أن غزة لا تشبه أي منطقة صراع أخرى عمل فيها، مشيرًا إلى أن الناس هناك لا مفر لهم من العنف والدمار. ووصف الدكتور الهنا الأزمة الصحية الشديدة في غزة، حيث تموت النساء والمواليد الجدد جراء أمراض يمكن الوقاية منها بسبب نقص الإمدادات الطبية والرعاية المناسبة. وسلط الضوء على ارتفاع معدلات تسمم الدم لدى النساء وانخفاض حرارة الجسم لدى المواليد الجدد خلال أشهر الشتاء، وهي حالات يمكن علاجها بسهولة في أي جزء آخر من العالم، ولكنها غالبًا ما تكون قاتلة في غزة بسبب الظروف المزرية.

سلط الدكتور السيد الضوء أيضًا على التداعيات الأخلاقية الأوسع للحرب، وتساءل عن أخلاقيات العالم الذي يسمح بحدوث مثل هذه الفظائع، وأشار إلى نفاق المجتمع الدولي، الذي يتحدث عن احترامه حقوق الإنسان، لكنه يفشل في اتخاذ أي اجراء عندما يتعلق الأمر بحماية شعب غزة.وسلط الدكتور الهنا على الآثار الأوسع للأزمة، مشيرًا إلى أن الحصار المستمر والتدمير المنهجي للبنية التحتية في غزة قد خلقا وضعًا حُرم خلاله الناس حتى أبسط حقوق الإنسان، ووصف كيف يواصل الطاقم الطبي، الذي يعيش في ظروف أشبه بالتشرد، إظهار قدرة كبيرة على الصمود في مواجهة تحديات لا يمكن تصورها. وعلى الرغم من نقص الموارد والتهديد المستمر بالعنف، يسعى هؤلاء الأطباء والممرضات إلى تقديم الرعاية لمرضاهم، وغالبًا ما يعملون في ظروف تعتبر غير إنسانية في أي مكان آخر في العالم. وأكد الدكتور الهنا أن الوضع في غزة ليس مجرد أزمة طبية، بل هو انتهاك لحقوق الإنسان الأساسية لشعبها.

في شهادته، أثار الدكتور الهنا أيضًا أسئلة أخلاقية مهمة حول دور الفرق الطبية الدولية في غزة، وأعرب عن قلقه من أن تستخدم الحكومة الإسرائيلية وجودهم لإبراز صورة زائفة عن السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى غزة، بينما في الواقع، فإن الوضع بعيد كل البعد عن الكفاية. وتحدث الدكتور الهنا عن تجاربه في مناطق الصراع الأخرى، مثل سوريا واليمن، حيث يمكن للمرضى في بعض الأحيان الهروب إلى مناطق أكثر أمانًا، لكن في غزة أصبح الناس محاصرين بلا مخرج. واختتم كلمته بالتأكيد على ضرورة أن يعترف المجتمع الدولي بالوضع الكارثي والمأساوي في غزة وأن يتخذ إجراءات ملموسة لدعم شعبها.

وقدم الدكتور جنيد سلطان، جراح الأوعية الدموية، رواية مفصلة ومزعجة عن تجاربه في غزة خلال شهر أبريل/ نيسان 2024. وأكد على الاستهداف المنهجي للمدنيين من قبل القناصة، مع التركيز بشكل خاص على إصابات الأوعية الدموية الرئيسية. ووصف الدكتور سلطان التأثير المدمر لهجمات القناصة التي تستهدف أجزاء معينة من الجسم، مثل الشرايين الفخذية السطحية في الفخذين. تسببت هذه الهجمات المستهدفة في أضرار جسيمة للحزم العصبية الوعائية، مما جعل أطراف العديد من المرضى عديمة الفائدة، حتى لو نجوا من الإصابة الأولية. وقد أدى نقص المضادات الحيوية وغيرها من الإمدادات الطبية الأساسية إلى تعقيد الوضع، ما أدى إلى ارتفاع معدلات البتر والإعاقات الأخرى طويلة الأمد.

وسلط الدكتور سلطان الضوء على العدد الهائل من الأطفال بين الضحايا، مشيرًا إلى أنه أزال الرصاص من أفخذة أطفال لا تتجاوز أعمارهم ست إلى ثماني سنوات. تسببت هذه الرصاصات، المصممة للانفجار عند الاصطدام، في أضرار جسيمة للأنسجة المحيطة، مما يجعل من المستحيل تقريبًا إنقاذ أطراف هؤلاء المرضى الصغار. وقد أعرب الدكتور سلطان عن انزعاجه الشديد من الطبيعة المتعمدة لهذه الهجمات، والتي بدت مصممة لإلحاق أقصى قدر من الضرر بالسكان المدنيين. كما أنه أشار إلى الافتقار التام لخدمات إعادة التأهيل للعديد من مبتوري الأطراف، بما في ذلك الأطفال، الذين تُرِكوا بلا دعم أو موارد لمساعدتهم على التكيف مع واقعهم الجديد.

بالإضافة إلى التأثيرات المباشرة للعنف، وصف الدكتور سلطان الاستراتيجية الأوسع نطاقًا لاستخدام البنية التحتية للرعاية الصحية كهدف في الحرب. ولفت إلى أن تدمير المستشفيات واستهداف العاملين في مجال الرعاية الصحية كانت تكتيكات متعمدة تستخدم لزيادة معاناة السكان المحليين، وأضاف أن هذا النهج لم يتسبب في ضرر فوري فحسب، بل كان له أيضًا آثار طويلة الأمد على صحة وسلامة المجتمع، حيث لم يتمكن الأشخاص الذين يعانون من حالات مزمنة أو إصابات أقل حدة من تلقي الرعاية التي يحتاجون إليها.

شارك الدكتور مارك بيرلموتر، وهو طبيب متخصص في جراحة اليد، تجربته في العمل في غزة خلال شهري مارس/ آذار وأبريل/ نيسان 2024، حيث شهد الاستهداف المتعمد للعاملين في مجال الرعاية الصحية والأطفال، وتحدث عن المخاوف التي يسيطر على الطواقم الطبية خاصة بعد استهداف وقتل فريق المطبخ المركزي العالمي من قبل القوات الإسرائيلية. ووصف الدكتور بيرلموتر كيف اتصل بمسؤولين أمريكيين مختلفين، بما في ذلك مكتب السناتور تشاك شومر، للتعبير عن مخاوفه، لكنه لم يتلق أي رد. وقد سلط هذا الافتقار إلى الحماية للعاملين في مجال الرعاية الصحية الضوء على الظروف الخطيرة والهشة التي كانوا يعملون في ظلها.

وأبدى الدكتور بيرلموتر صدمته من العدد الهائل للضحايا من الأطفال والعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين استُهدفوا خلال فترة وجوده في غزة، وأشار إلى أن الأطفال غالبًا ما يصلون إلى المستشفى الأوروبي في غزة مصابين بعدة طلقات نارية، مما يشير بوضوح إلى أنهم كانوا مستهدفين عمدًا من قبل القناصة. مؤكدًا أن هذه الإصابات لم تكن عرضية أو عشوائية، كما أن الطبيعة المتكررة للهجمات تشير إلى جهد منهجي من قبل القوات الإسرائيلية لإلحاق الأذى بالفئات الأكثر ضعفاً من السكان. وقد أكدت تجربة الدكتور بيرلموتر في علاج هؤلاء المرضى صغار السن، الذين لم ينجُ الكثير منهم، على وحشية الحرب والتحديات التي تواجهها الطواقم الطبية في تقديم الرعاية في ظل مثل هذه الظروف.

وفي شهادته، أكد الدكتور بيرلموتر أيضاً على الحاجة إلى أن يتولى الأطباء وغيرهم من المهنيين الطبيين دور الصحفيين، نظراً لأن العديد من الصحفيين المستقلين إما قُتلوا، أو طُردوا، أو أُسكِتوا بطريقة أخرى أثناء الحرب. وأكد أن مسؤولية أولئك الذين شهدوا الفظائع تقع على عاتقهم لمشاركة قصصهم مع العالم، لأنهم يعتبروا الوحيدين الذين لديهم معرفة مباشرة بالوضع على الأرض. وحث الدكتور بيرلموتر زملاءه على استخدام منصاتهم لكشف الحقيقة حول ما يحدث في غزة، والدفاع عن الضحايا، ومحاسبة المسؤولين.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير تقارير شهادات غزة الأطباء الحرب احتلال فلسطين غزة أطباء حرب تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی المستشفى الأوروبی فی غزة فی وحدة العنایة المرکزة فی مجال الرعایة الصحیة بسبب نقص الإمدادات الدکتور عبد الفتاح الإمدادات الطبیة الطواقم الطبیة المجتمع الدولی عدم القدرة على الأطفال الذین الدکتور سلطان الدکتور السید مشیر ا إلى أن الافتقار إلى الطاقم الطبی الدکتور أمجد هؤلاء المرضى وأکد الدکتور الذین یعانون على الرغم من طویلة الأمد قدم الدکتور سوء التغذیة من الأطفال هذه الظروف بما فی ذلک العدید من خلال فترة من المرضى وأشار إلى من إصابات الضوء على یعانون من غالب ا ما وهو طبیب تعانی من من حالات العمل فی الطبیة ا التی کان أدى إلى إلى أنه إلى غزة مثل هذه ما أدى عمل فی غزة فی لم یکن من قبل

إقرأ أيضاً:

في فيلم عبر الجدران.. الفقراء الذين لا يستحقون الستر

تعكس السينما الكورية الجنوبية التناقضات الطبقية، والعزلة الاجتماعية، مستخدمةً الرمزية السردية والبصرية لنقد الظلم المتجذر في بنية المجتمع. وتكشف أفلام مثل "طفيلي" 2019 (Parasite)، و"احتراق" 2018 (Burning) عن خرافة الترقي الاجتماعي، كما ترصد الأثر النفسي للضغوط الاقتصادية، وذلك من خلال سرد يمزج بين الميلودراما والكوميديا والأكشن. وتصور الأفلام القادمة من جنوب الجزيرة الكورية الحياة اليومية بعد أن تحولت إلى ساحة معركة تحدد الرأسمالية ملامحها وقواعدها، وتنهار خلالها الأحلام بين جدران خرسانية وآمال ضائعة.

ويأتي فيلم "عبر الجدران" (Wall to Wall)، الذي يعرض حاليا على شاشة منصة نتفليكس، لينضم إلى قائمة أفلام تشبه الصرخات المتوالية، وتتشابه في قضاياها، لكنها تختلف في حكاياتها، إذ تلتقط سكان الهامش غير المرئيين، لتقدمهم بعدسة إنسانية.

العمل يقدّم  رعبا وجوديا يُختزل في ضحكة يائسة وسط فراغ، حيث يتحوّل النجاح إلى عبء (روتن توماتوز)رحلة الصعود إلى الهاوية

تدور أحداث "عبر الجدران" حول الشاب الكوري ذي الأصول الريفية ووسونغ، والذي يحقق أخيرا ما يعتقد أنه علامة فارقة في نجاح الطبقة المتوسطة، حين يتمكن من امتلاك شقة بمساحة 84 مترا مربعا في مجمع سكني حديث الإنشاء في سيول، لكنه يلجأ -في سبيل ذلك- إلى قروض ضخمة، ويبيع مزرعة الثوم التي تملكها والدته، ويستنفذ مدخراته.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"عالم الديناصورات: إحياء"… حين تصبح العودة إلى الماضي موتًا لسلسلة سينمائيةlist 2 of 2"الشيطان يرتدي برادا 2" عودة الثلاثي الذهبي بقصة تعكس تحولات الموضة والإعلامend of list

يفرح وو سونغ بحياته الجديدة، لكن سرعان ما يبدأ ضجيج متواصل غير محدد المصدر في إزعاجه، ويلجأ للشكوى، فينكر الجيران الضجيج ويعاملونه بشك. ومع تدهور حالته النفسية، تتدهور حالته المالية أيضا، وتنهار قيمة الشقة، وكذلك استثماراته في العملات المشفرة، ويصبح عاطلا عن العمل ويائسا. يلتقي جين-هو، جاره الصحفي ويُحققان فيما قد يكون مخطط احتيال عقاري أكبر يشمل مسؤولين حكوميين ومستثمري بناء.

إعلان

يكتشف المشاهد أن أون-هوا، رئيسة جمعية السكان والمدعية العامة السابقة، تشتري الشقق تحسبا لمشروع سكة حديد حكومي من شأنه أن يرفع قيمة شقق العقار. وتُمثّل أون-هوا النخبة التي تستغل أزمة المبنى لتحقيق الربح. أما وو سونغ، العالق بين جنون العظمة والحقيقة، فيزداد اضطرابا. مع تصاعد التوتر، تندلع مواجهة عنيفة. ينهار فهم وو-سونغ الهش للواقع، ويصبح الضجيج رمزا لنظام مُصمّم لسحقه. وفي ذروة الفيلم المتفجرة، يعكس الدمار المادي الانهيار الداخلي للبطل، ومجازيا، الحلم الذي آمن به يوما ما.

طفيلي آخر

يشبه فيلم "عبر الجدران" في تناوله لتلك التناقضات الفيلم الأيقوني "الطفيلي"، الذي يمثل قمة النجاح للسينما الكورية عالميا بحصوله على أوسكار أفضل فيلم عام 2020. كلا العملين ينتقد وهم الحراك الاجتماعي في ظل الرأسمالية، باستخدام المساحات الضيقة لتعكس الانقسامات الطبقية والضغط النفسي. ويقدم "الطفيلي" التراتب الطبقي الرأسي من خلال التباين المعماري بين قصر ثري وقبو تحت الأرض يستخدم كمأوى سكني، في حين يحاصر فيلم "عبر الجدران" بطله داخل الجدران الأربعة في شقة مساحتها 84 مترا مربعا، يعتبرها المجتمع رمزا مفترضا للنجاح لكنها تتحول إلى قفص خانق. وفي الفيلمين، يصبح المنزل ساحة معركة تغطيها الدماء، ويصبح المكان سجنا حقيقيا ويبلى الحلم تحت وطأة الديون المتزايدة والضوضاء.

وتدور كلتا القصتين حول عائلات أو أفراد في أدنى درجات المجتمع، يطمحون بشدة إلى الاستقرار، ليجدوا أن النظام يستغل جهودهم ويلتهمهم في النهاية. ويمزج كل فيلم الواقعية بالرعب والسخرية، مستخدما التشويق ورهاب الأماكن المغلقة والتصميم البصري الغني بالاستعارات لتعميق التأثير العاطفي والسياسي. وفي حين يتناول فيلم "الطفيلي" الاعتماد الكامل لطبقة على أخرى في عيشها، فإن "عبر الجدران" يبين كيف تنهار أوهام الطبقة المتوسطة من الداخل، ويُقدم الفيلمان صورة واضحة للظلم المعاصر، تتداخل فيها آلة الطموح مع عوامل اليأس.

فوضى المشاعر وانضباط الأداء

يكشف النصف الأول من "عبر الجدران" باعتباره فيلم إثارة نفسية بامتياز، إذ تُضخّم كل إشارة بصرية وسمعية العزلة والتوتر الطبقي، لكن في منتصفه، يتحوّل السرد إلى مؤامرة أوسع نطاقا من العنف السياسي والمالي، تُتوّج بانفجار. وقد يبدو هذا التحول مزعجا، لكنه يعكس حقيقة أعمق تكمن في الأنظمة الرأسمالية.

ويعكس مسار الفيلم الانقسام الطبقي في المجتمع الكوري الحديث، إذ تسيطر نخبة صغيرة على معظم الممتلكات، بينما يظل الكثيرون "فقراء المساكن"، وتستنزف تكاليف السكن دخلهم. ويُظهر فشل وو سونغ النهائي كيف تبيع الرأسمالية سبل الهروب من الديون بديون أخرى.

ولا يصور فيلم "عبر الجدران" الصراع الطبقي الخارجي فحسب، بل يُسلّط الضوء على الآثار الداخلية للخداع الرأسمالي. وتتحول الشقة، التي كانت محط رغبة ومكانة اجتماعية، إلى "كابوس" مع اجتماع كارثتي الضجيج مجهول المصدر والخراب المالي.

ورغم أن "الضجيج" الذي يشكو منه البطل حقيقي، لكنه مجازي في الوقت ذاته، وهي فكرة مبدعة تحسب للمخرج والسيناريست كيم تاي جون الذي يشير إلى فشل الوعود الرأسمالية.

Just finished watching #WallToWall in Netflix and woah, that movie feels so weird but at the same time, you can relate to woo sung. I really hoped tho that he was able to sell those crypto coin in the right time ????pic.twitter.com/oBrqliZrto

— airenwizdive ???? (@lsg_airen13) July 25, 2025

إعلان

واستطاع المخرج أيضا أن يحول شقة سكنية إلى نظام بيئي خانق للبطل والمشاهد معا، عبر تعزيز الإضاءة الباردة والظلال المُزخرفة بأنماط البارات والطابع المعماري القمعي للمبنى. وقد لعبت هذه العناصر البصرية مع "الضوضاء" دورا حاسما كما لو كانت جميعها أسلحة في حرب وحشية ضد الشاب المسكين بعد تورطه في منظومة تضم في بنيتها أسلحة صممت لتدميره واستنزافه حتى آخر قطرة دم.

وينبثق رعب الفيلم من ضبط النفس. لا مؤثرات خاصة مبهرة، وإنما مجرد تأطير دقيق، وإضاءة إبداعية، وفترات صمت ممتدة بما يكفي لإثارة الرعب. ممرات الشقة الخافتة، ومصابيحها المتذبذبة، وقضبانها المظللة تُعزز الانهيار النفسي للبطل.

ولعل الأداء الذي قدمه فريق الممثلين هو العنصر الأقوى في العمل، والأكثر جذبا للمشاهد، وقد يتميز الأبطال بالتحولات العنيفة التي تمكنهم من استعراض قدراتهم، لكن مستوى الأداء لدى الجميع يكاد يكون متساويا، وقد استطاع الممثل الكوري الجنوبي كانغ هانيول أن يقدم أداء قويا جسديا وعاطفيا في دور وو سونغ، وبلغ ذروة الأداء في تحوله من مالك منزل متفائل إلى عامل توصيل قلق من خلال التعرق والارتعاش والتحقق القهري من مخططات العملات المشفرة، بينما تعكس كل إيماءة جسدا منهكا من التوتر. وتقدم الممثلة يوم هي ران في دور أون هوا انعكاسا مرعبا لتواطؤ الطبقة تحت مظهرها الهادئ الذي يخفي طموحا لا يرحم؛ إنها "المدعية العامة السابقة" التي تحولت لامتلاك الأصول، فبدأت بجمع الشقق للاستفادة من مشروع خط سكة حديد، ورأت المستأجرين مجرد "حثالة".

ويؤدي الممثل سيو هيون في دور جين هو، شخصية الجار الموشوم في الطابق العلوي والمتنكر في زي حليف، دور صحفي شبه مهووس، ورغم أنه يبحث عن الحقيقة إلا أن قصصه الملفقة تُوقع وو سونغ في فخ العنف والخيانة، ليُصبح الصحفي رمزا لاستغلال "المُبلغين عن المخالفات"، ويتحول إلى ممثل آخر لطبقة حاكمة تستغل المظلومين لتحقيق انتقامها الخاص.

يقدم العمل رعبا وجوديا، إذ يصبح النجاح بلا معنى عندما تُفرض ضريبة على الفرح وتدفع بعملة اسمها الضوضاء والديون والاغتراب الاجتماعي، وتُجسّد ضحكة وو سونغ الأخيرة في شقته الفارغة، ردا على ضجيج لا ينبغي أن يوجد، اليأس المطلق، لنتأكد أن الفساد ينتصر بالانهيار الصامت للمقاومين.

مقالات مشابهة

  • فبركوا شهادات جامعية.. استقالة نواب بسبب سير ذاتية مزورة في إسبانيا
  • “اليونيسف” تحذر من تجاوز وضع غزة لعتبة المجاعة وتدعو لتدفق مساعدات عاجلة
  • الدكتور محمد عبد اللاه: الهجمات الإعلامية التي تتعرض لها مصر بسبب موقفها من القضية الفلسطينية مؤامرة
  • فتاوى وأحكام| هل يجوز للمرأة قراءة القرآن وهي كاشفة شعرها؟.. هل المتوفى بسبب السرطان يُعتبر من الشهداء؟
  • المكتتبون الذين ضيعو كلمة السر للولوج إلى منصة عدل 3..هذه طريقة استرجاعها
  • هل المتوفى بسبب السرطان يُعتبر من الشهداء؟.. الإفتاء تجيب
  • بسبب التعذيب.. استشهاد أسير فلسطيني داخل سجون الاحتلال
  • في فيلم عبر الجدران.. الفقراء الذين لا يستحقون الستر
  • المفوضية تحدد موعد انتخابات «النقابات الفرعية لأطباء الأسنان»
  • مسؤول طبي بغزة: 17 ألف طفل دخلوا مرحلة سوء التغذية التام