خالد مشعل لـنيويورك تايمز: لا تنازل عن شروط المقاومة للوصول إلى صفقة تبادل
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
أوضح رئيس حركة المقاومة الإسلامية حماس، في إقليم الخارج، خالد مشعل، في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، شروط المقاومة من أجل الوصول إلى صفقة تبادل أسرى، ووقف الحرب، مؤكدا على تمسك المقاومة بشروطها.
تقول إسرائيل إنها قتلت الآلاف من عناصر حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس"، وأنها دمرت الهيكل للقيادي لكل كتائبها تقريباً، وضربت شبكة أنفاقها.
ومع ذلك يقول الجيش الإسرائيلي إن القضاء على حماس غير ممكن – حتى وإن دعا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى "انتصار تام" على الحركة.
ويقول مشعل، إن الحركة تكسب الحرب وأنها سوف تلعب دوراً حاسماً في مستقبل غزة.
وقال مشعل في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز في الدوحة، قطر، حيث يقيم: "باتت حماس صاحبة اليد العليا. فقد بقيت صامدة، وأدخلت الجيش الإسرائيلي في حالة من الاستنزاف."
تفسير ذلك من وجهة نظر حماس بسيط للغاية، فالفوز يعني ببساطة البقاء على قيد الحياة، على الأقل حتى الآن، ولقد تمكنت الحركة من تحقيق ذلك، حتى وإن كانت قد أوهنت بشدة.
توفر تصريحات مشعل، ضمن مقابلة أجريت معه على مدى ساعتين داخل غرفة المعيشة في منزله بالدوحة، إطلالة نادرة على طريقة تفكير المسؤولين في حماس. فهو واحد من أكبر شخصيات المكتب السياسي لحركة حماس، ويعتبر أحد أهم مهندسي استراتيجية الحركة.
كان مشعل قد استهدف من قبل إسرائيل بمحاولة اغتيال فاشلة في عام 1997 في الأردن. وقد ترأس المكتب السياسي للحركة لما يزيد عن عقدين من الزمن.
في وقت مبكر من شهر أيلول/ سبتمبر وجه المدعون الفيدراليون في الولايات المتحدة له ولعدد آخر من زعماء حماس رسمياً تهماً بلعب دور مركزي في تخطيط وتنفيذ هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر على إسرائيل.
أوضح مشعل في المقابلة أن المسؤولين في حماس لن يبرموا صفقة وقف إطلاق نار مع إسرائيل مقابل أي ثمن، وأنهم لن يتخلوا عن مطالبهم الرئيسية والمتمثلة بإنهاء الحرب وانسحاب إسرائيل.
خلص محللون مستقلون إلى تقييمات مشابهة حول أولويات حماس. يقول غيث العمري، الخبير بالشؤون الفلسطينية: "يشعرون بأن الزمن لصالحهم، ويعتقدون أنه لا يوجد بديل عنهم" .
وهي ثقة بالنفس تخضع دوماً للاختبار في أرض المعركة داخل غزة. فرغم أن حماس تبقى قوة متنفذة داخل القطاع، إلا أنها واجهت انتقاداً من غزيين يلومون الحركة بسبب تعريضها إياهم للضرر. كما أن تعريف حماس للنجاح قد لا يبقى صحيحاً فيما لو استمرت الحرب لأعوام ونجحت إسرائيل في القضاء على جل ما تبقى لها من قوة عسكرية، حسبما يقول محللون فلسطينيون.
في بداية الحرب، عبر الرئيس بايدن عن موقف مشابه لموقف نتنياهو – ومفاده أن حماس تحتاج لأن يُقضى عليها. ولكن السيد بايدن لم يعد يتحدث عن استئصال الحركة، ناهيك عن أن كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل شاركتا في مفاوضات غير مباشرة مع حماس.
يقول مشعل إنه خرج من ذلك بنتيجة مفادها أن الولايات المتحدة تقر بأن حماس لن تغادر إلى أي مكان.
وفي إشارة إلى الموقف الذي كانت تتبناه كل من إسرائيل والولايات المتحدة في بداية الأمر، قال مشعل: "لم تكن الرؤية الإسرائيلية الأمريكية تتحدث عن اليوم التالي للحرب، وإنما عن اليوم التالي لحماس."
ثم قال: "أما الآن، فإن الولايات المتحدة تنتظر رد حماس."
وأضاف دون أن يذكر أن الحركة صنفت منظمة إرهابية في الولايات المتحدة وإسرائيل: "فهم بذلك يعترفون، عملياً، بحماس."
كما أن بعض مسؤولي الأمن السابقين في إسرائيل يقولون إنهم يعتقدون بأنه من غير المتوقع أن تُهزم حماس في هذه الحرب.
يقول الجنرال غادي شامني، القائد السابق لفيلق غزة في الجيش الإسرائيلي: "إن حماس تكسب هذه الحرب. يكسب جنودنا كل مواجهة تكتيكية مع حماس، ولكننا نخسر الحرب، ونخسرها بشكل فادح."
مازال الآلاف من مقاتلي حماس ومن المسؤولين في حكومتها يفرضون سيطرتهم على أجزاء كبيرة من غزة. وفي المدن التي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية لفترة وجيزة، تركت مغادرتهم في نهاية المطاف فراغاً سرعان ما شغلته حماس وغيرها من فصائل المقاومة المسلحة.
يقول الجنرال شامني إنه على الرغم من أنه لا مجال لإنكار أن إسرائيل دمرت قدرات حماس العسكرية، إلا أن حماس كانت تعود وتبسط سيطرتها على البلدات "خلال 15 دقيقة" من الانسحابات الإسرائيلية.
ويضيف: "لا يوجد هناك من يمكنه تحدي حماس بعد مغادرة القوات الإسرائيلية."
ويقول الجنرال شامني إن الإخفاق الأكبر يتمثل في عدم سعي السيد نتنياهو إلى التقدم ببديل واقعي لكيان يحكم غزة بعد الانسحابات الإسرائيلية.
وكان العميد البحري دانيال هاغاري، المتحدث العسكري الإسرائيلي، قد رفض في أواخر شهر حزيران/ يونيو ما اقترحه نتنياهو من أن حماس يمكن أن تمسح من الوجود.
وقال متحدثاً للقناة 13 الإسرائيلية: "يخطئ من يظن أننا سوف نجعل حماس تختفي. فكرة أنه من الممكن تدمير حماس، أن تجعل حماس تختفي من الوجود – إنها بمثابة ذر الرماد في عيون الجمهور."
وفي الشهر الماضي، وصف وزير الحرب يوآف غالانت شعار السيد نتنياهو "انتصار تام" بأنه "كلام فارغ". وقال بعض المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين إن المعركة مع حماس سوف يورثونها لأبنائهم.
قال الجيش الإسرائيلي إنه قتل ما يزيد عن 17 ألف مسلح في غزة. وقال مسؤول في الاستخبارات العسكرية هذا الصيف إن إسرائيل نجحت في تقويض قدرة حماس على إطلاق الصواريخ بعيدة المدى باتجاه إسرائيل، رغم أنهم مازالوا يحتفظون بذخيرة أقل تعقيداً.
وقال المسؤول إن مهمة الاستيلاء على الأنفاق وهدمها كانت مشروعاً هندسياً بالغ التعقيد، وقد يستغرق إنجازه أعواماً.
خلص بعض أعضاء القيادة العسكرية إلى أن وقف إطلاق النار مع حماس هو السبيل الأفضل نحو الأمام، حتى وإن كان سيبقي الحركة في السلطة في الوقت الحالي.
على الرغم من خسائر حماس الهائلة، بما في ذلك كبار القادة الذين قتلتهم إسرائيل، أعرب مشعل عن ثقته بأن الحركة سوف تلعب دوراً مهيمناً في غزة بعد الحرب، واستخف بالمقترحات الأمريكية والإسرائيلية لإدارة المنطقة بدون حماس.
وقال: "كل أوهامهم حول شغل ملء الفراغ باتت وراء ظهرنا."
وكانت الولايات المتحدة قد اقترحت جلب السلطة الفلسطينية بعد تنشيطها إلى غزة، بينما اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي أن تقوم قوات عربية بحفظ الأمن في المنطقة. أما السيد نتنياهو فاقترح أن يعمل "مع أصحاب الشأن المحليين ممن لديهم خبرات إدارية."
وقال مشعل مصراً على أن الفلسطينيين وحدهم هم من يقررون الترتيبات الخاصة بالمنطقة: "إن الفرضية التي تقول إن حماس لن تكون موجودة في غزة أو أنها لن تؤثر في الوضع داخل القطاع فرضية خاطئة."
كما لوحظت ثقة حماس حول الاحتفاظ بدور مهيمن في غزة ما بعد الحرب في بعض اللقاءات الخاصة مع سياسيين فلسطينيين.
فعندما التقى السياسي الفلسطيني سمير المشهراوي مع قادة حماس في الدوحة في نوفمبر 2023، بدت حماس على استعداد تام للاشتراك في السلطة بشكل موسع داخل غزة، بما في ذلك ما يتعلق بقضية الأمن بالغة الحساسية، وذلك طبقاً لما صرح به فلسطينيان على اطلاع بما جرى في اللقاء. جدير بالذكر أن السيد المشهراوي هو أحد المقربين من محمد دحلان، المبعد الفلسطيني المتنفذ الذي يعمل لصالح رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
ثم عندما التقى المشهراوي بالمسؤولين في حماس بعد ذلك بأكثر من ستة شهور، اشتركوا معاً في توجيه رسالة أكثر صلابة، مفادها أن المجموعة على استعداد للعمل معاً بكل ما يتعلق بالقضايا المدنية، ولكن الجناح العسكري لحماس وقواتها الاستخباراتية الداخلية يُمنع الاقتراب منها، كما قال الفلسطينيان.
مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للحرب، أورد أكرم عطا الله، وهو صحفي يكتب عموداً في صحيفة الأيام التي تتخذ من رام الله مقراً لها، قائمة بإنجازات حماس، ومنها أنها حالت دون تمكين إسرائيل من تحقيق نصر حاسم، وأنها أجبرت إسرائيل على إرسال مبعوثين لها للتفاوض معها، وأنها احتفظت بعدد كبير من المقاتلين.
كما قال إن قبضة حماس يمكن مع الزمن أن تفك، وأضاف: "إذا انتهت الحرب الآن، فإن ذلك سيكون نصراً لحماس. ولكن إذا انتهت بعد عامين، فيمكن أن تتغير النتيجة، ولا نعرف إلى أين ستؤول الأمور."
أياً كان ذلك الذي سيحدث لحماس، فإن المدنيين هم الذين دفعوا الثمن الأكبر في غزة. فقد قتل عشرات الألوف، ومعظم السكان الذين يصل تعدادهم إلى ما يقرب من مليونين تم تشريدهم وأصبحوا بلا مأوى.
لقد سخط كثير من الفلسطينيين داخل غزة على حماس لقيامها بهجوم السابع من أكتوبر الذي تسبب في مقتل 1200 شخص، واتهموا الحركة بإعطاء إسرائيل ذريعة لشن حملة قصف هائلة أحالت المدن إلى ركام.
أما مشعل فقد رفض الانتقاد الموجه إلى حماس بسبب قرارها ذاك، وقال إن منتقدي حماس من الفلسطينيين يمثلون أقلية.
وقال: "كفلسطيني، إن مسؤوليتي هي القتال والمقاومة حتى التحرير."
ولكنه أقر بأن الهجوم تسبب في دمار هائل، إلا أنه اعتبر ذلك "ثمناً" لابد أن يدفعه الفلسطينيون من أجل الحرية.
وعندما سئل كيف ساعد الهجوم الذي قادته حماس في تحسين الوضع إذا ما أخذنا بالاعتبار الدمار الذي لحق بغزة، أصر على أن الأمر لا يتعلق بتحقيق نصر عسكري على إسرائيل بقدر ما يتعلق بإثبات أن سياساتها غير مجدية.
وقال: "قبل السابع من أكتوبر، كانت غزة تموت موتاً بطيئاً. لقد كنا في سجن ضخم، وأردنا أن نتخلص من ذلك الوضع."
وسائل إعلام عربية تحرف المقابلة
وبعد نشر الصحيفة للمقابلة، تناقلت وسائل إعلام عربية تصريحات مجتزأة لمشعل لتشويه موقف الحركة من المفاوضات التي تسعى لوقف الحرب على غزة.
وقال بيان لحركة حماس: "نستهجن في حركة المقاومة الإسلامية، قيام إحدى وسائل الإعلام العربية باجتزاء مقاطع من المقابلة التي أجرتها صحيفة نيويورك تايمز مع رئيس الحركة في إقليم الخارج الأخ المجاهد خالد مشعل، وتحويرها بقصد تشويه موقف الحركة".
وأكد البيان على موقف الحركة الواضح من المفاوضات، و"المتجاوِب مع كافة المبادرات بما يحقق مصالح شعبنا، وحرصها على الوصول إلى وقفٍ دائم للعدوان وانسحابٍ كاملٍ من القطاع، وحرية عودة النازحين إلى أماكن سكناهم، وإعمار ما دمره الاحتلال، وصولاً إلى صفقة حقيقية لتبادل الأسرى".
وجاء فيه "إن من يتحمّل مسؤولية تعطيل مسار المفاوضات هو نتنياهو وحكومته الفاشية، الذي يصرّ على وضع شروط جديدة معطّلة للاتفاق، وهو ما بات معروفاً للجميع بمن فيهم الوسطاء".
ودعا البيان وسائل الإعلام التي اجتزأت وحرّفت الموقف، إلى توخّي الحقيقة، واحترام مبادئ المهنيّة الإعلامية، والانحياز لمواثيق الشرف الإعلامي، والابتعاد عن سياسة الترويج لرواية الاحتلال الكاذبة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية حماس مشعل غزة الاحتلال احتلال حماس مشعل غزة طوفان الاقصي صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجیش الإسرائیلی الولایات المتحدة أن حماس مع حماس فی غزة
إقرأ أيضاً:
أسطرة المقاومة في مواجهة عوالم الموت الإسرائيلية
يعتمد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كحال سائر المستعمرين والمحتلين، على أشكال متطورة ومتجددة من العنف بهدف إخضاع الشعب الفلسطيني الواقع تحت سيطرته وتشكيل وعي متواطئ معه، يقبل بالخضوع، بحسب خلاصة مستمدة من أعمال خبراء ومختصين في دراسات "ما بعد الاستعمار".
وترصد العديد من هذه الدراسات، مثل أعمال الطبيب الفرنسي فرانز فانون، والفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي، وأستاذة الأدب في جامعة هارفارد "إيلين سكاري"، أشكال العنف الاستعماري وأهدافه، وإمكانات الشعوب المقهورة في التعامل معه، وما يسمى بتقنيات إدارة الألم فرديا وجماعيا.
وبحسب هذه الأعمال، فإن نجاح شعب ما في التحرر مرهون بقدرته على الانعتاق من القيود الفكرية التي يفرضها الاستعمار والصبر على الألم وتحويله إلى دافع لتشكيل هوية مناضلة وفعل مقاوم طويل الأمد.
ويسعى الاحتلال من خلال "الصدمة والترويع" إلى خلق قدر من الألم الهائل والمفاجئ على شكل موجات تهدف إلى تجاوز قدرة الشعب على التحمل، وتوجيه أثر هذا العنف إلى داخله، تفككا وتآكلا للثقة وهو ما يجعله جاهزا للخضوع ونبذ المقاومة.
وردا على ذلك، تسعى أي حركة تحرر إلى استيعاب عنف المستعمر من خلال إستراتيجيات، منها "أسطرة البطولة" وجعلها مدخلا لتجنيد الشعب في أعمال المقاومة، وتحقيق الإنجازات التي تقنع الشعب بجدوى المقاومة.
ويضاف لذلك توثيق جرائم الاحتلال وجعلها أساسا لنزع شرعيته الدولية، والسعي لإيقاع أكبر قدر من الألم المادي والمعنوي في الاحتلال، مع تركيز الأنظار إلى حجم ألم العدو.
قدم الطبيب الفرنسي فانز فانون نظرية واسعة التأثير بشأن طبيعة الاستعمار وطرق مواجهته، وذلك من وحي معايشته لاستعمار بلاده للجزائر، حيث كان يعالج جرحى الفرنسيين والجزائريين ويتفكر في دلالات مشاهداته، ولاحقا ألهمت أفكاره العديد من حركات التحرر حول العالم، وحفزت أعمالا موافقة لها وأخرى معارضة.
إعلانويرى فانون في كتابه "معذبو الأرض" أن الاستعمار نظام عنيف يعيد تشكيل الإنسان المستعمَر ليصبح "شيئا" وليس إنسانا طبيعيا، إذ يصور ضحاياه كمصدر للشر، يجب تدميره أو تهذيبه.
وبناء عدواني بهذه الدرجة لا يمكن تفكيكه بلغة الإصلاح، بل يتطلب -وفقا لفانون- تحطيما جذريا باستخدام القوة. مؤكدا أن "اللقاء الأول بين المستعمِر والمستعمَر كان عنيفا، واستمرار العلاقة بينهما قائم على اللغة نفسها، إلا أن أحد أخطر آثار الاستعمار هو "التواطؤ النفسي"، حيث يبدأ المضطهَد في تبني نظرة المستعمِر إليه.
وفي مواجهة عنف الاحتلال تكون نقطة التحول هي احتضان الألم والمعاناة، والتوقف عن الهرب ومواجهة الاحتلال وجها لوجه، وحينها فإن "الشيء الذي تم استعماره يعود إنسانا في العملية نفسها التي يتحرر فيها"، وذلك عند مواجهة عنف الاحتلال بالعنف الذي يستحقه ويستدعيه.
وبحسب فانون، فـ"العنف قوة تطهير.. تحرر المستعمَر من عقدة النقص والخمول"، وتعيد له احترامه لذاته، وتمنحه شعورا بالسيادة والسيطرة بعد طول إخضاع واستضعاف.
وفي هذه العملية لا يمكن للفرد أن يتحرر وحده، بل وحدة الجماعة الثورية أمر أساسي، والقاعدة هي "نجاة الجميع أو لا أحد".
سياسات الموت
وذهب الفيلسوف الكاميروني، أشيل مبيمبي، أبعد من ذلك في وصف السلوك الاستعماري، مبتكرا مصطلح "سياسات الموت" الذي جعله عنوانا لكتابه بهذا الشأن، والذي يلحظ أن الاستعمار يفرض سيادة يكمن التعبير النهائي عنها في "تحديد من يجوز له أن يعيش ومن يجب عليه أن يموت".
ويلاحظ مبيمبي أن انتزاع الجسد والحياة في ظل الاستعمار لا يحصل "باعتبارهما مجرد أشياء تُحكم، بل بوصفهما ساحة لظهور سلطة السيد الحاكم".
وتشير "سياسات الموت" إلى الطرق المتعددة التي تستخدم فيها الأسلحة في عالمنا المعاصر، من أجل أقصى قدر من التدمير البشري، وبذلك فإن الحصار والحدود والمخيمات والسجون وساحات القتال تقوم بإنتاج "عوالم موت"، تكون فيها حياة الشعب المستعمر على حافة الموت بشكل مستمر.
إعلانوفي الحرب الجارية في قطاع غزة يمكن ملاحظة تبني الاحتلال الإسرائيلي لإستراتيجية "عوالم الموت"، بدءا من حصار القطاع على مدار 17 عاما قبل الحرب، مرورا بتكثيف الموت والإصابة بين الفلسطينيين.
كما حوّل الاحتلال كل مناحي حياة الفلسطينيين إلى معاناة، كالحصول على المياه والغذاء والعلاج، وتدمير المساجد وتعطيل عملها في تعزيز الروح المعنوية، وإنهاك المجتمع من خلال إدخاله في متواليات من الأمل ثم اليأس، إذ تتناوب عليه أنباء الانفراج القريب التي يتلوها التصعيد والتهجير الداخلي، ويتم تحويل مراكز المساعدات إلى محطات للقتل كما حصل في العديد من المجازر على مدار الحرب.
درست أستاذة الأدب في جامعة هارفارد، إيلين سكاري، توظيف الألم كأداة سياسية في كتابها "الجسد المتألم.. صنع العالم وتفكيكه"، مشيرة إلى أن "النشاط المركزي في الحرب هو الإيذاء الجسدي، والهدف الأساسي منها هو التفوق في إلحاق الأذى بالطرف الآخر".
وذلك رغم أن "واقع الإيذاء الجسدي غالبا ما يكون غائبا عن الأوصاف الإستراتيجية والسياسية للحرب"، كما يظهر لدى مراجعة كتابات كلاوزفيتز وليدل هارت وتشرشل وسوكولوفسكي وغيرهم من منظري الحرب.
ففي الحرب "تحاول كل جهة أن تُحدث تفككا في الجهة الأخرى بجعل واقع الإيذاء نفسه هو القضية التي يُخاض النزاع حولها. ولا يكون النصر بالضرورة إلى جانب الطرف الذي يُلحق بخصمه أكبر قدر من الأذى من حيث الكمية المطلقة، بل إلى الطرف الذي ينجح في تفكيك عزيمة الطرف الآخر، سواء عزيمته على مواصلة الإيذاء أو على مواصلة تحمّله".
وتسلط سكاري الضوء على خاصية أساسية في الألم الجسدي، وهي الصعوبة البالغة للتعبير عنه ونقل الشعور به إلى الآخرين لتعظيم أثره النفسي، مما يستدعي البحث عن وسائل "تكسبه الصوت" بهدف التخفيف منه.
وتتابع المدرسة في جامعة هارفارد أنه "كما أن التعذيب يتكوّن من أفعال تُضخم الطريقة التي يدمر بها الألم عالم الشخص وذاته وصوته، فإن الأفعال الأخرى التي تُعيد الصوت لا تكون مجرد إدانة للألم، بل تُصبح أيضا شكلا من التخفيف من الألم، بل انقلابا جزئيا على عملية التعذيب نفسها".
إعلانوتقول "إن الاعتراف بالألم، ومحاولة التعبير عنه، تُعدّ شكلا من الامتداد الذاتي في العالم، بحيث يُمنح المتألم إمكانية استعادة صوته، ومن ثم استعادة إنسانيته".
ومن هذه الوسائل ضرورة الاعتراف بالألم، والتعبير عنه، وبناء شبكات التعاطف الاجتماعي مع المتألمين، إذ "إن التعاطف، حين يمنح الألم مكانا في العالم عبر اللغة، يقلل من قوة الألم ويقاوم قدرة الجسد -حين يتألم- على ابتلاع الشخص بالكامل".
وفي الحالة الفلسطينية، كان للأبعاد الدينية والروحية دور أساسي في استيعاب الألم والصدمات التي خلقها الاحتلال الإسرائيلي، إذ وفرت البنية العقائدية للمقاومة قدرا عاليا من الصلابة، ومكنتها من الاستمرار في العمل العسكري بدرجات متفاوتة على مدار 18 شهرا، رغم تقدير الاحتلال أنه قد قتل ما يزيد على 10 آلاف مقاتل، إضافة إلى الأعداد الهائلة من الشهداء والجرحى الذين يتركزون في أهالي المقاتلين ومحيطهم الاجتماعي.
ووفرت مفاهيم مثل الشهادة والصبر والاحتساب، وآيات القرآن من قبيل "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" أساسا للتعبئة الشعبية، وهي نتاج ثقافة تعززت بشكل خاص مع صعود دور المقاومة الإسلامية وإدارتها قطاع غزة منذ العام 2006.
التمحور حول الألم
ويتضح مما سبق أن مقدار الألم في الحرب ليس محددا للهزيمة أو النصر بحد ذاته، بل كيفية التعامل معه هي الأمر الحاسم بهذا الشأن، فإذا ترافق الشعور بالألم بالمعنى وبالتضامن فمن الممكن أن يكون معزّزا للإرادة في وجه الاحتلال، أما حينما يسود خطاب "عبثية الألم" مترافقا مع التفكك الاجتماعي والسياسي فيكون الألم دافعا إلى الانهيار.
ويمكن لمركزية الألم في سياق الاستعمار أن تتخذ منحى إيجابيا أو سلبيا، وفقا لما تظهره الأعمال النظرية السابقة والتجارب العملية بهذا الشأن، إذ يمكن أن يكون الألم حافزا وأداة للتحرر حينما يحوّل إلى طاقة حشد وتعبئة، ويدار بروح جماعية صلبة، من خلال التضامن الاجتماعي والخطاب المقاوم، وحينما يعرّي العدو أخلاقيا ويقوض سرديته التي يقدم نفسه فيها مركزا للخير والحضارة.
إعلانوبالمقابل، يعمل الاستعمار على إيصال الألم إلى مستوى لا يقدر المجتمع المستعمَر على تحمله بهدف تفكيك التضامن والروح المعنوية، ولتعزيز الشقاق الداخلي، مع الحرص على عدم إعطاء تنازلات يراها الواقعون تحت الاحتلال إنجازات تعزز صمودهم وثباتهم.
وهكذا، فإن مآل الحرب لا ينفك عن صراع الإرادة بين صنع الألم وإدارته لدى طرفي الصراع، بما يتطلب وضع الألم دائما في سياقه، وتوجيه رد الفعل عليه نحو الاحتلال، مع السعي الدائم إلى تقليل مقداره في سياق إدامة مقاومة الاحتلال وليس الاستسلام لإرادته.