دورُ ومسئوليةُ البرهان في بروزِ وتمدّدِ حميدتي وقواتِ الدعم السريع
تاريخ النشر: 20th, September 2024 GMT
د. سلمان محمد أحمد سلمان***
1
تناقلتْ وكالاتُ الأنباء ووسائلُ التواصل الاجتماعي الأسابيع الماضية تصريحاتٍ من البرهان يُحمِّلُ فيها البشير وحكومته مسئولية إنشاء وتقوية وتوسيع مقدرات قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي. وقد شملت تلك التصريحات أيضاً اتهاماتٍ لقوى الحرية والتغيير بالمشاركة في هذا التوسّع، وتكرار أن قحت، ومن بعدها تقدُّم، هي الحاضنة السياسية لقوات الدعم السريع.
الغرض من هذا المقال هو توضيح أن الفترة الذهبية لتمدّد وتوسّع قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي، بدأت، في حقيقة الأمر، بانقلاب البرهان الأول في 11 أبريل عام 2019، واستمرت حتى انقلاب البرهان الثاني في 25 أكتوبر 2021، وأن البرهان، بحكم موقعه خلال تلك الفترة، وبمقتضى القرارات والأوامر والتوجيهات التي أصدرها، هو المسئول الأول والأساسي عن هذا التمدّد والتوسّع.
سوف يتم هذا التوضيح بعد عرضٍ موجزٍ للمحطات الرئيسية التي مرّت بها قوات الدعم السريع قبل انقلاب 11 أبريل 2019، والتي كان فيها للبرهان أيضاً، بحكم وضعه القيادي في الجيش السوداني وفي الحركة الإسلامية الحاكمة، دورٌ مهمٌ في نشأة وبروز وتمدّد قوات الدعم السريع.
2
يعود تاريخ قوات الدعم السريع إلى بداية حرب دارفور عام 2003. فقد قرّرت القوات المسلحة الاستعانة بمجموعات الجنجويد التي انتشرت في تلك الفترة، وعاثت فساداً ونهباً وبطشاً في دارفور، لتحارب معها ضد حركات دارفور المسلحة. كانت الحركات المسلحة قد حقّقت نجاحاتٍ خاطفة ومُعتبرة علي الجيش. وقد أدّت تلك الهجمات الناجحة إلى إضعاف ثقة القوات المسلحة بنفسها وبمقدراتها القتالية وروحها المعنوية، خصوصاً بعد الهزائم الكبيرة التي كانت قد تعرّضت لها في حرب جنوب السودان، مما اضطرها إلى اللجوء إلى مجموعات الجنجويد في حرب دارفور.
حقّقت الحملة المشتركة للجيش والجنجويد الكثير من المكاسب العسكرية. غير أن تلك المكاسب ارتبطت بجرائم بشعة وخروقاتٍ خطيرة للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان. دفعت تلك الخروقات والجرائم الأمم المتحدة إلى تكوين لجنةٍ لتقصّي الحقائق في دارفور ترأسها القانوني الإيطالي المرموق أنطوان كاسيس. وقد نتج عن تقريره الموثّق المطوّل إحالة مجلس الأمن لتلك الخروقات إلى محكمة الجنايات الدولية. شملت قائمة الأفراد المطلوبين بواسطة المحكمة، والتي تم الإعلان عنها حتى الآن، الرئيس البشير نفسه ووزير دفاعه وأحد وزرائه، وواحداً من الجنجويد، وثلاثةً من حركات دارفور المسلحة (قضى أحدهم نحبه، ولم تكن الأدلّة كافيةً لمحاكمة الثاني).
في ردّة فعلٍ لتلك التطورات الخطيرة قررت حكومة الحركة الإسلامية في عام 2007 إعادة تنظيم هذه المجموعات، والتي تجاوز عددها في ذلك العام العشرة ألف مقاتل، وتسميتها "حرس الحدود." كانت الحكومة تعتقد أنه يمكن إقناع العالم أن هذه التغييرات ستخلق وضعاً جديداً يُنسِي العالم الجنجويد وخروقاتهم القاسية للقانون الإنساني الدولي. غير أن تلك الإجراءات الشكلية لم تُحدِث أيَّ تغييرٍ في الموقف العالمي تجاه الجرائم ضد الإنسانية التي تواصلت في حرب دارفور.
3
إزاء استمرار ذلك الوضع الحرج والصعب قررت حكومة الحركة الإسلامية في أغسطس عام 2013 تغيير إسم هذه المليشيا من "حرس الحدود" إلى "قوات الدعم السريع"، وإعادة تنظيمها وهيكلتها لتصبح قوةً شبه عسكريةٍ تابعة لجهاز الأمن والمخابرات. تم تقسيم أفراد القوات، البالغ عددهم وقتها أكثر من ثلاثين ألف مقاتل، إلى وحداتٍ شبيهةٍ إلى حدٍّ كبير بوحدات الجيش السوداني. كما تم الاتفاق على شعارٍ وزيٍّ لقوات الدعم السريع.
وكجزءٍ من سياسة الهيكلة لقوات الدعم السريع تم وضع وتحديد الرتب العسكرية والمرتبات والامتيازات لضباط وجنود تلك القوات بصورةٍ مماثلة لضباط وضباط الصف وجنود القوات المسلحة السودانية، ونال حميدتي رتبة عميد، وعمره لم يصل الأربعين عاماً بعد. وكان حميدتي قد نجح في عام 2007 في إزاحة غريمه موسى هلال، وبرز كقائدٍ بلا منافسٍ لقوات الدعم السريع عام 2013. كما نجح أيضاً في بسط سيطرته التامة على عدة مناطق لتعدين الذهب في دارفور، من بينها جبل عامر.
تم أيضاً انتداب عددٍ من كبار الضباط في القوات المسلحة إلى قوات الدعم السريع بغرض تدريب تلك القوات لكي تصبح قوةً حديثةً لها نفس نُظم الجيش السوداني.
بالإضافة إلى المرتبات والامتيازات التي ظلّت حكومة الحركة الإسلامية تدفعها كاملةً لقوات الدعم السريع حتى اندلاع حرب أبريل، كان هناك حافزٌ إضافي لأفراد هذه القوات يتم دفعه من المصادر الخاصة لقوات الدعم السريع وللمُنتَدَبين للعمل معها. وقد أصبح هذا الحافز سبباً لطلب الكثير من ضباط الجيش لانتدابهم للعمل بقوات الدعم السريع (وهو ما عُرِف تهكّماً بين ضباط قوات الجيش باسم "الاغتراب الداخلي").
عليه يمكن القول أن قوات الدعم السريع بدأت في البروز عام 2013، رغم حجمها المحدود نسبياً في ذلك الوقت، كجيشٍ موازٍ للقوات المسلحة السودانية.
4
بعد شهرٍ من هذه التطورات قررت حكومة الحركة الإسلامية الاستعانة بقوات الدعم السريع لمواجهة هبّة سبتمبر عام 2013 الشعبية ضد نظام الحركة الإسلامية. كان سبب الاستعانة تلك عدم ثقة البشير في جيشه، وخوفه أن تتكرّر تجربة أكتوبر 1964، وأبريل عام 1985، عندما انحاز الجيش إلى الإرادة الشعبية. وقد تواصل عدم الثقة هذا رغم التسييس الكبير للجيش. قامت قوات الدعم السريع بأداء تلك المهمة بقسوةٍ ووحشيةٍ نتج عنها مقتل وجرح المئات من المتظاهرين، ووقفُ الهبّة.
إثر نجاح قوات الدعم السريع في التصدّي لهبّة سبتمبر قررت حكومة الحركة الإسلامية نقل قوات الدعم السريع إلى الخرطوم بغرض حماية نظام البشير من أيّة ثوراتٍ مماثلة أو محاولات انقلابٍ عسكرية. اكتملت تلك المهمة بنجاح عام 2015، وتمت ترقية حميدتي – بسبب نجاحه في وأد هبّة سبتمبر، وسرعة وسلاسة الانتقال إلى الخرطوم – إلى رتبة لواء ذلك العام. ومنح البشير حميدتي لقب "حمايتي." كان عدد قوات الدعم السريع قد وصل ذلك العام إلى حوالي الخمسين ألف مقاتل، انتقل جُلُّهم إلى الخرطوم، وبقي جزءٌ منهم في دارفور بغرض التجنيد والتدريب وحراسة دارفور نيابةً عن القوات المسلحة.
5
بسبب تزايد أعداد ودور ونفوذ قوات الدعم السريع، وبسبب وجودهم في الخرطوم جنباً إلى جنب القوات المسلحة، قررت الحركة الإسلامية الحاكمة عام 2016 إصدار قانونٍ خاص بقوات الدعم السريع يقنّن وجودها وينظم دورها ومسئولياتها وعلاقتها بالقوات المسلحة السودانية. بعد قرابة العام من التشاور والنقاش داخل أجهزة حكومة البشير العسكرية والأمنية والسياسية، ومع قيادات قوات الدعم السريع، صدر قانون قوات الدعم السريع لعام 2017. وقد صدر القانون بإجماع المجلس الوطني (السلطة التشريعية لحكومة الحركة الإسلامية) دون معارضةٍ أو تساؤلاتٍ حول أسباب وجود جيشين متقاربين في العدد والعدّة والعتاد، أو حول الإمكانية العملية للتعايش السلمي بينهما. وتعالت لعدّة دقائق هتافات "الله أكبر" من كل نواب المجلس إثر إجازة القانون. تمت بعد أيامٍ من صدور القانون ترقية اللواء حميدتي إلى رتبة فريق، بعد عامين فقط من ترقيته إلى رتبة لواء.
6
يتكوّن قانون قوات الدعم السريع من 25 مادة، مقسّمةٍ إلى سبعة فصول. أشارت المادة 6 من قانون قوات الدعم السريع إلى أن قوات الدعم السريع تتبع للقوات المسلحة وتعمل تحت إمرة القائد الأعلى (والذي هو رئيس الجمهورية حسب تعريف القانون). غير أن المادة 7 أوضحت أن قوات الدعم السريع "قوات عسكرية قومية التكوين تهدف لإعلاء قيم الولاء لله والوطن"، وعدّدت مهامها لتشمل "دعم ومعاونة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى في أداء مهامها." يبدو أن الغرض من هذين النصين المختلفين (إن لم نقل المتناقضين) إرسال رسالتين، إحداهما لأفراد القوات المسلحة أن قوات الدعم السريع تتبع لهم، والثانية لقوات الدعم السريع أنهم قوات عسكرية قومية التكوين، من مهامها دعم ومعاونة القوات المسلحة، وليس التبعية لها. ولتأكيد هذا الاستقلال فقد أوضحت المادة 6، كما ذكرنا أعلاه، أن قوات الدعم السريع تعمل تحت إمرة رئيس الجمهورية، وليس وزير الدفاع أو القائد العام للقوات المسلحة. عليه فقد أنهى القانون تبعيّة قوات الدعم السريع لجهاز الأمن والمخابرات.
شملت مهام قوات الدعم السريع التصدّي لحالات الطوارئ، الدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، وأية مهام أخرى يكلّفها بها القائد الأعلى (رئيس الجمهورية). لا بد من التكرار أن المادة 7 لم تُشِر من قريبٍ أو بعيد إلى أي دورٍ لوزير الدفاع أو للقائد العام للقوات المسلحة السودانية في مهام أو الإشراف على قوات الدعم السريع، كما ذكرنا أعلاه، رغم أن المادة 6 ذكرت أن قوات الدعم السريع تتبع للقوات المسلحة.
7
غير أن أهم مواد قانون قوات الدعم السريع هي المادة 5 التي تتضمّن حالتين لخضوع قوات الدعم السريع لأحكام قانون القوات المسلحة لعام 2007. وتقرأ تلك المادة كالآتي:
"5 (1) عند إعلان حالة الطوارئ أو عند الحرب بمناطق العمليات الحربية تخضع قوات الدعم السريع لأحكام قانون القوات المسلحة لسنة 2007 وتكون تحت إمرتها.
(2) يجوز لرئيس الجمهورية في أي وقتٍ أن يدمج قوات الدعم السريع مع القوات المسلحة وفقاً للدستور والقانون وتخضع عندئذٍ لأحكام قانون القوات المسلحة لسنة 2007."
وسوف نعود لهذه المادة المهمة لاحقاً.
8
ساهم البرهان بوصفه أحد القيادات العليا للقوات المسلحة، والموثوق بها من قِبل الحركة الإسلامية الحاكمة، في كل التطورات الخاصة بقوات الدعم السريع و التي سردناها أعلاه، خاصةً ترقيات حميدتي، والنمو الكبير والمتواصل في عدد قواته، ونقل جلِّ القوات إلى الخرطوم، وإعداد وإجازة قانون قوات الدعم السريع. وقد قام البرهان بتكليفٍ من البشير في إعداد وتهيئة المواقع التي سيقيم فيها أفراد قوات الدعم السريع إثر نقلهم إلى الخرطوم.
غير أن الفترة الذهبية لتمدّد وتوسّع قوات الدعم السريع ولقائدها حميدتي بدأت، في حقيقة الأمر، بعد انقلاب 11 أبريل عام 2019 واستمرت حتى انقلاب 25 أكتوبر 2021. كان البرهان هو قائد الانقلابين، والمهندس والمسئول الأول عن هذا التمدّد والتوسّع الكبير والخطير الذي نتج من القرارات المتعدّدة والمتهوِّرة والخطيرة والمتسارعة التي اتخذها بنفسه، والتي سنتعرّض لها بإيجاز أدناه.
9
أولاً: كان من أوئل القرارات التي اتخذها البرهان بعد نجاح انقلاب 11 أبريل عام 2019 هو تشكيل المجلس العسكري الانتقالي ليكون السلطة التشريعية والتنفيذية العليا لإدارة البلاد. تشكّل المجلس من عشرة عسكريين، وشملت عضويته الفريق حميدتي. وهكذا نقل البرهان حميدتي من قائدٍ لوحدةٍ شبه عسكرية إلى عضوٍ في أعلا سلطةٍ دستوريةٍ في البلاد.
ثانياً: يبدو أن البرهان قرر أن عضوية حميدتي للمجلس ليست كافية. فبعد يومين من الانقلاب وتعيين حميدتي عضواً في المجلس العسكري الانتقالي، قام البرهان بترقية الفريق حميدتي إلى رتبة فريق أول. وهكذا أصبح حميدتي في نفس رتبة البرهان – كلاهما فريق أول.
لكن تجب الإشارة هنا إلى أن قانون قوات الدعم السريع لعام 2017 لا يشمل ضمن الرتب التي يمكن لأفراد قوات الدعم السريع الترقّي إليها رتبة "فريق أول"، ويتوقّف القانون في رتية "فريق" كأعلى رتبة يمكن الترقّي إليها. غير أن البرهان لم يكترث البتة لهذه المواد من قانون قوات الدعم السريع، ولم يقم حتى بتعديل القانون قبل إصدار قرار ترقية حميدتي. وهكذا فقد قام البرهان بترقية حميدتي إلى فريقٍ أول في إزدراءٍ تام للقانون واستخفافٍ بالنظم واللوائح والوضع العسكري في السودان.
يجب التذكير هنا إلى أن عمر حميدتي عندما تمت ترقيته إلى رتبة فريق أول عام 2019 كان 45 عاماً، بينما كان عمر البرهان وقتها 59 عاماً. كما تجب الإشارة إلى أن تعداد قوات الدعم السريع كانت قد قارب، بسبب سماح البرهان لها بالتوسّع المتواصل وغير المحدود، تسعين ألف مقاتل ذلك العام.
10
ثالثاً: بعد ترقية حميدتي إلى رتبة فريق أول – ليصبح في نفس رتبة البرهان – برز حميدتي في الدوائر السياسية والإعلامية والعسكرية وهو يحمل وظيفة "نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي." لم تكن الأوامر التي أصدرها البرهان بنفسه بعد انقلاب 11 أبريل تتضمّن هذا المنصب الدستوري، غير أن البرهان لم يأبه بتلك الأوامر أو يقوم بتحديثها، وكرّر ما فعله قبل يومٍ عندما قام بترقية حميدتي إلى رتبة فريق أول في إزدراءٍ تامٍ لقانون قوات الدعم السريع.
وهكذا نقل البرهان حميدتي خلال ثلاثة أيامٍ فقط (11 أبريل – 13 أبريل 2019) من قائدٍ لوحدةٍ شبه عسكرية، إلى عضوٍ بأعلا سلطةٍ دستوريةٍ في البلاد، ثم ترقيته إلى رتبة فريق أول، ثم تعيينه نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي.
11
رابعاً: في 11 يوليو عام 2019، بعد حوالي الشهر من جريمة فض الاعتصام، وقبل حوالي الشهر من صدور الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس عام 2019، أصدر البرهان التعديل الأول لقانون قوات الدعم السريع لعام 2017. تمّت من خلال هذا التعديل إضافة عددٍ من المهام إلى قوات الدعم السريع، وتوسّعت مهام وصلاحيات هذه القوات إلى أضعاف المهام المضمّنة في المادة 7 من قانون قوات الدعم السريع لعام 2017.
شملت المهام التي تمت إضافتها إلى قوات الدعم السريع بموجب هذا التعديل: مكافحة الإرهاب، مكافحة الإتجار بالبشر بكافة صوره، مكافحة الهجرة غير الشرعية، مكافحة التهريب، ومكافحة المخدرات. وقد أثار هذا التعديلُ الموسّع السؤالَ الساخرَ عن ما تبقّى للجيش السوداني من مهام ليقوم بها، ويبرّر بقاءه، بعد هذا التوسع الكبير في مهام وصلاحيات قوات الدعم السريع؟.
كان الغرض من إضافة مهمة "مكافحة الإرهاب" هو محاولة تقنين مشاركة قوات الدعم السريع في حرب دارفور، وفي العنف المفرط ضد شباب ثورة ديسمبر 2018، ثم في حرب اليمن ضد الحوثيين. وقد درّت المشاركة في حرب اليمن مئات الملايين من الدولارات للطرفين. حوّلت تلك المشاركة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع المشتركة في حرب اليمن إلى مجموعة مرتزقة تحارب من أجل المال.
كما شملت القوات التي حاربت ضد الحوثيين في اليمن عدداً من الأطفال في إزدراءٍ تام للقوانين والنظم العالمية التي تحرّم تجنيد الأطفال ومشاركتهم في أي أعمالٍ عسكريةٍ أو شبه عسكرية. وقد ساهم حميدتي أيضاً في نشر لواء في ليبيا للقتال إلى جانب قوات الجنرال خليفة حفتر، مقابل إمداد حفتر لحميدتي بالمواد البترولية من ليبيا.
كان الغرض من إضافة مهمة "مكافحة الهجرة غير الشرعية" هو توسيع مهام قوات الدعم السريع لتشمل تعاقداتها مع الاتحاد الأوروبي لوقف الهجرة غير النظامية إلى أوروبا عن طريق شمال دارفور ثم ليبيا ثم البحر الأبيض المتوسط. وقد درّت تلك المهمة أيضاً مئات الملايين من الدولارات (أو اليورو)، والمعدات من الاتحاد الأوروبي لقوات الدعم السريع والقوات المسلحة.
انتقد عددٌ من منظمات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني وتنظيماته العالمية سياسة الاتحاد الأوروبي ودخوله في علاقات تعاقدية مع قوات الدعم السريع، واستخدامه للقوات في تلك المهمة غير الإنسانية. لا بد من إضافة أن كل العلاقات التعاقدية أعلاه تمّت بعلم وموافقة البرهان والتنسيق مع القوات المسلحة السودانية. كما أن القوات المسلحة نالت، كما ذكرنا أعلاه، نصيبها من العائد المادي من هذه الصفقات.
قام التعديل أيضاً بإلغاء الفقرات المتعلقة بصلاحيات مجلس قوات الدعم السريع والخاصة بإصدار وإجازة اللوائح الإدارية والمالية، والاستعاضة عنها بفقرةٍ تعطي هذه السلطات لقائد قوات الدعم السريع – الفريق أول حميدتي. وقد توسّع هذا التعديل في صلاحيات حميدتي في إدارة كل شئون هذه القوات بدلاً من المجلس، ودون أيّة صلاحياتٍ لوزير أو وزارة الدفاع أو قيادة القوات المسلحة السودانية للتدخّل أو حتى الإشراف.
12
خامساً: أصدر البرهان التعديل الثاني لقانون قوات الدعم السريع في 30 يوليو عام 2019، بعد أقل من ثلاثة أسابيع من التعديل الأول (والذي صدر في 11 يوليو عام 2019)، وقبل أقل من ثلاثة أسابيع من الاتفاق على الوثيقة الدستورية والتوقيع عليها في 17 أغسطس عام 2019. ويقرأ التعديل الثاني:
"1. تُلغى المادة 5 من قانون قوات الدعم السريع لسنة 2017 (الخضوع لقانون القوات المسلحة) بجميع فقراتها.
2. يُعاد ترقيم قانون قوات الدعم السريع لسنة 2017 تبعاً لذلك."
تحدّد المادة 5 من القانون الحالات التي تخضع فيها قوات الدعم السريع لقانون القوات المسلحة، وتعطي رئيس الجمهورية صلاحيات دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية. وقد أوردنا المادة 5 من القانون كاملةً في الجزء رقم 7 أعلاه من هذا المقال.
وهكذا وبهذه البساطة المذهلة، والاستخفاف التام بأكبر وأهم وأخطر القضايا الأمنية والعسكرية في البلاد وقتها، اختفت المادة 5 من قانون قوات الدعم السريع. لم تعد قوات الدعم السريع تخضع لقانون القوات المسلحة لسنة 2007 عند إعلان حالة الطوارئ أو عند الحرب بمناطق العمليات الحربية، وإنما يحكمها القانون الخاص بها – قانون قوات الدعم السريع لسنة 2017.
لكن الأخطر والأهم من هذا، بل الأهم من كل فقرات التعديل الأول والثاني الأخرى، هو إسقاطُ تعديلِ البرهان الثاني لقانون قوات الدعم السريع لكلمة "الدمج" من القانون. كانت تلك أكبرَ وأقيمَ هديةٍ يمكن أن يقدمها أي مسئولٍ عسكري أو سلطة سياسية لقوات الدعم السريع – إغلاق باب دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. فقد كانت مسألة الدمج هذه الهاجسَ الأكبر لقيادات قوات الدعم السريع، والسيفَ المسلّط على رقبتها. غير أن البرهان حطّم ذلك السيف ببساطةٍ واستخفافٍ، وبسطرٍ واحدٍ فقط من قراراته المتسرّعة.
13
سادساً: كما أوضحنا من قبل، فقد تضمّن قانون قوات الدعم السريع مواد خاصة بانتداب ضباط الجيش الى قوات الدعم السريع، وإنهاء انتدابهم، وانتقالهم بصفة دائمة إلى قوات الدعم السريع إن أرادوا ذلك، ووافق الطرفان على هذا الإجراء. وقد تم تفعيل هذه المواد بصورة كبيرة بعد انقلاب أبريل، وسمح البرهان لمجموعةٍ من ضباط الجيش السوداني المنتدبين بالبقاء بصورةٍ نهائية وكاملة كجزءٍ من قوات الدعم السريع.
وهذا الوضع يفسر وجود عددٍ من ضباط الجيش ضمن قوات الدعم السريع في عددٍ من معارك حرب أبريل، وفي كل وفود المفاوضات التي تمت بين الطرفين بعد اندلاع حرب أبريل. وقد أدهش ذلك الوضع الغريب والمعيب الكثير من أبناء وبنات الشعب السوداني والمراقبين الأجانب للمفاوضات.
وكما ذكرنا أعلاه، فقد قارب عدد قوات الدعم السريع تسعين ألف عند وقوع انقلاب 11 أبريل 2019. غير أن رقم القوات تخطى في عام 2020، بمساندة البرهان غير المحدودة، حاجز المائة ألف مقاتل. وهذا رقمٌ مثيرٌ، دون شكٍّ، للدهشة والهلع.
14
سابعاً: بعد أسابيع من التفاوض بعد انقلاب 11 أبريل 2019 تم الاتفاق بين القوى المدنية والمجموعتين العسكريتين (الجيش والدعم السريع) على الوثيقة الدستورية التي تعكس تفاصيل الشراكة بينهما. شملت الوثيقة الدستورية المبادئ الأساسية لهذه الشراكة، ولمؤسسات وطريقة إدارة البلاد في الفترة الانتقالية التي ستنتهي، بمقتضى الوثيقة الدستورية، بعد 39 شهراً بقيام الانتخابات.
تم التوقيع على الوثيقة الدستورية في 17 أغسطس عام 2019 بواسطة الفريق أول حميدتي "نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي والمفوّض عن المجلس العسكري الانتقالي." ووقّع على الوثيقة السيد أحمد ربيع سيد أحمد المفوض من قوى الحرية والتغيير، بحضور ممثلين للاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي ومصر.
لا بد من ملاحظة أن التوقيع على الوثيقة الدستورية تم بواسطة الفريق أول حميدتي، وليس بواسطة الفريق أول البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي. من المؤكّد أن توقيع حميدتي كان بتوجيهٍ مباشرٍ من البرهان، وأن هذا التوقيع كان انعكاساً وتأكيداً للتمدّد الكبير لقوة حميدتي العسكرية والسياسية، وتجهيزاً له لمهام قادمة، أكبر حجماً وأكثر خطورةً.
15
ثامناً: ألغت الوثيقة الدستورية المجلس العسكري الانتقالي وحلّ مكانه مجلس السيادة الانتقالي. قضت المادة 11 من الوثيقة الدستورية أن مجلس السيادة يتكون من احد عشر عضواً، خمسة من المدنيين وخمسة من العسكريين، وتختار المجموعتان العضو الحادي عشر.
تم اختيار البرهان رئيساً لمجلس السيادة. غير أنه بعد أيام قلائل برز الفريق أول حميدتي وهو يحمل لقب "نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي" على الرغم من أنه لا توجد على الإطلاق أيّة إشارة في الوثيقة الدستورية إلى منصب "نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي." وإذا كانت هناك إشارة صريحة أو ضمنية، فإن منطق الشراكة كان سيتطلّب ملء هذا المنصب بواسطة المدنيين، وليس احتكار المنصبين بواسطة العسكريين.
من الواضح أن البرهان قرر خلق هذا المنصب ليقوم بملئه حميدتي. كما يبدو أن توقيع حميدتي على الوثيقة الدستورية بوصفه "نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي" رغم عدم وجود ذلك المنصب الدستوري في أيٍ من المراسم الدستورية الخاصة بالمجلس العسكري الانتقالي كما ذكرنا أعلاه، قُصِد منه (ونتج عنه) تهيئة الأجواء السياسية للإعلان عن المنصب الدستوري الجديد الخاص بنائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، وتعيين حميدتي في ذلك المنصب.
وهكذا واصل البرهان تعبيد الطريق لحميدتي للتوسّع والتمدّد عسكرياً وسياسياً ودستورياً ليصبح الرجل الثاني في الدولة تحت مظلة شراكة العسكريين والمدنيين الجديدة.
16
تاسعاً: بالإضافة إلى منصبه الدستوري كنائب رئيس محلس السيادة، عيّن البرهان حميدتي رئيساً "للجنة العليا للطوارئ الاقتصادية." وقد شملت اللجنة في عضويتها رئيس الوزراء (نائباً لرئيس اللجنة) ووزراء القطاع الاقتصادي ومحافظ بنك السودان. وتم تعيين جراهام عبد القادر الناطق الرسمي باسم اللجنة.
بدأت لجنة الطوارئ الاقتصادية أعمالها بتكوين 11 لجنة فنية في مجال التجارة والاقتصاد والإصلاح الضريبي والجمركي وخفض التضخم وسعر الصرف. ترأس كل لجنة الوزير المختص أو الوكيل أو المدير العام للهيئة المعنية، وعملت كل تلك اللجان تحت رئاسة وإشراف وتوجيهات الفريق أول حميدتي.
وهكذا، وبتوجيهٍ من البرهان، ترأّس حميدتي رئيسَ الوزراء ووزراءَ القطاع الاقتصادي كافةً، ليس فقط دستورياً من منصبه كنائب لرئيس مجلس السيادة، وإنما إدارياً وفنياً أيضاً من منصبه كرئيسٍ للجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، وليصبح المسئولَ الاقتصادي الأول في حكومة الشراكة وفي السودان.
17
عاشراً: منح البرهان حميدتي 30% من أسهم منظومة الصناعات الدفاعية التي تملكها القوات المسلحة السودانية، وتم تعيين شقيقه عبد الرحيم دقلو عضواً بمجلس الإدارة. واضحٌ أن الغرض من هذا التطور الاقتصادي الكبير كان تأكيد الشراكة التامة في كافة المجالات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.
وقد وردت تقارير إثر هذا التطور، وبعد تعيين حميدتي رئيساً للجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، عن تبرع حميدتي بمبلغ مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد السوداني. كما وردت تقارير أخرى عن توقيع وزارة المالية لعقود بمليارات الدولارات مع شركات حميدتي المتعددة (منها الجنيد للأنشطة المتعددة والفاخر)، خصوصاً في مجال تعدين وتصدير الذهب، وتمويل الواردات الاستراتيجية.
18
حادي عشر: قام البرهان بتعيين حميدتي ليرأس الوفد الحكومي للتفاوض مع الحركات المسلحة، والذي نتج عنه "اتفاق جوبا" (أو ما عُرِف أيضاً "باتفاق السلام السوداني") في 3 أكتوبر عام 2020. وأفادت عدّة تقارير أن حميدتي، بوصفه نائباً لرئيس مجلس السيادة ورئيساً لوفد التفاوض، اتخذ بنفسه قرارات هامة خلال تلك المفاوضات في الكثير من المسائل المُختلفِ عليها.
وقّعت على الاتفاق حكومة السودان مع عدة حركات مسلحة (شملت حركات الكفاح المسلح – مسار دارفور، والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال – الجبهة الثورية، مسار الشرق، مسار الشمال، مسار الوسط، الجبهة الثالثة – تمازج). وقد قام حميدتي بالتوقيع مُمثِّلاً لحكومة السودان.
غير أن حميدتي وقّع بصفته "النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي" (النائب الأول وليس نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي). هذه بالطبع مفاجأةٌ كبيرة وتطورٌ دستوريٌ هامٌ ومثير، سنناقش أسبابه وتبعاته في الجزء التالي من هذا المقال.
حضر مراسم التوقيع رئيس مجلس السيادة البرهان، ورئيس الوزراء حمدوك وعددٌ من الوزراء. كما حضر وشارك في التوقيع أيضاً مندوبو جنوب السودان وتشاد، وممثلون لمصر والأمارات العربية وقطر والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. أشاد الموقعون والمراقبون بحكمة وشجاعة ووطنية رؤساء وأعضاء وفود التفاوض، وذهبت الإشادة الكبرى إلى الفريق أول حميدتي رئيس وفد التفاوض الحكومي.
لا بد من التكرار أن حميدتي هو من وقّع على اتفاق جوبا نيابةً عن حكومة السودان رغم وجود البرهان وحمدوك في حفل التوقيع. كما تجب الإشارة إلى أن البرهان وقّع أيضاً على اتفاق جوبا، لكن "كشاهد" على الاتفاق. وهذا وضعٌ قانونيٌ غريبٌ وغير مسبوق، إذ كيف يمكن لرأس دولة ان يكون شاهداً على اتفاقٍ بين طرفين أحدهما هو دولته نفسها؟ سنحاول الإجابة على هذا التساؤل في الجزء أدناه من المقال.
19
ثاني عشر: كما ذكرنا أعلاه فقد وقّع حميدتي على اتفاق جوبا بوصفه "النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي." وقد مرَّ هذا التطور الدستوري الكبير دون أن يثير أي جدلٍ في الدوائر العسكرية والسياسية والصحفية والأكاديمية في السودان، ربما لأنه لا أحد قد سمع به أو لاحظه.
تضمن اتفاق جوبا فصلاً عن توزيع السلطة، قضى بمنح الحركات المسلحة ثلاثة مقاعد في مجلس السيادة وخمسة مقاعد في مجلس الوزراء و25% من مقاعد المجلس التشريعي (أي 75 مقعداً).
وردت تقارير تشير إلى مطالبة الحركات المسلحة في بداية التفاوض بمنصب نائب رئيس لمجلس السيادة. ويبدو أن بسبب هذا المطلب فقد اتضح للبرهان وحميدتي أنه إذا تم فعلاً تعيين شخصٍ آخر مع حميدتي نائباً لرئيس مجلس السيادة فهذا سيعني أن حميدتي لم يعد وحده الرجل الثاني في الدولة. وهذا في اعتقادي هو السبب في ترقية حميدتي السريعة والمفاجئة إلى نائب أول لتمييزه عن النائب الآخر إذا تم فعلاً تعيين هذا النائب الآخر (أو النواب الآخرين) عاجلاً أو آجلاً.
تمت هذه الترقية في هدوء، وبلا سندٍ قانوني، مثلها مثل تعيين حميدتي نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي، ومن بعدها نائباً لرئيس مجلس السيادة الانتقالي. ووقّع حميدتي على أثرها على اتفاق جوبا بوصفه "النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي."
كما يبدو أن توقيع البرهان كشاهدٍ على اتفاق جوبا كان من ضمن أغراضه توضيح وتأكيد أن الوضعية الدستورية الجديدة لحميدتي كنائبٍ أول لرئيس مجلس السيادة مسألةٌ رسميةٌ صدرت بقرار من البرهان قبل التوقيع على الاتفاق. عليه فإن توقيع البرهان كشاهد كان بغرض تأكيدها.
غير أن هذه المسألة لم تطفو على سطح الأحداث السياسية، ولم ينكشف غطاؤها، بسبب عدم تعيين شخصٍ آخر نائباً لرئيس مجلس السيادة الانتقالي حتى وقت اندلاع الحرب. وبعد اندلاع الحرب بفترة قام البرهان بمحاولة التغطية عليها بتعيينه مالك عقار ليخلف حميدتي نائباً، وليس نائباً أول، لرئيس مجلس السيادة.
20
ثالث عشر: كجزءٍ من إعادة تنظيم قوات الدعم السريع التي تمت عام 2013، بدأت قيادة القوات في تنظيم دوراتٍ تدريبيةٍ لمقاتليها الجدد. وأصبح كلٌ من حفلات التخريج (أو ما تمت تسميته "كرنفالات التخريج") السنوية (أحياناً مرتين في العام الواحد) مهرجاناً عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ضخماً لقوات الدعم السريع ولقائدها.
كانت تلك الكرنفالات تتم بمشاركة ورعاية البشير أولاً، ثم البرهان بعد سقوط البشير. واصل البرهان ليس فقط حضور كرنفالات التخريج، بل التحدّث فيها مشيداً بأوضح الكلمات بقوات الدعم السريع ودورها، ومكرّراً الإطراء والإعجاب (إن لم نقل التغزّلَ) بها. وقد كانت كرنفالات التخريج تلك تتم، كما هو مكتوبٌ في بطاقة الدعوة، تحت رعاية حميدتي وتشريف البرهان (لاحظ الاختيار الدقيق لكلمتي "رعاية" و "تشريف" بغرض إبراز وتوضيح دور كلٍ من الجنرالين).
وقد تحدث البرهان خلال عددٍ من كرنفالات التخريج تلك مشيداً بقوات الدعم السريع ودورها في حماية الوطن. نورد أدناه جزءاً من الكلمة التي ألقاها البرهان في "كرنفال تخريج الدفعة السابعة" من قوات الدعم السريع الذي تمت إقامته في قاعدة قرّي العسكرية في 8 ديسمبر 2019:
"قوات الدعم السريع كلنا نعلم تماماً إلا زول مكابر أو زول منافق ما بيعلم الواجب اللي قامت بيهو، مش في حفظ الثورة لكن في كل السودان. نحن شهود، نحن شهود على ذلك في كل مكان في السودان. أدوا الضريبة وشاركوا مع القوات المسلحة سواء كانت برية أو جوية في كل مكان، كانوا معانا - مع إخوانهم في القوات المسلحة. كانوا صمام الأمان لكل الأمور اللي حصلت، كانوا بيدافعوا مع إخوانهم في كل مكان وهم كانوا صمام الأمان مع اخوانهم في القوات النظامية الأخرى، واستطاعوا يثبّتوا البلد ويوصلوا البلاد لما فيه نحن الآن. كل الناس الآن ينعموا بالحرية وينعموا بالراحة وينعموا بكل شيء بفضل جهود هذه القوات."
21
رابع عشر: ذهب البرهان في كلمته تلك خطوةً أبعد من الإشادة بقوات الدعم السريع بكثير عندما حاول أن يبرّئ قيادة قوات الدعم السريع من جرائم دارفور وجرائم التصدي لشباب ثورة ديسمبر وفض الاعتصام. فقد ذكر البرهان بالحرف الواحد في نفس كلمة كرنفال التخريج التي أشرنا إليها أعلاه:
"الإعلام والكلام المضلل اللي بقولوا فيهو الناس ما بيفِتْ في عضدنا وما عايزنه يفت في عضدكم. نحن نعلم أن كل البشر خطآئين وما في زول بياخدوهو بجريمة زول تاني. كل زول يعمل حاجة يتحمل مسئوليتها وما في زول بيتحمل مسئولية زول تاني.
الناس اللي بجيبوهم في الفيديوهات ما بمثلوا قوات الدعم السريع إطلاقاً. قوات الدعم السريع بقادتها ورجالها حارسين السودان – حارسين ثغور السودان وحارسين الناس والمواطنين وحارسين العاصمة، ولو ماهم كان حصلت مشاكل لا حصر لها ...... "
من أجل كلمة البرهان خلال الكرنفال (بالصوت والصورة) يمكن مراجعة الربط:
البرهان في قاعدة قري العسكرية (youtube.com)
22
خامس عشر: كما ذكرنا أعلاه، فقد أحال البرهان الكثير من المهام والمسئوليات الكبيرة إلى حميدتي. شملت تلك المهام، كما ناقشنا في أجزاء سابقة من هذا المقال، رئاسة اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية، ورئاسة فريق مفاوضات جوبا. وشملت أيضاً التفاوض مع بعض النقابات المُضْرِبة عن العمل بسبب الخلافات في الأجور، ولقاءات لمناقشة القضايا العالقة وتبادل الآراء مع بعض قيادات الإدارة الأهلية والطرق الصوفية. كل ذلك تحت سمع وبصر، إن لم نقل طلب، البرهان.
وتضمّنت أيضاً مهام خارجية قادها حميدتي شملت زيارة روسيا لمناقشة القضايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية المشتركة. وقد استضاف سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا بنفسه حميدتي خلال تلك الزيارة. كما سافر حميدتي إلى عددٍ من دول غرب أفريقيا شملت دولة النيجر حيث مثّل حميدتي السودان في حفل تنصيب رئسها المنتخب إبراهيم بازوم. وزار حميدتي أيضاً عدداً من دول شرق أفريقيا شملت إثيوبيا حيث ناقش قضيتي سدِّ النهضة والفشقة مع رئيس وزرائها أبي أحمد.
كما زار حميدتي دولة الأمارات مراراً ليناقش القضايا الاقتصادية والسياسية المشتركة بين حكومة السودان وقوات الدعم السريع مع دولة الأمارات. وقد تمت استضافة حميدتي خلال تلك الزيارات بواسطة حاكم الأمارات محمد بن زايد بنفسه.
23
يوضّح هذا العرض بجلاء أن التمدّد والتوسّع الحقيقي لحميدتي وقوات الدعم السريع تسارع بصورةٍ مكثّفةٍ بعد انقلاب البرهان الأول في 11 أبريل عام 2019، وتواصل حتى انقلاب البرهان الثاني في 25 أكتوبر عام 2021، وتم بقراراتٍ وأوامر وتوجيهاتٍ صدرت من البرهان بنفسه.
نتج هذا التمدد بسبب نجاحات قوات الدعم السريع في المهام التي أحالتها لها القوات المسلحة (المشاركة في حرب دارفور، وحماية حكومة الحركة الإسلامية، ثم البرهان، والتصدي لشباب ثورة ديسمبر 2018)، وقيام قوات الدعم السريع بهذه المسئوليات بشراسةٍ وقسوةٍ كبيرتين. كما كانت العلاقة الوطيدة بين الجنرالين سبباً قوياً آخر. فكلٌ منهما كان يحتاج للآخر لحمايته من الثورات والانقلابات داخلياً، ومن المساءلة الدولية.
وقد ساهم في هذا التمدّدِ والتوسّعِ الاستهتارُ الكبير الذي صاحب الكثير من قرارات حكومة الحركة الإسلامية، ومن بعدها قرارات البرهان (والتي لا بد أن تكون قد تمّت بعلم وموافقة الحركة الإسلامية)، والتي فصّلناها في هذا المقال.
وبمرور السنوات أدت النجاحات العسكرية لقوات الدعم السريع إلى بروز وتمدد حميدتي في الساحة السياسية. وكنتيجةٍ لهذه القوة العسكرية والسياسية توسّعت دوائر المال والاقتصاد لقوات الدعم السريع وقائدها حميدتي. وقد استخدم حميدتي ثروته الهائلة بذكاءٍ من أجل التمدد العسكري والسياسي. وهكذا تواصلت وتتواصل هذه الحلقات المريرة والهامة في الدوار.
24
إن الحرب العبثية اللعينة التي تقضي كل يومٍ على الأخضر واليابس في بلادنا هي نتاجٌ طبيعي لاستهتار الإسلاميين والبرهان، والذي أدّى إلى قيام جيشين في بلدٍ واحد، يكادان يكونان متساويين في العدد والعدّة والعتاد، واعتقاد حكومة الحركة الإسلامية في غطرسةٍ أنها سوف تستطيع التحكّم في هذا الوضع الخطير، وغير المسبوق في أيّةِ دولةٍ من دول العالم.
وهما نفس الغطرسة والاستهتار اللذان يقودان البرهان والإسلاميين في الوقت الحاضر إلى التمادي في إهدار فرص السلام وإطالة عمر الحرب والقتل والموت والدمار والمجاعة والأوبئة، بغرض عودة الإسلاميين إلى السلطة.
لا بد أن حميدتي وقيادات قوات الدعم السريع تحسُّ في عميق دواخلها بقدرٍ كبيرٍ من الامتنان المغلق الصامت الخجول للإسلاميين وللفريق أول البرهان على كل ما قدّموه لقوات الدعم السريع ولقائدها الفريق أول حميدتي. غير أن القدر الأكبر من الامتنان يعود، دون شكٍّ، إلى البرهان الذي مثّلت فترةُ اعتلائه للسلطة بين انقلاب 11 أبريل 2019 وانقلاب 25 أكتوبر 2021 العهدَ الذهبي لقوات الدعم الدعم السريع.
-----------------------------------
* أعتذر عن طول المقال، فتداخل وتشابك وتسارع الوقائع والتطورات جعلت من الصعب تجزئة المقال إلى مقالين أو أكثر (تماماً مثلما حدث في مقالي السابق).
** من أجل مزيدٍ من التفاصيل والنقاش للمسائل التي أثارها هذا المقال (وصورة من قانون قوات الدعم السريع، والتعديلين الأول والثاني للقانون) يمكن مراجعة كتابي:
"قوّات الدعم السريع – النشأة والتمدّد والطريق إلى حرب أبريل 2023" (مركز أبحاث السودان، يونيو 2023)، والمتاح على الربط:
https://rb.gy/kiogg.
*** رئيس مجلس جامعة الخرطوم
[email protected]
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: نائب رئیس مجلس السیادة الانتقالی رئیس المجلس العسکری الانتقالی القوات المسلحة السودانیة ن قانون قوات الدعم السریع على الوثیقة الدستوریة قوات الدعم السریع إلى إلى قوات الدعم السریع قانون القوات المسلحة قوات الدعم السریع فی أن قوات الدعم السریع د قوات الدعم السریع ع قوات الدعم السریع لقوات الدعم السریع بقوات الدعم السریع وقوات الدعم السریع الفریق أول حمیدتی فی القوات المسلحة الحرکات المسلحة البرهان حمیدتی انقلاب البرهان رئیس الجمهوریة الجیش السودانی للقوات المسلحة على اتفاق جوبا حکومة السودان فی حرب دارفور من هذا المقال النائب الأول هذا التعدیل إلى الخرطوم حمیدتی رئیس قام البرهان ضباط الجیش البرهان فی هذه القوات فی السودان أن البرهان من البرهان بعد انقلاب تلک المهمة شبه عسکریة المادة 5 من الثانی فی ن البرهان حرب أبریل فی دارفور حمیدتی فی ألف مقاتل ذلک العام أن حمیدتی أغسطس عام الکثیر من خلال تلک ع حمیدتی الغرض من والتوس ع ل حمیدتی لا بد من التمد د یبدو أن فی هذا نتج عن إلى أن غیر أن عام 2013 أول فی من أجل
إقرأ أيضاً:
كيف أقلق البرهان واشنطن وتل أبيب؟
في ظلّ السيولة الأمنية التي يعيشها السودان بسبب تداعيات الحرب ضد مليشيا الدعم السريع المتمردة، أصدر رئيس مجلس السيادة في السودان وقائد الجيش الجنرال عبدالفتاح البرهان قرارًا بتفريغ العاصمة الخرطوم من المظاهر المسلحة.
ومن المؤكد أن القرار لم يعد مجرد مطلب أو طموح، بل ضرورة وطنية ملحّة في مسار استعادة هيبة الدولة وإعادة بناء مؤسساتها. ولا بد أن يصدر هذا القرار من موقع امتلاك زمام المبادرة، خصوصًا بعدما أثبت الجيش السوداني قدرته على مواجهة مليشيا الدعم السريع التي كانت الأكثر تجهيزًا وتسليحًا، وتحظى بدعم خارجي، وتتمدد في مفاصل الدولة بأكثر من 120 ألف مقاتل، وباغتت الجيش بهجومها في 15 أبريل/ نيسان 2023.
نجاح الجيش في التصدي لهذا الخصم عالي التنظيم والتسليح يعيد التأكيد على قدرته على فرض قراراته الإستراتيجية، وفي مقدمتها إعادة تنظيم المشهد الأمني داخل المدن.
وأمام هذا المشهد، تصبح المقارنة بين مليشيا الدعم السريع والحركات المسلحة الأخرى غير واقعية؛ فهذه الأخيرة ما زالت تُبدي التزامًا بالاتفاق السياسي الذي وقّعته في جوبا، وتقر بمركزية الدولة وضرورة دمج قواتها في الجيش الوطني.
لا تنبع أهمية انتصارات الجيش السوداني فقط من قدرته على كسر شوكة أخطر المليشيات في تاريخ الدولة، بل من التحولات الجيوسياسية التي أفرزتها على المستويين؛ الإقليمي والدولي.
ففي مقال تحليلي نشرته صحيفة تايمز أوف إسرائيل، أشار الصحفي البريطاني المتخصص في الشأن الأفريقي، جافين سيركين، إلى أن "الواقع الجديد" في السودان، بعد انتصارات الجيش في الخرطوم وود مدني ومناطق من دارفور، قد أربك حسابات العواصم الكبرى، وعلى رأسها واشنطن وتل أبيب.
ونوّه سيركين إلى أن موازين القوى انقلبت جذريًا لصالح الجيش بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان، مما دفع قوى دولية مثل دول الترويكا لإعادة النظر في إستراتيجيتها، والبحث عن تسوية "تُرضي الجيش السوداني"، بعدما بات واضحًا أن أي مشروع سياسي لا يحظى بموافقته لا يمكن فرضه على أرض الواقع.
إعلانهذه المعطيات تُمكن الجيش السوداني من التحرك داخليًا بثقة أكبر لفرض قرارات إستراتيجية مثل تفريغ المدن من السلاح، ليس فقط كضرورة أمنية، بل كإعلان عن استعادة زمام المبادرة على كافة المستويات.
إذن، فإن قرار تفريغ المدن لا يُقرأ كرهان محفوف بالمخاطر، بل كمحطة منطقية وممكنة في مشروع إعادة بناء الدولة، تسانده قوة عسكرية على الأرض، وتدفع نحوه ضرورات الأمن والاستقرار، لا سيما في ظل إجماع متنامٍ على أن الدولة وحدها يجب أن تحتكر السلاح وتعيد ضبط التشكيلات العسكرية ضمن الأطر النظامية.
ولا يمكن النظر إلى هذا القرار بمعزل عن السياق السياسي والأمني الأوسع؛ فوجود السلاح خارج المنظومة الرسمية لا يهدد العاصمة وحدها، بل يهدد وحدة الدولة ذاتها.
إن تفريغ المدن من المليشيات المسلحة ليس إجراءً تقنيًا، بل فعلًا سياديًا يعكس قدرة الدولة على حصر القوة في يد واحدة. كما أنه ضرورة لحماية العملية السياسية ذاتها، إذ لا يمكن تصور انتقال مدني أو ديمقراطي في ظل تعدد القوى المسلحة داخل الحواضر.
الجيش السوداني، بعد أكثر من عام من الحرب، أثبت أنه الجهة الوحيدة التي تملك القدرة على فرض الاستقرار الميداني. فهو لم يكتفِ بالصمود، بل استطاع أن ينتقل من الدفاع إلى الهجوم، وأن يحرر مدنًا رئيسية، ويكسر النفوذ العسكري لمليشيا الدعم السريع في مناطق عدة. هذه التجربة العملية تمنح القرار الجديد مصداقية أكبر، وتؤسس لمرحلة يكون فيها تفكيك المظاهر المسلحة جزءًا من سياق إستراتيجي شامل لإعادة هندسة الدولة.
الحركات المسلحة من الشراكة إلى النفوذحين وُقّع اتفاق جوبا للسلام 2020، رُوّج له باعتباره بداية جديدة للسلام وبناء الشراكة بين المركز والهامش. لكن ما حدث لاحقًا أظهر انحرافًا في المسار؛ فقد تحولت بعض الحركات المسلحة إلى مراكز نفوذ تسعى للمحاصصة لا لبناء الدولة، واحتفظت ببنيتها العسكرية دون أن تُقدم على خطوات جدية لنزع السلاح أو إعادة الهيكلة.
في بداية الحرب تغيّبت هذه الحركات، وتذرعت بالحياد، ثم عادت وانحازت للجيش لاحقًا، عدا بعض القيادات منها التي اختارت الاصطفاف إلى جانب مليشيا الدعم السريع، أو تبنت مواقف رمادية مرتبكة.
الأخطر من ذلك، أن بعض هذه الحركات تمارس ذات السلوك الذي طالما اشتكت منه: تسييس الجغرافيا، وتكريس الجهوية، والاستحواذ على السلطة دون مسؤولية. وبدل أن تذوب في الدولة، بدأت تُعيد تشكيل الدولة وفق حساباتها، وتفاوض على أساس ميزان القوة، لا على أساس برنامج وطني مشترك.
وقد فاقم هذا الوضع من ظاهرة "الجيش السياسي"، حيث دخلت بعض الفصائل العمل السياسي دون أن تنزع بزّتها العسكرية، وأصبحت تُدير الوزارات والمنصات التنفيذية بنفس عقلية المعسكر: أوامر، محسوبيات، وولاءات. بل أصبح بإمكان فصيل مسلح أن يُعرقل قرارًا سياديًا إن شعر أنه لا يخدم مصالحه أو يقلص نفوذه.
وإذا نظرنا إلى تفاصيل تنفيذ اتفاق جوبا، نجد أن البنود المتعلقة بإعادة هيكلة القوات ودمجها في الجيش لم تُطبّق فعليًا. بل إن بعض الحركات توسعت عسكريًا بعد دخولها العاصمة، وأنشأت معسكرات جديدة، وواصلت التجنيد.
إعلانهذا التوجه يضع علامات استفهام كبرى حول مدى التزامها بروح الاتفاق، ويثير مخاوف من أن تتحول إلى كيانات سياسية عسكرية موازية، تمارس الضغط من الداخل لا بهدف الإصلاح، بل بهدف تأمين مواقعها.
كما أن كثيرًا من القواعد الميدانية لهذه الحركات ما زالت تعيش حالة من التعبئة والصدام مع الدولة، وتحمل في خطابها الكثير من العداء للمؤسسات المركزية. بعض التصريحات التي تصدر من القيادات الوسطى تتحدث عن امتيازات مناطقية أو مطالب تتجاوز بكثير ما أقره الاتفاق، ما يؤشر إلى خلل في الالتزام والانضباط السياسي داخل هذه الكيانات.
مكاتب الحركات: قنابل موقوتةالمشهد في الخرطوم اليوم يكشف عن تناقض جوهري مع روح اتفاق جوبا؛ فمكاتب بعض الحركات المسلحة تنتشر داخل الأحياء السكنية، تحت حراسة عسكرية علنية تُربك الأحياء وتقلق المدنيين، ويُجنَّد فيها أفراد ذو سوابق إجرامية في السطو والاعتداء.
وهذا أمر شاذ، إذ كان من الطبيعي أن تكون هذه المكاتب ذات طابع مدني، وتخضع لحماية الشرطة النظامية، بينما يكون المقاتلون على خطوط المواجهة الحقيقية في دارفور وغيرها، لا في قلب العاصمة وبقية المدن.
هذه الحركات لم تأتِ إلى الخرطوم لتُجند مزيدًا من العناصر، بل جاءت ـ بموجب الاتفاق ـ لتضع السلاح، وتنخرط في مشروع وطني لبناء الدولة والمساهمة في الانتقال السلمي. وأي سلوك يخالف هذا المسار يُعد انتهاكًا للاتفاق، وتهديدًا مباشرًا لأمن المجتمع ولأسس الدولة.
ورغم أن بعض القيادات العليا لهذه الحركات تُبدي تفهمًا سياسيًا وتطرح مواقف عقلانية، فإن الإشكال الحقيقي يكمن في القيادات الوسطى والميدانية، حيث ما تزال الحمولات التعبوية القديمة فاعلة، وتتحكم في السلوك السياسي والميداني، وكأن اتفاق السلام لم يُوقّع، وكأن الحرب لم تُفرز دروسها بعد.
إلى جانب ذلك، فإن سلوك بعض هذه الحركات في الحياة العامة بات يثير قلق المواطنين، حيث تُسجل حالات استيلاء على مقرات رسمية أو عقارات خاصة، ويجري فرض النفوذ بالقوة في بعض الأسواق، بل وتُستخدم الأسلحة في فضّ النزاعات البسيطة، دون رادع قانوني فعّال. هذه الممارسات تنسف الأساس الأخلاقي والقانوني لوجود هذه الحركات داخل المدن، وتضع الحكومة أمام مسؤولية واضحة: إما أن تفرض هيبة الدولة، أو تفقد ما تبقى منها.
كما أن ضعف التنسيق بين مؤسسات الدولة والحركات المسلحة في المجال الأمني يجعل العاصمة عرضة للاختراق، ويُعرقل جهود إعادة الإعمار والاستقرار. وجود هذه القوات بصورتها الحالية يُسهم في تضييق مساحة الدولة، ويقوّض سلطة القانون، ويجعل من أي حديث عن استحقاقات ديمقراطية مجرد وهْم لا يستند إلى واقع فعلي.
حين لا تكفي البنادق لبناء وطنفي كل مرة تُمنح الحركات المسلحة فرصة للاندماج في الدولة، دون أن تُسلم سلاحها أو تُراجع خطابها، تُضاف حلقة جديدة في سلسلة الفشل الوطني. فالوطن لا يُبنى بالمحاصصة، ولا تُؤسس له شرعية بالرصاص، ولا تُدار مدنه بمزاج العائدين من الميدان.
لقد آن للسودان أن يضع حدًا لهذه الحلقة المفرغة التي تُنتج حركات مسلحة من رحم الإقصاء، ثم تُعيد إنتاج الإقصاء من داخل السلطة. آن له أن يتحرر من "جمهورية البنادق المؤجلة"، ويعود إلى مشروع الدولة الجامعة، لا السلطة الموزعة.
فإما أن تعود الحركات المسلحة إلى حضن الوطن بلا سلاح، أو تبقى في هامش التاريخ، تتآكل خلف شعاراتٍ بلا جمهور، وبنادقَ بلا معنى. وإما أن تتوحد راية السلاح تحت علم الدولة، أو نظل نعيش دويلة داخل الدولة، ومرحلة انتقالية بلا انتقال.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن اتفاق جوبا للسلام، كما نُفّذ، لم يعد صالحًا كمرجعية لبناء السلام أو إعادة تشكيل الدولة. لقد تجاوز الواقع السياسي والميداني في السودان اتفاق جوبا، الذي بُني على شروط لم تعد قائمة، وأصبح استمراره كمرجعية ضربًا من التجميل السياسي لا أكثر.
إعلانإن ما تبقّى من اتفاق جوبا اليوم لا يتجاوز كونه غطاءً سياسيًا يُستخدم في كثير من الأحيان لتبرير الامتيازات، لا التزامًا فعليًا ببناء الدولة. وعليه، فإن السؤال لم يعد: كيف نُفعّل الاتفاق؟ بل: كيف نتجاوزه ببديل أكثر واقعية وشمولًا؟ بديل يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والسلاح، ويمنح السياسة مكانتها، ويُعيد الاعتبار للمواطنة، لا للتهديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline