يلح عليّ دوما حوار الزير الذي أدى دوره سلوم حداد مع الجرو ابن أخيه كليب، الذي أدى دوره الفنان تيم حسن، في مسلسل الزير سالم الذي أخرجه حاتم علي عام 2000.
وكثيرا ما عدت إلى المسلسل، وإلى ذلك الحوار؛ حيث عدت إليه قبل أشهر، في شتاء هذا العام الدمويّ، لحاجة في نفسي كعربيّ.
رحم الله الشاعر ممدوح عدوان، الذي توفي بعد 4 سنوات من عرض المسلسل، ليعيش هذا العمل طويلا، لربما أكثر من سنوات عمره، التي قاربت الـ63 عاما.
ولعل خلود رائعة الزير سالم المسلسل، يجيء من خلود القصة نفسها: حرب البسوس، وما استولدت من صراع وشعر وردود أفعال لم تنته، من القدم إلى الغد.
ترى، هل كان في ذهن ممدوح عدوان شيئا ما يتعلق بالسلام والحرب هنا، في ظل ما بدأ من تسويات مضى عليها أكثر من أربعة عقود ونصف العقد، وما تلاها قبل ثلاثة عقود، وما ظل يتلو؟
هل كان ممدوح عدوان يقصد مثلا ما يسمى بتوازن القوى المطلوب لأية علاقات أكانت بين أفراد أو دول؟ هل بالغ عدوان في نصه «الزير سالم» الذي نشره عام 1998، أي قبل عامين من تحوله إلى دراما تلفزيونية عرضت في رمضان عام 2000.
-« لا يسمحون لكم بركوب الخيل؟
- بل يسمحون، ونستطيع شراء الخيول إذا أردنا.
- والسيوف؟ هل اشتروا سيوفكم أيضا؟ هل يسمحون لكم بحمل السيوف؟
- لا تبالغ يا عماه، إنها مسألة خيول فقط. ولقد كانت صفقة من أجل الماء، ولم نجد المسألة خطيرة طالما السلام قائم بيننا»
لسنا تغلبيين، وليسوا بكريين، ولكنها مشابهة الحال، حيث من خلال مبرر حماية المحتل منا، فيسمح له بالتسلح إلى آخر مدى، بما في ذلك سلاح الدمار الشامل.
تذكرني طائرات الشبح، التي منها اف35، بالخيول!
بعد عام من الحرب على غزة، بين ما كان من بعض يوم لعبور البلاد، وبين ما استتبع ذلك من عام وأكثر من إبادة، ضاع ما مدح به الشعراء، وما فخروا به، وسط رثاء موجع لوطن يقتّل ويهدّم.
في ظل هذا الذي نعيش، وما يخلق من ردود فعل، نختار الإيمان بثقافتنا وقيمنا وتضامننا المشترك، فنكتب ونقرأ، ونشعر بعروبتنا الحنونة، ولعل هذا هو المهم، وهو ما يمنحنا الأمل، ولذلك فإننا نحن هنا الآن.
نلوذ بثقافتنا العربية العريقة، فنزداد قوة؛ فحين تدخل الكلمة ساحة الحرب، فإن النصر للكلمة. وهنا يتجلى الدور الأكثر نبلا للثقافة والفنون، كونها المنهل الإنساني الجمالي العروبي الوطني الذي ننهل منه فنبقى.
واليوم، يصرّ الاحتلال على وأد الثقافة والفن والإعلام العربي؛ فما يحدث من مجزرة مستمرة هو شأن فلسطيني، فهل سيمر في التاريخ ما هو أسوأ؟ من قوم ما هم قوم، يستغلون كل ما يقترب من قومية مزعومة لهم، ليقووا بها، نافين عن العرب أي شعور قومي!
ولكن، لا تجري سفن المحتل كما يشتهي، فما زالت الكلمة العربية الحرة باقية.
وما زال العروبيون يختارون الحياة كما ينبغي للحياة أن تكون.
وهذا ممدوح عدوان يتابع خياله المشروع في حوار المهلهل وابن أخيه، على ضوء حالنا اليوم:
- سلامٌ بلا خيول، أيّ ذل! ما الفرق إذن بين حياتكم هذه والحياة التي كان جساسٌ يجبركم عليها؟
- ولكن لم تعد هناك حاجة للخيول يا عماه
- فما للبكريين وخيولكم إذن؟
- بما أن الحرب انتهت، فنحن انتهينا..
- الحرب انتهت؟! وهل انتهت مطامح الرجال؟ هل وصلتم لحياة آمنة مطمئنة؟
- نعم.
- وكريمة؟ وفيها أنفةٌ وكبرياء وقدرة على اتخاذ قرار؟ فيها قدرة على الحركة؟ فيها عظمة وأحلامٌ وطموحات؟
- مالنا ولهذا كله؟
- مالكم وللحياة إذن؟!
هنا، ينتصر ممدوح عدوان الشاعر العربي للحياة، التي حتى ولو غادرها بعد صراعه مع المرض، فإنه لم يغادرها فعلا.
«مالكم وللحياة إذن؟!»
ما زلت أتذكر تمثيل الفنان القدير سلوم حداد، وكأني به قد تقمص ليس فقط ما كان من زمن مضى، بل زمن نعيشه. وكأني به يتذكر وصية كليب لأخيه!
لم تكن هناك نوايا طيبة، فلا حسن نوايا للاحتلال، وهذا ما يشعر به الكتاب والفنانون، فيختارون الإبداع طريقا بعيدا عن الوعظ والخطابة.
- لم تهول الأمر إلى هذا الحد؟
- لأنك ملكٌ أضحوكة.
- بل أنا ملك، وابن ملك. أنا ابن كليب، ولن أسمح لأحد أن ينال مني أو من سطوتي أو من نسبي.
- وتستطيع أن تحمي عرشك هذا؟
- ممن سأحميه؟
- من الطامعين. من الأعداء.
- إن وجد لي أعداء فهم أعداء لأخوالي البكريين أيضا. وهؤلاء سيحمون لي عرشي.
- أي حاكم أنت؟ أتعتمد على غيرك في حماية عرشك؟
- بل أنا قادر على حماية عرشي بنفسي؟
رحمك الله يا ممدوح عدوان، حينما رحت تنحو منحى ساخرا في نصك؟ هل كان عدوان ساخرا بقسوة الجراح حتى يخلصنا مما انتفخنا به من أورام الفرقة والضعف؟
- كيف؟ هل ستركب الماعز الذي تركوه لك لكي تحارب به؟
- كل حاكم في الدنيا يعتمد على حلفاء يساعدونه وقت الحاجة.
- وعلى ماذا ستعتمد في نجدتهم إذا احتجتها؟
- على روابط الدم التي بيننا.
- أم على الدم الذي سفك بيننا؟
- بل على روابط الدم التي بيننا.
- أهي قوية؟
- قوية.
- ويرونها كذلك؟
- ويرونها كذلك.
- فلماذا لم يعتمدوا عليها لكي يثقوا بكم ويتركوا الخيول عندكم؟
هكذا يرد الشاعر والكاتب العربي ممدوح عدوان على من يجد المبررات الواهية بالثقة بمن لا يستحق.
خاتمة مدهشة للكاتب، وقد وفق المخرج وكل من سلوم حداد وتيم حسن في التعبير عنها وفق رؤية إخراجية عالية التأثير.
- ..................
- يا أخي العربي، سنظل مؤمنين بعروبتنا، وهي الأمل والخلاص القومي والوطني، وروافع ذلك الثقافة والفن.. الكلمة الحرة الملتزمة بوعي وصدق.
- ....................
- حتى لا يسخر منا الزير وأخوه العربي ممدوح عدوان قائلين: مالكم وللحياة إذن؟!
تلك هي خلود الروائع، انها صادقة ولو صدمتنا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
زمن الابتذال العربي
#زمن_الابتذال_العربي
المهندس: عبد الكريم أبو زنيمة
يعيش المواطن العربي اليوم في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية هي الأسوأ على مر التاريخ ، فاذا ما نظرنا الى جغرافيتنا وما تزخر به من موارد طبيعية كان علينا ان نكون في مقدمة شعوب العالم في رفاهيته ورقيه وحضاريته ، وليس من المفترض أن تكون هناك دولة عربية فقيرة فكلها تزخر بثرواتها ولكن هناك سوء ادارة وغياب ارداة وغياب للسيادة الوطنية ، للأسف فإننا نعيش على هامش الانسانية بل وأصبحنا عبئاً على الحضارة نفسها حيث الجهل والتخلف والتطرف والفقر والجوع ، بالرغم من كل ما نملكه من ثروات فليس لنا اية مساهمة في تقدم الحضارة العالمية وازدهارها، أساس تخلفنا عن ركب الحضارة وتطورها هو البيئة السياسية التي تحكمنا ، حيث العروش والسلطات المطلقة والدكتاتورية والقمع وغياب الحريات والمسائلة وتفشي الفساد .
أخطر ما انجزته هذه البيئة السياسية في عالمنا العربي هو طمسها للثقافة والتربية الوطنية واستبدالها بثقافة وتربية التفاهة والسخافة والميوعة وهو ما نعيشه ونلاحظه من انحطاط اخلاقي لا متسع للحديث عنه ، هذه البيئة اتاحت وفتحت وشجعت النكرات لتتصدر وتمتطي الفضاء الاعلامي والتربوي والثقافي والفني ليصبحوا ملهمين للأجيال وصولاً الى ما نعيشه اليوم من افراح ومهرجانات ورقص وغناء على جوع وجثث أطفال ونساء وشيوخ غزة بلا وازع ديني واخلاقي ، عندها ندرك ان المنظومة القيمية والاخلاقية والسلوكية العربية في خطر كبير وهذا ما عملت وتعمل عليه القوى الصهيوغربية من تجهيل وتغريب للأجيال الناشئة عن قضاياها الوطنية ، فإن رقصنا اليوم على جثث ابناء غزة فالمؤكد ان هناك من سيرقص ويغني على جثث ابناءنا وأحفادنا غداً، فمن لا يهب لاطفاء نار بيت جاره اليوم عليه الرحيل من داره غداً، لأن النار نفسها ستلتهمه !
ان لم نصحو ونتصدى ونتحرر من هذا الانحطاط ، عصر العهر والسفاهة والتفاهة والسماجة ، عصر الخلاعة والرخص والتجهيل والتجويع وإذكاء كل اشكال الفتن المذهبية والطائفية الذي خطط له ونفذ بعناية في عالمنا العربي وأنفقت عليه المليارات حتى تفوقنا عالميًا في البذاءة والتفاهة والسخافة بدلا من انفاقها على تطوير التعليم والعلم والابداع وتحسين الرعاية الصحية والخدمات والبيئة السياسية وتطوير القطاعات الانتاجية ..الخ ، كل ذلك جرى لقتل الروح والفكر الوطني العربي الجمعي ليسهل على القوى الرأس مالية التي تقف وترعى المشروع الصهيوني السيطرة والتحكم بعالمنا العربي والاستيلاء على ثرواته والتحكم بطرق التجارة العالمية .
هناك حقائق علينا إداركها وهي ان معظم دولنا العربية وحتى البترولية منها تعيش ازمات مركبة وغارقة في المديونية وساقطة عسكريا ، انظمة الحكم العربية التي تقيم علاقات مع الكيان العنصري يبدو انها لا تدرك ان العدو يتربص بها جميعا وكل ما يلزمه هو الوقت ، بالأمس شهد العالم وتغنى باتفاقية اوسلو وحل الدولتين ! وها هو الكيان انقلب عليها واعلن ضمه الكامل للضفة الغربية وغور الاردن ، وغدًا سينقلب على معاهدة وادي عربة وكامب ديفيد عندما يسنح له الوقت والوقت فقط .
امام هذا الواقع المؤلم على الاحزاب السياسية العربية والكتاب والمثقفين ومؤسسات المجتمع العربي الوطنية التصدي لهجوم التفاهة والابتذال وابراز كل ما هو وطني وترسيخ ثقافة ووعي مقاومة المشروع التوسعي الاستعماري الصهيوني ، على الجميع رص الصفوف وتوحيد الجهود وتبني مشروع وطني عربي تحرري بعيدًا عن المناكفات والخلافات ، كل من يدعم ويساند المقاومة العربية ايًا كان دينه ومذهبه وهويته فهو شريكنا في المشروع التحرري ، على الجميع نبذ الخطاب التحريضي الفتنوي والتشكيك وتبني الخطاب النضالي المقاوم لهذا السرطان ، ليس لنا اليوم الا عدو واحد ووحيد وهو الكيان العنصري الاستعماري الصهيوني ورعاته ، وكل من يتبنى غير هذا الخطاب فإما ان يكون جاهلاً لا يدرك المخاطر واما عدواً لأمته وحضارته وهويته وعقيدته .