ملحمة أوبريت الشريف زين العابدين الهندي
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
أولا نترحم على روح الشريف زين العابدين الشريف يوسف الهندي ونسأل الله أن يتقبله في عليين. ثم نرفع أكف الضراعة لروح الأستاذ عبد الكريم الكابلي وندعو الله أن ينزله الفردوس الأعلى من الجنان .
ثانيا أدخل إلى غور هذه الملحمة الشعرية ذات العوالم والمعالم البارزة والملونة نصاً شعبياً طاف البلاد وديانها وسهولها بواديها وحضرها تلالها وكثبانها أنهارها بكل عنفوانها وصخبها وبحارها ، وحتى الأشجار والأطيار نالت حظها من الذكر والتوثيق ، لم يترك الزين شاردة ولا واردة إلا ونصب خيمته في الزمان والمكان وأخرج سحرها من بين أضلعه وفؤاده الذي أكتنز سودان العزة والشموخ كنزاً يسمو فوق كل الصغائر ؛ ولم يترك التاريخ عراكاً وشموخاً في ممالك دانت لها الدنيا وشخصيات كُتِبتْ ورُسِمتْ بماء الذهب ذكرى للذاكرين وعبرة للغافلين .
زاد الأستاذ عبد الكريم الكابلي النص الشعري ألقاً وبهاءاً وألبسه ثوب عُرسٍ فخرج على المسرح ملحمةُ تتلفعُ ثوب زفافٍ يزِينُها تاجٌ مُرصَّعٌ بألماسِ العزة وبريق التاريخ ورائحة مهيرة وجسارة الكنداكة. هتفَ لها وهَلّلَ وابتهجَ وذُهِل كلُّ منْ حضر تلك الليلة لِجمالِها وكمالِها.
أنظُر - يا رعاك الله - ماذا ترى؟وكيف انساك ؟ وكيف انساك وذكراك لي دماهو عروق ..
ومما الهجرة حلت ليهو، لابسك إنت عمة وطوق ..
وعايشك جوا وجدانه ،معايشة الحنين للشوق ..
وممزوج فيك .. ممازجة اللسان للضوق
ألا ترى الشاعر في انصهارٍ تام مع الوطن الرمز ؟ فالذكرى تجري مجرى الدم في العروق وتمتزج شوقاً في حنين عارم . والنَّصُّ الملحمي مفعمٌ بالصور البلاغية من تشبيهٍ ومجازٍ وكنايةٍ وطباقٍ وغيرِها .
وما بنساك ؛ وما بنساك عشان بطراك في الأزمان ..
قريب منك ، قرابة الحدقة للإنسان ..
وجايل فيك ، جولة الدم علي الوردان ..
وقيمتك عنده ، زي قيمتك معاه زمان ..
يعيشك هضبة ، بتشارف تلال قيسان ..
ويحياك موية في دارفور، تبل عطشان ..
ويديّم فيك من سنار، ترع خزان ..
ويدفق خيره بي عند الرهد بستان ..
ويقول للدندر الغاضب ، كفاك جيشان ..
ويسهر لي وليداتك ، يعشي الحاري والجيعان ..
يا سلام ! كلُّ مقطعٍ يحمل صوراُ بيانيةٍ تعكسُ جمالَ وعظمةَ وقيمةَ الأمكنة بالنسبة للشاعر ، وما أكثر المقاطع verses في هذه الملحمة . في المقطع أعلاه وردتْ هضاب وتلال قيسان ، ثم دارفور ، وسنار والرهد والدندر ومع كل وِرد مَزِيَّة ووظيفة ومدح ، وذلك شأن الأماكن في كل المقاطع .
في غروبك ؛ ربوع خصبة وتبر مبهول ..
وديان من عقيق ، مغسولة مطر وسيول ..
وكثبان تابة ، بطرز حواشي سهول ..
تجود بالكركدي ، وصمغ الهشاب والفول ..
وتدى القنقليس ، طول الشهور والحول ..
وفيك حفرة نحاس ، وأبوتولو غير مصقول ..
والعيش ، والسماسم ، والصمغ ، والكول ..
والتور ، والخروف .. والناقة ، والكاتول ..
علي دينار، كسب ليها الشرف والطول ..
أبو زكريا أداب العصاة ، زول زول ..
من وداي مكربت في ربوعها ويجول ..
لي الكفرة وصحاريها العجاف والفول .
وكلمة " غروبك " يقصد بها غرب السودان وما به من خيراتٍ حِسان وممالك كان لها شأنٌ بِتاجِ فخارٍ وسلطان . تأمّل المفردات في المقطع أعلاه واحدة تلو أخرى تجد الخير والنعيم في أراضي دارفور التي تعادل مساحة فرنسا . ألا يرعوي الذين ينادون بانفصالها أم إن حب السلطة والسلطان أعمى الأفئدة والعقول والبصائر ؟؟؟
مطروحة الجبين من سوبا لي سنار ..
نيليك من غرامن لبسوك سوار ..
أكنافك موطأة فيها ماء وخضار ..
ولي عزاز القبائل .. صرتي أحسن دار.
محصولك دهب ما بكيلو بالعبار ..
مواسمك عدة محسوبات طوال وكتار..
أرضك في الجمال محسوبة بالأشبار..
مشكلة بالتراب .. لكن لجين ونضار.
???? ذلكم هو وسط السودان من سوبا إلى سنار قلب الجزيرة النابض وواسطة العقد خضرة ونضرة وزفة ألوان وقمحاٍ ووعداً وتَمَني ، موشحةً بالتِّبر الأبيض طويل التيلة وقصيره والذي كان يكسو السودان عزاً وفخراً ومهابة قبل أنْ يكسونا الذُّل والهوان وتصرَعُنا الأطماعُ والأنانية .
كلك أدباء من عشاق وفنانين ..
شالوك في عيونم وصوروك تلوين ..
وشاشوبك شعر مطبوع جزيل ورصين ..
فيه أم در.. وفيه الأسكلة وستين .
وعازة الفي هواك ، نحن الجبال ثابتين ..
يا فلق الصباح ، قول لي نهارك وين ..
ترعاك في الفؤاد ، بعناية الحارسين ..
يا كروان كرومه .. خليل فرح ما يلين .
يا ود الرضي القلبه انقطع نصين ..
ترى العبادي ماسك الدابي بالليدين..
مع أبو صلاح ونورالكهربائي الزين ..
فيك الحاج سرور، غني الفراق لي متين ..
وما عارف المفارق ، قدموماش لي وين ..
وياعازة الفراق .. طال بي ، وكله حنين .
وهذا المقطع يمدح عشاق الفن والجمال في أم دٌر : كرومة ، خليل فرح ، ود الرضي ، العبّادي، أبوصلاح والحاج سرور وأغاني الحقيبة الخالدة: ماهو عارف قدمه المفارق وعازة الفراق بي طال وسال سيل الدمع هطال يا عازة . نماذج فقط لإبداع لا يغشاه الضُّمور .
عزيزي القارئ هذا تناولٌ موجَز لبعض مقاطع الأوبريت الملحمة التي خطَّها يراعُ الشريف زين العابدين الهندي . ولمّا كان هذا الشعر شعبياً وعامراً بالصُّور والأخْيِلة الأدبية التي تحتضن نماذج من الجغرافيا والتاريخ والفن والتراث والتربية الوطنية ، فَحَرِّي بنا وبوزارة التربية والتعليم في بلادي أن تُدخِلَ مثلَ هذا العمل العظيم في مناهج المدارس عندنا .
وتتحول ملحمة الشريف زين العابدين إلى " أوبريت " بديع لحنا وموسيقى وتوزيع يخرج بها الكابلي عن المألوف ويصنع منها عملا فنيا كبيرا متكاملا لعبتْ فيه الفرقة الموسيقية والكورال والفنانين أدواراً مُبهرةُ نشرتْ فنّاً وغناءاً ساحراً مُلوّناً بكل الترانيم التي تُطرِبُ وتُحوِّل الشِّعر إلى عملٍ مُبهرٍ يرقى إلى مصّاف مسرحيات شكسبير على مسرح جلوب Shakespeare's Globe .
رحم الله الأستاذ عبد الكريم الكابلي رحمةً واسعةً وتَقبّلَ الله الشريف زين العابدين وأنزلهما الفردوس الأعلى من الجنان .
محمد عمر الشريف عبد الوهاب
جدة في ١٦ / ١١ / ٢٠٢٤م
[email protected]
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
ملحمة جزيرة الدهب.. سواعد لا تهدأ في وزارة الكهرباء لإعادة التيار
يطلق عليهم في العادة أبطال الظل، على الرغم من عملهم تحت وطأة الشمس في عز الحر، يواصلون الليل بالنهار أحيانا، أو يتم استدعائهم بشكل مفاجئ في جوف الليل أو في آخر النهار، دائما تجدهم في حالة استعداد فهذه طبيعة عملهم.
إنهم العمال والفنيين في قطاع الكهرباء سواء في شركات نقل الكهرباء أو التوزيع، ترس المنظومة المهم بل الأهم، هم من يسارعون دائمًا لحل المشكلات وتنفيذ التعليمات، وبفضلهم تتحول هذه التعليمات إلى نجاح ملموس.
في ملحمة محطة محولات جزيرة الدهب التى أصاب كابلتها الأعطال ظلوا هم الأبطال الحقيقين على الأرض، إضافة إلى عمال وفنيي المقاول الخاص المكلف بالمشاركة في مد الكابلات وربط الدوائر الجديدة لعودة التيار الكهربائي بعد انقطاع دام أربعة أيام.
بابتسامة كبيرة واجه أحد العمال تذمرات بعض المارة في منطقة ساقية مكي مرددا "أنا ذنبي أيه ثم وجه حديثه لي قائلا: الناس زعلانة مننا وإحنا غصب عننا حضرتك شايفة إحنا شغالين كام يوم في الشارع" ليلتقط زميله الكلمة قائلا : “أنا زوجتي زهقت عشان مالناش مواعيد شغل في أي وقت بننزل”.
هذه الكلمات لخصت طبيعة عملهم الشاق فقد ظلوا في الشوارع طيلة الأيام الماضية يذهبون سويعات قليلة لبيوتهم ثم يعودون ليتسلموا الوردية.
في قلب الأزمة: فرق عمل متكاملة لإعادة النورخلال متابعة “صدى البلد” لإصلاح محطة جزيرة الدهب في موقع الأعطال شهدنا كيف يبذل الجميع جهودا جبارة، فكل فريق له مهامه، فريق يعمل على إصلاح الكابلات المعطلة، وفريق آخر يقوم بالحفر لتركيب كابلات جديدة لإضافة دائرتين جديدتين للمحطة ضمانات لاستقرار التغذية الكهربائية ومواجهة زيادة الاستهلاك الذي تسبب في خروج المحطة عن العمل، أما الفريق الثالث فكان يعمل على توصيل المولدات الاحتياطية وعربات الطوارئ لتغذية الأماكن الحيوية والاستراتيجية خاصة محطات مياه الشرب التى تسبب فصل الكهرباء في انقطاعها في بعض الأماكن لليوم الخامس.
ونجحت الفوق الفنية فى مهامها حين أعلنت وزارة الكهرباء عصر أمس عن نجاح الأطقم العاملة في إصلاح الكابل رقم 2، وإطلاق التيار الكهربائي على مستوى شبكة التوزيع، مع استمرار العمل لتأمين التغذية في نطاق محطة محولات جزيرة الدهب. وبذلك أصبحت المحطة تعمل من خلال الكابلين المغذيين 1 و2، وهو ما ساعد في تخفيف حدة الأزمة.
وواصلت الفرق الفنية بالشركة المصرية لنقل الكهرباء، برئاسة المهندسة منى رزق، العمل المكثف على توصيل الدائرتين الجديدتين بمحطة محولات جزيرة الدهب، بهدف إعادة التيار الكهربائي المستقر إلى كافة مناطق محافظة الجيزة، حيث بدأت أعمال الحفر ورفع الكابلات المتهالكة منذ صباح الثلاثاء، تلتها مباشرة أعمال تمرير المواسير والكابلات أسفل خطوط مترو الأنفاق والسكة الحديد، بعد الانتهاء من المناطق الأخرى ومد الكابلات الجديدة في الرابعة عصرًا، ثم اللحام قرب منتصف الليل، وصولًا إلى اختبار الكابلات حتى فجر اليوم استعدادًا لإطلاق التيار تدريجيًا.
جهود حثيثة بقيادة الوزيرنجحت كل هذه الأعمال بمتابعة دقيقة ومستمرة من الدكتور محمود عصمت وزير الكهرباء، حيث تواجد الوزير شخصيًا في مواقع الأعطال أكثر من ثلاث مرات في يوم واحد، مما كان له أثر كبير في نجاح الجهود المبذولة.
فيما واصلت المهندسة منى رزق إشرافها المباشر والمتواصل على أعمال مد الكابلات، حيث تواجدت في موقع العمل على مدار الساعة لضمان سير الأمور بسلاسة وسرعة، تمهيدًا لإعادة التيار الكهربائي.
في بيان رسمي، أعربت وزارة الكهرباء عن بالغ شكرها وتقديرها لأهالي الجيزة على ما أبدوه من صبر وتعاون مع الأطقم الفنية العاملة ميدانيًا. ومن المتوقع أن تصدر الوزارة بيانًا آخر عند حل الأزمة بشكل كامل، يتضمن شكرًا خاصًا للجنود (المعلومين) الذين عملوا بجد. هذا الشكر لن يكون مجرد كلمات على ورق، بل سيشمل مراعاة لمطالبهم العادلة من حوافز وبدلات، فهم وجميع العمال والفنيين ثروة حقيقية لوزارة الكهرباء.