لم يمضِ أسبوع واحد على تسلّم المجموعات المسلحة زمام الأمور في سوريا حتى طفت على سطح المشهد السوري المعقّد، وقبل استتباب الأمور، مسألة خط أنابيب نقل الغاز القطري عبر الأراضي السورية وصولاً إلى تركيا فأوروبا، وهو مشروع قديم، يعود للعام 2009، رفضه الرئيس السوري بشار الأسد في حينه، أي قبل سنتين من اندلاع الحرب في سوريا.


المشروع، الذي ستتكفّل قطر بتكاليفه التي تصل إلى 10 مليارات دولار، يمتد على مسافة 1500 كيلومتر، انطلاقاً من حقل جنوب فارس/الشمال في قطر، مروراً بالسعودية والأردن وسوريا ثم تركيا ومنها إلى القارة الأوروبية، كان من شأنه أن يقلّل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي (قبل اندلاع الحرب الأوكرانية) وأن يحوّل تركيا إلى مركز ثقل استراتيجي كمنصة توزيع غاز إلى أوروبا وغيرها.
هذا الخط سيؤمّن للموزّع التركي جزءاً كبيراً من غاز الشرق الأوسط بالإضافة إلى كميات الغاز الضخمة التي تصل تركيا من أذربيجان عبر الخط العابر للأناضول “تاناب”، وهو خط يربط حقول غاز أذربيجان على بحر قزوين مروراً بجورجيا وصولاً إلى تركيا باتجاه أوروبا وقدرته الحالية 22 مليار متر مكعب سنوياً، (10 مليارات للاستهلاك التركي و12 ملياراً إلى أوروبا)، وهذه الكمية يمكن أن تصل إلى نحو 60 مليار متر مكعب سنوياً عام 2026 بعد الانتهاء من مدّ خطوط أنابيب إضافية بين أذربيجان وتركيا والمعروف بـ”الممر الجنوبي للغاز”.
أسباب رفض الأسد لمشروع قطر/تركيا
سلّطت وسائل الإعلام الغربية ومراكز القرار الغربي في حينه الضوء على المصالح الروسية كسبب وحيد لرفض الرئيس الأسد المشروع التركي – القطري، لأن الغاز القطري سيحلّ محلّ الغاز الروسي الذي كان، قبل الحرب في أوكرانيا، يؤمّن 45% من احتياجات أوروبا للغاز الطبيعي.
وهذه الفرضيّة صحيحة إلى حد ما، فموسكو حليفة تاريخية لسوريا ومن غير المتوقّع أن تأخذ دمشق قراراً يهدّد مصالح حليفتها، واتهم الأسد في حينه أنه فضّل مصالح روسيا على مصلحة شعبه الذي كان بالإمكان أن يستفيد من حقّ مرور الغاز في أراضيه، لكنّ الوقائع التي كشفت منذ تلك المرحلة، تفيد بأنّ رفض الأسد كان له سبب وجيه آخر ويعود لسوريا بمنافع اقتصادية أعلى بكثير من الخط القطري التركي.
كان الأسد يناقش في تلك المرحلة، وبدعم روسي، مشروع بناء خط أنابيب لنقل الغاز الإيراني عبر العراق وصولاً إلى أوروبا عبر نافذة سوريا على المتوسط، وكان بإمكان هذا المشروع أن يؤمّن احتياجات سوريا من الغاز عبر حقّ المرور، وثانياً سيحوّل سوريا إلى مركز استراتيجي لتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا بديلاً من تركيا، وقد تمّ بالفعل توقيع مذكّرة تفاهم بين الدول الثلاث؛ إيران والعراق وسوريا في يوليو عام 2011، أي بعد ثلاثة أشهر فقط على بدء الحرب السورية، على أن يكون جاهزاً للعمل بحدود العام 2016، وحدّدت التكاليف بنحو 10 مليارات دولار.
وبالتزامن مع طرح إردوغان للمشروع القطري التركي على سوريا عام 2009، تمّ اكتشاف حقول ضخمة من الغاز الطبيعي في الحوض الشرقي للمتوسط (الأراضي المحتلة لبنان سوريا وقبرص ومصر)، وتمّ توزيع رخص التنقيب مباشرة على شركات أمريكية وأوروبية وهذا ما رفع أهمية المشروع لكونه يمكن أن يتكفّل بنقل الغاز المكتشف حديثاً عبر الخطوط التركية.
على هذا الأساس، يمكن الذهاب نحو الاستنتاج الذي جرى الحديث عنه بإسهاب مع بداية الحرب في سوريا، عن أن المشروع القطري التركي ورفض الرئيس السوري له كانا سبباً وجيهاً لبدء حرب إسقاط الأسد عام 2011 من قبل الأطراف المعنية بالغاز، وكان هذا أيضاً واحداً من الأسباب التي دفعت روسيا لدخول الحرب.
لهذا السبب دخلت روسيا في الحرب لأنّ أيّ تغيير للنظام في سوريا في تلك المرحلة، يعني مجازفة انتظار نظام جديد سيجري تصنيعه بحيث لن يعارض مشروع خط الغاز القطري- بحسب ما يقول البروفيسور ميشيل اورنيشتاين من مركز دراسات روسيا في جامعة هارفرد، كما لن يعارض النظام الجديد في سوريا الترتيبات الإقليمية المطلوبة لتجميع ناتج غاز سواحل شرق المتوسط، على نحو تتوافر فيه كميات تكفي الحاجة الأوروبية وتكون بديلاً نهائياً عن الغاز الروسي.
دور السعودية
يقول الدكتور نفيذ أحمد، وهو كاتب بريطاني في Middle East Eye و The Guardian وله عدة كتب من بينها “الدول الفاشلة والبيئة والاقتصاد”، إن الأمير السعودي بندر بن سلطان، اعتبر أن خطة إنشاء خط أنابيب بين إيران والعراق وسوريا سيشكّل “صفعة مباشرة في الوجه” لخطط قطر وسيرفع من نفوذ إيران بشكل واسع في المنطقة، وقد حاول الأمير السعودي رشوة روسيا طالباً منها عدم السماح بتطبيق هذا المشروع، إذ أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن “أي نظام سيأتي بعد” الأسد، سيكون في أيدي المملكة العربية السعودية بالكامل وأنها ستحافظ على المصالح الروسية في سوريا، وعندما رفض بوتين، تعهّد الأمير بعمل عسكري ضد سوريا.
مشروع النفط العراقي – الإسرائيلي
كما أنّ لـ”إسرائيل” مصلحة مباشرة في مواجهة خط الأنابيب الإيراني العراقي السوري، ففي عام 2003، أي بعد شهر واحد فقط من بدء حرب العراق، نقلت صحيفة الغارديان عن مصادر حكومية أمريكية وإسرائيلية وجود خطط “لبناء خط أنابيب لسحب النفط من العراق الذي تمّ احتلاله حديثاً إلى إسرائيل” (عبر الأردن) وحتى أواخر عام 2007، كان المسؤولون الحكوميون الأمريكيون والإسرائيليون في نقاش مستمر حول تكاليف مشروع هذا الخط الذي سقط لاحقاً بسبب التطورات والتغييرات في العراق.
التحضيرات للحرب منذ 2009
المشروع التركي – القطري حظي بمباركة أمريكية – أوروبية، لأنه سيوجّه ضربة ضخمة للاقتصاد الروسي، ووفقاً لاعترافات وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما، فإن بريطانيا “كانت تخطّط لعمل سري وتعدّ مسلحين لغزو سوريا” منذ عام 2009، أي في العام نفسه الذي اقترح فيه إردوغان مشروع خط أنابيب الغاز القطري على الأسد.
وفي العام 2011، واستناداً إلى رسائل إلكترونية مسرّبة من شركة الاستخبارات الخاصة “ستراتفور”، وفيها ملاحظات من اجتماع مع مسؤولين من البنتاغون، كشف أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تدرّبان منذ عام 2011 قوات المعارضة السورية بهدف استنباط “انهيار” نظام الأسد من الداخل.
على هذا الأساس، ومنذ العام 2011، تحالفت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا و”إسرائيل” لتقديم الدعم العسكري للمجموعات المسلحة في سوريا، وكانت معظم هذه الأسلحة، بحسب “نيويورك تايمز”، تصل إلى “المجموعات الإسلامية المتشدّدة” بما فيها جبهة النصرة التي لا تزال حتى الآن على لائحة الإرهاب الأمريكية، والتي استولى مقاتلوها في منتصف العام 2013، بالتحالف مع “الجيش الحرّ” المدعوم من تركيا، على حقول النفط في محافظتي دير الزور والحسكة، وحقّقوا منها أرباحاً هائلة.
القصة تعود إلى أحداث 11 سبتمبر 2001، فقد كشف الأمين العام المتقاعد لحلف شمال الأطلسي ويسلي كلارك، بحسب الكاتب البريطاني الدكتور نفيذ أحمد، عن فحوى مذكّرة من مكتب وزير الدفاع الأمريكي بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر عن خطط لمهاجمة وتدمير الحكومات في سبع دول في غضون خمس سنوات، بدءاً من العراق وانتقالاً إلى سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران، والهدف السيطرة على موارد النفط والغاز الهائلة في المنطقة.
هذا الكلام يتقاطع إلى حد بعيد مع تقرير صدر عام 2008 عن مؤسسة “راند” الأمريكية للبحوث العسكرية بتمويل من الجيش الأمريكي، تحت عنوان “كشف مستقبل الحرب الطويلة”، وفيه أن الدول الصناعية ستستمر بالاعتماد بشكل كبير على النفط، وبما أن معظم النفط لا يزال يستخرج من الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة لديها “الدافع للحفاظ على العلاقات الطيبة مع دول الشرق الأوسط واتخاذ كلّ الإجراءات لمنع خسارة السيطرة ولو الجزئية على نفط وغاز المنطقة.
لقد كان واضحاً، أن الرئيس السوري السابق بشار الأسد، بتحالفه مع إيران والاتفاقية التي وقّعها الطرفان مع العراق قد أثارت مخاوف استراتيجية لدى مجموعة من الدول في مقدّمتها تركيا و “إسرائيل”، الخاسرتان من خط الأنابيب الإيراني – العراقي، فمن جهة سيمنع على تركيا التحوّل إلى منصة غاز دولية، تستخدمها كما فعلت روسيا لعقود طويلة، للضغط على الأوروبيين، فالرئيس التركي لم ولن ينسى رفض الأوروبيين لمشروع انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة لـ “إسرائيل”، التي تحوّلت الى دولة مصدّرة للغاز وعقدت خلال السنتين الماضيتين اتفاقيات لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، فإنها تجد في الخط القطري التركي حلاً مثالياً لنقل غازها إلى القارة العجوز، ومن جهة ثانية، تخلّصت عبر التغيير الحاصل في دمشق، من مشروع غاز معادٍ لها، لأنّ نجاح خط الأنابيب الإيراني العراقي سيشكّل بالتأكيد رافعة اقتصادية استثنائية لهذه الدول.
إن الصراع على الغاز والنفط، يبدو أنه هو من حدّد طبيعة التدخّل في سوريا وتغيير الأنظمة، ليس بالضرورة الاهتمام بحياة السوريين، فقد قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة السابق الجنرال مارتن ديمبسي: سوريا ليست مسألة اختيار بين جانبين بل اختيار جانب واحد من بين العديد من الجوانب، وأعتقد أن الجانب الذي نختاره لا بدّ أن يكون مستعدّاً لتعزيز مصالحه ومصالحنا عندما يتحوّل الميزان لصالحه.
ويروي روبرت كينيدي، ابن شقيق الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي، أن واشنطن واعتباراً من العام 2000 اتخذت قراراً بالعمل على مشروع يصبح فيه الغاز القطري بديلاً من الغاز الروسي الذي يتحكّم برقبة أوروبا، وقال في مقابلة مع مجلة “بوليتكو” إن القرار الأمريكي اتخذ بعد 10 سنوات بالتخلّص من الرئيس الأسد الذي “تعرّض للضغط الروسي في رفضه المشروع القطري – التركي.
قبل أيام قليلة، أعلن في أنقرة أنّ سقوط بشار الأسد أعاد إلى الواجهة مشروع خط الغاز الطبيعي بين قطر وتركيا، وقالت الباحثة السياسية والاقتصادية التركية بشرى زينب أوزدمير، إن سوريا بلد مهم للغاية بالنسبة لدولة قطر من حيث تصدير الغاز الطبيعي، وأشارت إلى أنّ “الثورة السورية” التي استمرت أكثر من 10 أعوام، جعلت المشروع مستحيل التنفيذ، إلا أنه بعد تأسيس نظام مستقر في سوريا، يمكن القول “إن المشروع لن يواجه أيّ عقبات سياسية في المنطقة إذا استمرّ الوضع الراهن”.
السعودية قد تطيح بالحلم التركي
ربما الطموحات التركية متعجّلة بعض الشيء، فالتطوّرات الأخيرة في سوريا بعد سيطرة المجموعات المسلحة على الحكم، وتفرّد قطر من بين دول الخليج بإدارة المعركة لإسقاط الأسد أدّت إلى غضب عارم في الرياض، خصوصاً وأن السعودية كانت قد فتحت أبوابها للرئيس السوري السابق بشار الأسد، وهذا الغضب الذي تتشاركه معها دول عربية أخرى، يمكن أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه العلاقة من توتر بين عامي 2013 و2021، وقد يطيح معه على المدى المنظور على الأقل أحلام أنقرة الغازيّة.

المصدر: الثورة نت

كلمات دلالية: القطری الترکی الغاز الروسی الغاز القطری بشار الأسد إلى أوروبا خط أنابیب فی سوریا عام 2011

إقرأ أيضاً:

صراع المال الذي سيشكل مستقبل أوروبا

كارل بيلت - 

«المال هو الذي يجعل العالم يستمر في الدوران»، هكذا تغنّي فتاة الاستعراض سالي بولز في مسرحية «كباريه»، المسرحية الموسيقية الشهيرة التي تدور أحداثها على خلفية انحطاط جمهورية فايمار. من المؤكد أن المال سيشكل مستقبل أوروبا، حيث يضطر القادة السياسيون في مختلف أنحاء القارة إلى اتخاذ قرارات مؤلمة حول كيفية تخصيص الأموال العامة في عالم متقلقل على نحو متزايد.

من المنتظر أن تعمل ثلاث أولويات عاجلة على إرهاق الموارد المالية العامة في أوروبا خلال السنوات القليلة المقبلة. الأولى -والأكثر وضوحا- هي الدفاع. الواقع أن القوة الدافعة نحو زيادة الإنفاق العسكري تتمثل في المقام الأول في الرغبة في الرد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلا عن انتقاد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب المستمر لحلفاء أمريكا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد جعلت هذه الضغوط مجتمعة من تعزيز موقف أوروبا الدفاعي ضرورة استراتيجية.

الأولوية الثانية والأكثر إلحاحا هي دعم أوكرانيا في معركتها ضد روسيا. إذا انهارت دفاعات أوكرانيا، فمن المرجح أن تنفجر روسيا في نوبة هياج انتقامية. وضمان قدرة أوكرانيا على الاستمرار في الدفاع عن نفسها يتطلب أن تتجاوز الحكومات الأوروبية التزامات الإنفاق الدفاعي الحالية.

وأخيرا، هناك العملية المطولة المتمثلة في إعداد ميزانية الاتحاد الأوروبي القادمة المتعددة السنوات، والتي ستغطي الفترة من 2028 إلى 2034. وقد قدمت المفوضية الأوروبية اقتراحها بالفعل، لكن التحدي الحقيقي يكمن في المستقبل، حيث يتعين على البلدان الأعضاء والبرلمان الأوروبي إجراء مفاوضات داخلية قبل الاتفاق على الأرقام النهائية. يتضمن اقتراح المفوضية زيادة تمويل الأمن، والالتزامات العالمية، والقدرة التنافسية، فضلا عن تقديم دعم إضافي لأوكرانيا.

ورغم أن هذه الأولويات حظيت بتأييد واسع الانتشار، فإن إعادة تخصيص الموارد اللازمة لتمويلها كانت موضع جدال حاد. من المأمون أن نقول إن اللجنة تتجه نحو مواجهة سياسية مريرة قبل التوصل إلى الإجماع. على الرغم من حدة هذه المعارك المرتبطة بالميزانية، فإن الميزانية التي تقترحها المفوضية تبلغ 1.26% فقط من الدخل الوطني الإجمالي في بلدان الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين. وبينما تزيد هذه النسبة عن الحالية (1.13%)، فإن الزيادة الصافية متواضعة نسبيا بمجرد احتساب تكاليف خدمة الديون الناتجة عن فورة الاقتراض التي أعقبت جائحة كوفيد-19.

ولكن عندما يتعلق الأمر بالدفاع، تصبح الأرقام أكثر أهمية بدرجة كبيرة. فقد تنامت ميزانيات الدفاع في مختلف أنحاء أوروبا في السنوات الأخيرة بنسبة الثلث تقريبا، حيث تنفق معظم الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو حوالي 2% من ناتجها المحلي الإجمالي أو تقترب من هذا المعيار.

ولكن حتى هذا لم يعد كافيا. ففي قمة الناتو في يونيو في لاهاي، تعهد الأعضاء بإنفاق 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2035، مع تخصيص 1.5% إضافية للاستثمارات المرتبطة بالدفاع والأمن في عموم الأمر. ويبدو أن نسبة 1.5% الإضافية مصممة لاسترضاء ترامب، الذي دعا الحلفاء الأوروبيين مرارا وتكرارا إلى زيادة الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن المتوقع أن يعتمد جزء كبير من هذا الإنفاق الإضافي على المحاسبة الإبداعية بدلا من التمويل الجديد الحقيقي. كما يتطلب دعم أوكرانيا خلال الحرب وإعادة بناء البلاد في نهاية المطاف التزاما ماليا كبيرا. وبينما تتفاوت التقديرات، فإن مبلغ 100 مليار دولار سنويا، على سبيل المثال، سيعادل ما يزيد قليلا على 0.4% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين -وهو مبلغ كبير ولكن ليس من السهل على الإطلاق إدارته.

عند مرحلة ما خلال فترة الميزانية 2028- 2035، سيكون من اللازم معالجة تكلفة إعادة بناء أوكرانيا. تشير تقديرات بعض الدراسات إلى أن تكلفة إعادة البناء قد تبلغ نحو 500 مليار دولار، وإن كان هذا الرقم يشمل المناطق التي قد تبقى تحت السيطرة الروسية في المستقبل المنظور. وسوف يعتمد قدر كبير من الأمر أيضا على ما إذا كانت الضمانات الأمنية، واحتمالات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، قد تعزز بيئة مواتية للاستثمار الخاص على نطاق ضخم.

بطبيعة الحال، قد تنشأ مطالب جديدة، وسوف يفرض هذا ضغطا إضافيا على موارد أوروبا المالية. على سبيل المثال، خفّضت عدة حكومات أوروبية بالفعل مساعدات التنمية أو حولت جزءا منها لدعم أوكرانيا. ورغم أن هذا قد يكون ردا ضروريا في الأمد القريب على الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن عواقبه في الأمد البعيد تظل غير واضحة. في الوقت الراهن، تلبي النرويج والسويد والدنمارك فقط هدف الأمم المتحدة المتمثل في تخصيص 0.7% من الدخل الوطني الإجمالي لمساعدات التنمية. وبعد التخفيضات الكبيرة التي أجرتها إدارة ترامب على المساعدات الخارجية وإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، تنشأ حجة قوية لصالح تركيز أوروبا على شغل هذا الفراغ. فالعالم الأكثر يأسا سيكون أشد تقلبا وأقل أمنا، وهذا كفيل بجعل التنمية ضرورة استراتيجية وأخلاقية في آن واحد.

لن يكون الوفاء بكل هذه الالتزامات سهلا، وخاصة بالنسبة للحكومات التي تعاني بالفعل من ارتفاع العجز وارتفاع الدين العام. وتخميني أن دول شمال أوروبا ستصل إلى هدف الإنفاق الدفاعي وفقا لحلف الناتو بنسبة 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2035، في حين ستفشل دول جنوب أوروبا -باستثناء اليونان- في الأرجح في تحقيقه.

مع توجه كل من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الانتخابات بحلول عام 2027، من المرجح أن تظل الشهية السياسية لخفض الإنفاق اللازم لزيادة ميزانيات الدفاع محدودة. يتضح هذا الاتجاه بالفعل في توزيع المساعدات لأوكرانيا. في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، ساهمت دول الشمال الأوروبي بمبلغ 6.8 مليار دولار، وقدمت المملكة المتحدة 5.3 مليار دولار، وقدمت ألمانيا نحو 760 مليون دولار، بينما لم تقدم إسبانيا وإيطاليا سوى جزء بسيط من هذه المبالغ. من عجيب المفارقات هنا أن بلدان الاتحاد الأوروبي التي توصف غالبا بأنها «مقتصدة» هي ذاتها الراغبة بالفعل في تقديم التمويل اللازم لتعزيز أولويات الاتحاد المتفق عليها.

من ناحية أخرى، تفضّل الدول الأقل اقتصادا الدعوة إلى مزيد من الاقتراض، حتى برغم أن المجال المتاح لها للقيام بذلك بنفسها محدود. هذه التوترات تحرك الآن المعركة المحتدمة حول موارد أوروبا المالية. والتناقض صارخ بين موافقة الناتو السريعة على تعهدات الإنفاق الضخمة، وجدال الاتحاد الأوروبي حول مبالغ أصغر كثيرا. مهما كانت النتيجة، فإن المعركة المالية القادمة ستختبر مدى قدرة قادة أوروبا واستعدادهم لمواجهة التحديات الأمنية الخطيرة المقبلة.

مقالات مشابهة

  • تركيا تبدأ إمداد سوريا بالغاز الأذربيجاني
  • بدعم من دولة قطر.. بدء تدفق الغاز الطبيعي من أذربيجان إلى سوريا عبر تركيا
  • بدء أول تدفق للغاز الطبيعي من تركيا إلى سوريا
  • في خطوة تاريخية.. بدء ضخ الغاز من تركيا إلى سوريا لأول مرة بدعم أذربيجاني وقطري
  • أذربيجان تبدأ ضخ الغاز الطبيعي إلى سوريا عبر تركيا
  • مراسل سانا: افتتاح خط النقل الإقليمي للغاز الذي يربط سوريا بتركيا بحضور وزير الطاقة السوري المهندس محمد البشير ووزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار ووزير الاقتصاد الأذربيجاني ميكائيل جباروف وممثلين عن صندوق قطر للتنمية
  • تركيا تبدأ ضخ مليارات الأمتار المكعبة من الغاز إلى سوريا
  • عِبر تركيا.. بدء تصدير الغاز من أذربيجان إلى سوريا
  • صراع المال الذي سيشكل مستقبل أوروبا
  • القائم بأعمال سفارة جمهورية أذربيجان بدمشق ألنور شاه حسينوف لـ سانا: تدفق الغاز الطبيعي الأذربيجاني إلى سوريا عبر تركيا، المزمع في الثاني من آب 2025، يمثل حدثاً تاريخياً ينتظره الشعبان الصديقان ويجسد عمق علاقات التعاون المشترك بين البلدين