البحث عن الغزالي مثقف القرن الخامس
تاريخ النشر: 2nd, August 2025 GMT
إيهاب الملاح
(1)
ظاهرة عجيبة تستلفت الباحث والناظر في تاريخ الثقافة الإسلامية والعربية، والفكر الإسلامي عموما، وهي ارتباط محطاته الفصلية ولحظات تحوله الأساسية بشخصيات رجال دين (باستثناءات محدودة) وأقصد هنا برجل الدين الذي كان إسهامه الأساس ومنجزه الأكبر مرتبطا بالإنتاج المعرفي في علوم الدين ومجالاتها المعروفة؛ نجد هذا الأمر عند الأئمة الأربعة؛ الإمام أبو حنيفة، الإمام الشافعي، الإمام مالك، الإمام أحمد بن حنبل، وسنجد الأمر ذاته لدى أئمة الشيعة وغيرهم من مذاهب وفرق المسلمين.
في كل قرن هجري، وبخاصة الخمسة الأولى، سنتوقف عند شخصية أو أكثر تجسد فيها ومن خلال أشكال وإشكال الفكر الإسلامي والعربي في تصوراته الكامنة والعميقة وآليات اشتغاله وتأثيرها في ذهنية الأغلبية وتوجيه سلوكهم ومواقفهم وتناقضاتهم أيضا.
في القرن الخامس الهجري، يبرز اسم الإمام أبي حامد الغزالي الملقب بحجة الإسلام باعتباره الشخصية الفكرية الأبرز والأهم والأكثر تأثيرا فيما جرى من مجريات الفكر والصراع الفكري والاتجاهات الفكرية والنظرية والسلوك الديني لقرون تالية وحتى وقتنا هذا!
(2)
بحسب دارسين ثقات لفكره وفلسفته وتأثيره، يُبجّل الغزالي اليوم من قِبل ملايين المسلمين بوصفه في طليعة المفكرين الدينيين في عصره. فتأثيره في التقليد الإسلامي العلمي مماثل لتأثير الأكويني في التقليد المسيحي، وتأثير موسى بن ميمون في التقليد اليهودي. وكثير من أعماله، ولا سيما كتابه "إحياء علوم الدين"، لا تزال تُقرأ في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية حول العالم سواء أكان ذلك بلغتها العربية الأصلية أو بعدد لا يحصى من اللغات المحلية التي تُرجمت إليها. لكنْ، في السنوات الأخيرة، كان الغزالي بارزًا أيضًا في دوائر أخرى، ولأسبابٍ أخرى.
ومن غير المفاجئ، بحسب فرانك جريفل، أن كثيرًا من المسلمين اعتنقوا أيضًا هذه الآراء حول الغزالي. فالمسلمون المتحررون "العقلانيون" يعتبرونه مسؤولًا عن موت الفلسفة والعلوم الطبيعية في العالم الإسلامي، ويُنظر إليه على أنه يجسّد كل ما هو خاطئ في الإسلام التقليدي.
بالمقابل، يرى المحافظون في دحضه المزعوم للفلسفة سببًا وجيهًا لكبح التفكير الفلسفي في المجتمعات الإسلامية. لكن، ماذا لو كان الغزالي نفسه فيلسوفًا؟ وكان يُعَدّ هكذا من قبل تلامذته المباشرين؟ ماذا لو أن أعماله لم تدمر التفكير الفلسفي في الإسلام بل ولّدت أنواعًا جديدة منه؟
عديد الكتب بالعربية واللغات الأجنبية حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة؛ كان آخرها هذا الكتاب الضخم الصادر عن دار المعارف بالقاهرة (يقع في 410 صفحات من القطع الكبير) للباحثة والأكاديمية والروائية المعروفة ريم بسيوني؛ بعنوان "برفقة أبي حامد الغزالي - إصلاح القلب"..
(3)
وُلد في طوس بخراسان، ودرس علم الكلام في نيسابور على إمام الحرمين الجويني وهو أحد أئمة أصول الفقه المبرزين، ثم قدِم على مجلس نظام الملك وزير السلطان السلجوقي، وظل فيه حتى أُسند إليه منصب التدريس في بغداد.
خلال هذه الفترة أخذت الشكوك تستبد به، فأقبل على دراسة "الفلسفة" والمنطق لعلها تخرجه من شكوكه. وقد درس كتب الفلاسفة، ولا سيما الفارابي وابن سينا، ثم ألَّف كتاب مقاصد الفلاسفة (أو معيار العلم) يلخِّص فيه مسائل الفلسفة غير متعرض لنقدها، مُرجئًا ذلك إلى كتب تالية، كان أهمها وأخطرها وأبعدها أثرا وتأثيرا "تهافت الفلاسفة" الذي يعد أقسى هجوم على الفلسفة، حتى لقد تصور الناس زمنًا طويلًا أنه قضى عليها نهائيًّا أو اضطرها لاتخاذ موقف الدفاع عن نفسها.
ولم يلبث بعد تأليفه هذا الكتاب طويلًا في منصب التدريس ببغداد، فانقطع عنه، عاودته الشكوك، وبعد تردد طويل بين نوازع الدنيا ودواعي الآخرة هتف به هاتف باطني فاعتزل العالم وخلا إلى نفسه يروِّضها استعدادًا لما هو مقبل عليه (راجع المنقذ من الضلال!).
وانتهى به الأمر إلى مغادرة بغداد كلها حيث لبث عشر سنين متنقلًا، ينصرف إلى العبادة والتأليف. وأغلب الظن أن أكبر كتبه وهو "إحياء علوم الدين" قد أُلِّف في الشطر الأول من هذه الفترة. ذهبت به الأسفار إلى دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة، ثم رجع إلى وطنه حيث استأنف مهنة التدريس زمنًا وجيزًا في نيسابور، حتى وافته منيته في مسقط رأسه طوس.
استعرض الغزالي مختلف التيارات في ثقافة عصره فوجد أربعة اتجاهات تتمثل في جماعات أربع هي جماعة المتكلمين الذين يؤدون مهمة المدافع عن العقيدة، ولكنهم يبنون دفاعهم على أساس التسليم أولًا بالوحي المُنزَّل، وهو دفاع أن أقنع المؤمن فهو لا يقنع غير المؤمن، وجماعة الباطنية الذين يزعمون أنهم يقتبسون علمهم من الإمام المعصوم، فكل ما يعرضونه مستند إلى النقل عن معلمهم لا إلى حجة مقنعة، وأما الفلاسفة، فعلى الرغم مما لهم من فضل في تثقيف الناس بعلوم برهانية لا سبيل إلى الشك فيها كالرياضيات والفلك والطبيعيات في بعض جوانبها التي لا تخالف الدين، إلا أنهم قد يتعرضون في سائر بحوثهم للتناقض وفساد الرأي (ومن أهم المسائل التي عُني الغزالي بإبطال رأي الفلاسفة فيها ثلاث: نظرية قِدم العالم، والقول إن الله يعلم الكليات وحدها دون الجزئيات، وإنكار بعث الأجساد على أساس قولهم إن الأرواح وحدها هي التي لا يجوز عليها الفناء) ثم جماعة المتصوفة الذين لا يجدون في الأقيسة العقلية أداة صالحة لمعرفة الحق، بل الأداة الصالحة عندهم هي الحدس أو الذوق الباطني ومن ثم فقد أخذ بنظرتهم دون
الجماعات الثلاث الأخرى.
(4)
كانت هذه إطلالة سريعة غاية في الإيجاز عن سيرة الإمام أبي حامد الغزالي؛ وإن كانت شخصية الغزالي وسيرته الذاتية ومحاولات تدوين سيرته الفكرية والروحية وتحولاتهما أيضا قد حظيت بعناية المعاصرين (منذ الربع الأول من القرن العشرين وحتى وقتنا هذا)؛ عناية فائقة كل من منظوره ووفق رؤيته، فمنهم من درسه في إطار الفلسفة وتاريخ الفلسفة الإسلامية والصراع بين الفقهاء والفلاسفة، ومنهم من درسه صوفيا روحانيا، ومنهم من درسه متكلما مجادلا، ومنهم من وقف عند إنتاجه النقلي السني في الفقه وأصوله والدفاع عن السنة.. إلخ.
ولدينا في هذه الدائرة عشرات الكتب المهمة (راجع على سبيل المثال: مؤلفات الغزالي للدكتور عبد الرحمن بدوي، و"دراسات في
مذاهب فلاسفة المشرق" للدكتور محمد عاطف العراقي، وكذلك انظر تحقيقات الدكتور سليمان دنيا القيمة لنصوص الغزالي، فضلا عن مؤلفاته عنه ككتابه الممتاز "الحقيقة في نظر الغزالي"، بالإضافة إلى كتابات الدكتور عبدالحليم محمود وطه عبدالباقي سرور، وغير ذلك الكثير).
(5)
ويأتي كتاب ريم بسيوني الصادر أخيرًا، لينضم إلى هذه الجوقة الضخمة من الكتابات والمؤلفات عند أبرز شخصية في الفكر الإسلامي في القرن الخامس الهجري، وتصحبها في رحلة ممتعة تتحرر فيها من الآراء المسبقة والتصورات المعلبة، وتذهب مباشرة لاستكشاف "الغزالي" في تجلياته النصية، ومكابداته الروحية، وعذاباته المعرفية، لتسجل نتاج هذه الرفقة في هذا الكتاب الذي يقع في 410 صفحات من القطع الكبير؛ لكنه ورغم ذلك فإنه يقرأ في سياق سردي متصل، متتابع الوحدات، منتظم الفصول والتبويب والترتيب، وتعيد من خلال هذه الرحلة المنضبطة "موضعة" القضايا والإشكالات الكبرى التي شغلت دارسي الغزالي وخصومه على السواء، وتقدم قراءتها واستبصاراتها بفكر الغزالي ومراحله وتحولاته ظاهرا وباطنا في هذا الكتاب الذي تقول عنه في مقدمتها له: "هذا الكتاب رحلة داخل أنحاء القلب لمحاولة إصلاحه حتى يضيء، ولا يظلم حتى يعرف، ولا يجهل حتى يحيا ولا يموت. برفقة أبي حامد الغزالي سنعرف أنفسنا أكثر ونعرف آفات القلوب ومرضها وطرق علاجها. الغزالي رحيم معنا يحكي عن نفسه،
فيشجعنا على النهوض كما نهض. يضعف أمامنا كإنسان فندرك أن معارج الحقيقة ليست مستحيلة على من طهر قلبه، وحافظ عليه. تعال معي برفقة أبي حامد الغزالي.. وما أجملها من صحبة".
(وللحديث بقية)
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الکتاب
إقرأ أيضاً:
هل يجوز الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في الصلاة؟.. الإفتاء تجيب
ورد الى دار الإفتاء المصرية سؤالا يقول صاحبه هل يجوز الاستعاذة قبل قراءة الفاتحة في الصلاة؟
وأجابت الإفتاء عن السؤال قائلة: إن الاستعاذة: هي اللجوء والاعتصام بالله عزَّ وجلَّ، يقال: عاذ فلان بربه يعوذ عوذًا؛ إذا لجأ إليه واعتصم به، وعاذ وتعوَّذ واستعاذ بمعنى واحد. ينظر: "تهذيب اللغة" للإمام محمد الهروي (3/ 93، ط. دار إحياء التراث العربي).
ونوهت أن مقصود الاستعاذة قبل قراءة القرآن: هي نفي وساوس الشيطان عند القراءة. ينظر: "تفسير الرازي" (1/ 67، ط. دار إحياء التراث العربي).
حكم الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة
وأوضحت أن الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة سُنَّة من سنن الصلاة مطلقًا، سواء كانت صلاة فريضة أم نافلة، على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ من الحنفية والشافعية والحنابلة في المذهب؛ مستدلين على ذلك بعموم قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98].
ولما رُوِي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح الصلاة قال: «اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، والْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثم قال: أَعُوذُ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
وما ورد عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قام يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيْطَانِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ» رواه عبد الرزاق في "المصنف" واللفظ له، وأحمد في "المسند".
قال الإمام أبو البركات النسفي الحنفي في "كنز الدقائق" (ص: 160، ط. دار البشائر الإسلامية) عند عدِّه سنن الصلاة: [وسننها: رفع اليدين للتحريمة، ونشر أصابعه، وجهر الإمام بالتكبير، والثناء، والتَّعوذ] هـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (3/ 325، ط. دار الفكر): [قال الشافعي والأصحاب: يستحب التَّعوذ في كل صلاة، فريضة أو نافلة أو منذورة، لكلِّ مصلٍّ من إمام ومأموم ومنفرد ورجل وامرأة وصبي وحاضر ومسافر وقائم وقاعد ومحارب، إلَّا المسبوق الذي يخاف فوت بعض الفاتحة لو اشتغل به] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (1/ 343، ط. مكتبة القاهرة): [الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة سُنَّة، وبذلك قال الحسن، وابن سيرين، وعطاء، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي] اهـ.
وفي رواية عن الإمام أحمد أنَّه واجب؛ قال الإمام المرداوي الحنبلي في "الإنصاف" (2/ 119، ط. دار إحياء التراث العربي): [(وسنن الأقوال اثنا عشر: الاستفتاح، والتعوذ).. وعنه أنهما واجبان، اختاره ابن بطة، وعنه: التعوذ وحده واجب، وعنه: يجب التعوذ في كلِّ ركعةٍ] اهـ.
وقال عطاء بالوجوب أيضًا؛ بناء على ظاهر الأمر الوارد في الآيات. ينظر: "البناية" للإمام بدر الدين العيني (2/ 188، ط. دار الكتب العلمية).
مذهب المالكية في المسألة
بينما ذهب السادة المالكية إلى كراهة التعوذ قبل القراءة في الصلاة المكتوبة، وإلى جوازها في النافلة على قولين، وعلى تفصيلٍ في محلها: قبل الفاتحة أو بعد الفراغ منها، وإلى أن تركها أولى إلا أن يُراعي المصلي الخلاف فيها.
قال الإمام الدرير المالكي في "الشرح الصغير" (1/ 337، ط. دار المعارف، ومعه "حاشية العلامة الصاوي"): [(وكره تعوذ وبسملة) قبل الفاتحة والسورة (بفرض) أصلي، وجازا بنفل ولو منذورًا، وتركهما أولى ما لم يراع الخلاف] اهـ.
قال العلامة الصاوي مُحشيًّا عليه: [قوله: (تعوذ وبسملة قبل الفاتحة) إلخ: ظاهره وأسرَّ أو جهر، وهو ظاهر "المدونة" أيضًا.. وقوله: (ما لم يراع الخلاف): أي من غير ملاحظة كونها فرضًا أو نفلًا؛ لأنَّه إن قصد الفرضية كان آتيًا بمكروه كما علمت، ولو قصد النفلية لم تصح عند الشافعي فلا يقال له حينئذٍ مراع للخلاف] اهـ.
وقال الإمام الرهوني في "حاشيته على شرح الزرقاني" (1/ 424، ط. المطبعة الأميرية): [ولا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام رمضان.. وفي محله قبل الفاتحة أو بعد الفراغ منها قولان: ظاهر "المدونة" التقديم وجواز الجهر، وفي "العتبية" كراهة الجهر؛ لأنها ليست من الفاتحة بإجماع.. وفي "الذخيرة" عن "الطراز" اختلف قول مالك في التعوذ قبل الفاتحة في النافلة، فأجازه في "الكتاب" وكرهه في "العتبية"] اهـ.