قدرة الافصاح
قصة قصيرة
حسن الجزولي
لشهداء ثورة ديسمبر المجيدة
(1)
نشأت وسط أسرتها وأقرانها مختلفة نوعاً، حيث ولدت بكماء لا تستطع التعبير عن مكنون ما يجيش بها من خواطر وانفعالات، يعوزها النطق كالأسوياء حولها، وكان ذلك يسبب ضيقاً وكدراً لها، هي مشيئة السماء كانت تقول لنفسها وما عليها إلا أن ترضى بما قسمه خالقها لها ضمن أقسامه لعباده.
كانت حليمة تبلغ الخامسة عشر من عمرها وكانت تجلس في مجالس الأحاديث والكلام تستمع دون أن تقوى على المشاركة في الكلام، وكان ذلك يسبب لها ضيقاً وكدراً لا تلبث أن تتقبله كمشيئة من السماء ـ حسب مواساة أمها لها وقد رحلت وهي بعد طفلة وتركتها لمشيئتها، فنشأت حليمة البريئة وهي في مواساة لروحها الصغيرة تذكر دوماً مواساة أمها الراحلة لها.
تظل حليمة تجتهد في دروسها وتجتهد في زيها لتبدو أنيقة وتجتهد في تصفيف شعرها الغزير ليبدو أكثر جمالاً، وتجتهد في توزيع الابتسامات من ثغرها المشرق دقيق الملامح تعويضاً عن غياب النطق وبأعين براقة في بؤبؤهما لمعان وذكاء متقد. .
كانت طيبة القلب بإشراق وسيمة الخطو والرزانة، يحبها الجميع ويحادثونها دون أن يجعلوها تحس باختلافهم عنها، ولذا كانوا لا يطرحون لها الأسئلة إنتظاراً لاجابات يعلمون أنها لن تأتي..
ظلت تفعل ما تفعله قريناتها في المدرسة والحي وساحات اللعب واللهو، تطربها الألحان والموسيقى عندما تراهم ينفعلون من الأنغام، وتجيد تطويع الجسد في باحات الفرح والرقص البديع. كانت جيدة الاستماع للآخرين في ثرثرتهم، وكان أكثر ما يستهويها في غالب بقية يومها عندما لا تجد ما يشغلها عن إعاقتها هو الركون إستماعاً واستمتاعاً بموجتها الخصوصية. كانت حليمة تفعل كلما تفعله قريناتها ويفعله أقرانها، فكان الخروج مع جموعهم للمقاومة في الشوارع والطرقات لمواجهة جند النظام وشراستهم في محاولات تفريق جموعهم هي من بين أنشطتها الأساسية في المشاركة، إلا أن أكثر ما كان يضايقها وهي البكماء هو عدم القدرة على الافصاح والتعبير عن الغضب الكامن في روحها الصغيرة كما أقرانها بالهتاف الداوي بحناجر بليغة الافصاح..
تعود مع جمعهم من ساحات الوغى وباحات المواجهة والعصيان، وهي منتشية بأحاديثهم التي يسترجعون فيها تفاصيل تلك المواجهات بالهتافات البليغة ،، لا بالصراخ ،، بالمطلب النبيل لا بالنباح والعويل، بالجهر بالحقيقة لا بكتمان المآسي دون عزيمة. فتقبع حليمة تتابع سردهم عن ما أبلوا دون رهبة وتردد. وكانت ما أن تختلي بنفسها في الليالي وهي على مرقدها الصغير تضغط بفمها على الوسادة لتودعها صرخة كتومة تعبر بها عن عدم القدرة على مجاراة الأقران في الصراخ والصياح والهتاف في وجوه الجند الغلاظ..
ظل أمر المواكب والهتافات ومواجهات الشوارع والطرقات يتتتالى فتحمله الريح للكون الفسيح وتغطي مساحات الصحف ونشرات الأخبار وشاشات العالم البلورية تفاصيله بدهشة وإعجاب..
حتى حلً يوم أن انعتق لسانها من صمته وأفصح بأبلغ العبارت. كان ذلك في أحدى نوبات المواجهات على الشوارع والطرقات ،، كان الكر والفر على أشده وكان رصاص الجند الغلاظ ينهمر بلا واعز من محاذير، وكان الاندفاع نحو مكان انطلاقه من عدة محاور للصبية والصبايا ومن كل فج عميق. كانت المواجهات على أشدها وكان الدخان يرتفع فوق السماء وكان الهتاف يعلو فوق الرؤوس كالهالات على رؤوس القديسين في كرهم وفرهم وعلى مشاريع شهدائهم. وحليمة كانت في المنتصف ،، تحمل حجارة في يدها وبقايا تمتمات وهمهمات غير مفهومة على فمها، ولكنها بدت غاضبة محتجة وشاجبة ما يجري أمامها والدماء تنهمر من الأجساد الطرية بينما الرصاص يلعلع والدخان يتكاثف والأنفاس تختنق،.
في لحظة غضب تندفع حليمة بأقصى ما عندها من غضب حليم وشجاعة نادرة نحو الوغى الذي حمي وطيسه فتتوغل في ساحته وتكون عند منتصفه، يقول أقرانها أنهم شاهدوها وهي تحمل سجيل حجارتها على يدها اليمنى وبأخرى تكور قبضتها عالياً وهي تتمتم بهمهمات يعوزها النطق السليم في مخارج الحروف.
وما هي سوى فترة بسيطة حتى تنضم إلى الصفوف الأمامية للثوار الذين يلتحمون هم الآخرين بالجند الغلاظ، تتقدم حليمة وقد زادت وتائر غضبها النبيل مما يجري، ثم فجأءة وبلا مقدمات تندفع حليمة نحو الرصاص المنهمر لتجد نفسها في قبضة الجند الغلاظ بعد أن اخترقت رصاصة ساعدها الأيمن والحقوها بأخرى على فخذها الأيسر ولا تزال حليمة تندفع بحمولات غضبها النبيل نحوهم وهي تصرخ بهمهمات وتمتمات غير مفهومة على فمها، وفي لحظة الاندفاع والتوغل وسط الجند الغلاظ، يشاهد أقرانها من على البعد جسدها المنتفض يهوى على الأرض وتغيب حليمة عندها عن الوعي.
(2)
ببطء تفتح حليمة أعينها وتحدق بحذر يمنى ويسرى، فتجد ابنة الخمسة عشر ربيعاً نفسها مقيدة الأيدي والأرجل بينما غلاظ الجند يلتفون حولها بأعين تقدح شرراً وبعضهم يبحلق وكأنه أمام مخلوق أتى من الفضاء، ثم لتبدأ حفلة الشواء.
(3)
بينما كانت الآلة الحادة تنتزعه من اللحم الطري، كان الظفر ينسل منفصلاً عن سبابة يدها ومخاض الدم يحل مكانه، فتصرخ حليمة بدموع منهمرة وفمها لا يقوى على التعبير، فيستمر الغلاظ في حفلة الشواء، يأتون بآلة الصقع فينتفض جسد الصغيرة الغض من لسعة الكهرباء ثم ينكمش، والفم الدقيق لا يحرك اللسان سوى بالصراخ الذي يخرج.
(4)
إجتهدوا لينتزعوا منها إعترافاً لتسجيله، فاعتقدوا أنها تتمنع وتتحداهم بعدم النطق، وما دروا أن الصبية بكماء لا تستطيع النطق أو الحديث فواصلو فيها حفلة الشواء بغضب. يتم ذلك قبل أن يصل لرئيس جوقة التعذيب تقريراً مفصلاً عن سيرة الصبية، من تكون وما أهلها وما مدرستها وماعنوانها ،، وبأنها ولدت بكماء لا تنطق منذ ولادتها.
(5)
فجأة ،، ومع الدماء المنبجسة من الأظافر ذات اللحم الطري والجسد قد أنهكه الصقع والأعين قد امتلأت بالدموع المبللة بقطرات الدم وبينما أنفها الشامخ يبحث عن جرعة من هواء نقي بديلاً عن الروائح النتنة التي انتشرت في المكان، فجأة ،، وبينما الروح الصغيرة قاربت على الطلوع، فجأة ،، وبعد أن أعياها الصبر على مكاره التعذيب البشع ، فجأة ،، تكور كل هذا الغضب النبيل في فمها ذو التقاطيع الدقيقة، فألفت نفسها ترتب داخله أحرفاً بألبلغ ما في الوجود من تعبير، لتخرج كلماتها كالرصاص ـ وهي البكماء طول العمرـ لتفصح عن مكنون أحاسيسها وهي في النزع الأخير من حياتها الصغيرة، ليتحرك فصيح اللسان وهو يحمل هتافاً جميلاً نبيلاً صادقاً وعزيزاً ظل مكبوتاً على صدرها الصغير طيلة سنوات عمرها النضر، صارخاً بعلو شأن بلادها الحزينة،، يتم ذلك من البكماء التي نطقت آخيراً، بينما روحها الصغيرة تنفصل رويداً عن الجسد فترتفع لأعالي الجنان.
(6)
لحظتها تبادل الجند الغلاظ النظرات المبهمة بين بعضهم ليبطلوا ألات التعذيب ويطفئوا الأنوار الكاشفة قبل أن ينسلوا خارجين واحدهم خلف الآخر عن غرفة التعذيب.
(إنتهت)
* كتابة أولى 2023.
* كتابة ثانية 2024.
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
برلماني: الرئيس السيسي يقود ثورة زراعية ويحول الدعم إلى أدوات إنتاج لا استهلاك
أشاد النائب سيد سمير، عضو اللجنة العامة بمجلس النواب، بتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال فعاليات موسم حصاد القمح 2025، مؤكدًا أن حديث الرئيس يمثل خريطة طريق جديدة لتنمية الزراعة المصرية وتحقيق الأمن الغذائي، ويعكس تحولًا عميقًا في فلسفة الدولة تجاه مفهوم الدعم والإنتاج.
وقال النائب، في بيان له، إن الرئيس السيسي لم يتحدث فقط عن محصول قمح أو موسم زراعي، بل تحدث كرجل دولة يُعيد صياغة مستقبل مصر الزراعي والاقتصادي بأكمله، مشيرًا إلى أن مقترحه بشأن استبدال الدعم النقدي لبعض الأسر بدعم إنتاجي في صورة رؤوس ماشية عالية الإنتاجية يعكس عقلية تهدف لبناء مواطن منتج ومستقل اقتصاديًا، لا يعتمد فقط على المساعدات.
وأضاف: "هذا التوجه يؤكد أن القيادة السياسية باتت تؤمن بأن الأمن الاجتماعي الحقيقي لا يأتي فقط من الدعم المالي، بل من تمكين الأسر من أدوات إنتاج تدر دخلاً مستدامًا وتمنحهم كرامة العمل والاعتماد على الذات"، مؤكدًا أن هذه الرؤية ستنعكس إيجابًا على قطاعات اللحوم والألبان، وستقلل من الاعتماد على الاستيراد، بما يدعم الاقتصاد الوطني.
وأكد النائب سيد سمير أن حديث الرئيس عن غياب مصنع وطني لإنتاج لبن الأطفال رغم حجم الاستهلاك الكبير، يُسلّط الضوء على ملفات طال إهمالها، ويُحفز القطاع الخاص على التدخل لسد الفجوة في هذا القطاع الحيوي، بما يحقق الأمن الغذائي والدوائي للأطفال، ويخلق آلاف فرص العمل.
واعتبر سمير أن إشارات الرئيس كانت بمثابة دعوة صريحة لكافة مؤسسات الدولة ورجال المال والأعمال للتحرك من موقع الفعل لا الانتظار، خاصة في ملفات الزراعة والصناعة. وقال: "الرئيس لم يترك تفصيلة إلا وتحدث عنها بعين الخبير الذي يعرف حجم التحدي ودقة المرحلة، وأظن أن حديثه سيكون مرجعًا في السنوات المقبلة لكل من يعمل في مجالات التنمية".
وأكد على أن الرئيس السيسي يقود ثورة زراعية وتنموية بكل ما تعنيه الكلمة، تبدأ من الأرض وتنتهي عند كرامة المواطن، وعلى الجميع أن يكونوا على قدر هذا المشروع الوطني الكبير.