(ما رأيت إلا جميلا) تلك الكلمات التي هزت بها “بطلة كربلاء” زينب عليها السلام، أركان الدولة الأموية في أوج قوتها وظلمها وواجهت بها طغيان “يزيد بن معاوية” في عقر قصره، لم تأت من فراغ.. إنما تدل على عظمة مدرسة الجهاد الأولى التي صنعت أبطال تاريخ الإسلام من أهل البيت عليهم السلام بلا منافس، متمثلة بفاطمة الزهراء عليها السلام، والذي سجل التاريخ لها مواقف عديدة.

. حيث عاشت مع أبيها بيئة الجهاد وشاركته معه ذهابا وإيابا، واضطلعت بهذه المهمة مذ وهي صغيرة، ولما كانت هي الأسوة والقدوة للمرأة المسلمة وهي (سيدة نساء العالمين)، تعمد أعداء الإسلام والمنافقين تغييبها ضمن سياسة التجهيل على مدى التاريخ بهدف إفساد الحياة الاجتماعية للشعوب المسلمة، لتحضر بالنيابة عنها أمثلة الانحراف في عالمنا اليوم متجردة من كل القيم والمبادئ بما يخدم أعداء الرسالة المحمدية ممن جعلوا من المرأة سلعة تم الزج بها في أسواق الرذيلة والتفسخ.

 

يمانيون| أعد المادة للنشر: محسن علي الجمال

ولادتها

ولدت عليها السلام في عام البعثة’ واختصت الزهراء في حال ولادتها بخصوصية إرضاع أمها خديجة لها، وبرعاية رسول الله المنفردة وإعدادها ثم إناطتها بأعمال وأدوار استثنائية أنجزتها في حياة والدها وبعد وفاته، وكانت أم المؤمنين خديجة إذا ولدت ولدا دفعته إلى من يرضعه، فلما وضعت فاطمة الزهراء لم ترضعها امرأة غيرها.

 

والدتها جدة آل البيت الكبرى (خديجة)

تنتمي الزهراء عليها السلام لمكة مكانا، أمها خديجة بنت خويلد من عقيلات قريش المبرزات، وأعظمهن شرفا، أكرمها الله تعالى بأن جعل من نسلها فاطمة الزهراء التي حفظ الله في نسلها ذرية الحبيب المصطفى، لذا فهي جدة آل البيت الكبرى وأمهم الأولى، توفيت في السنة العاشرة من البعثة بعد أن عاشت مع رسول الله صلى الله عليه وآله حوالي ربع قرن كانت له فيها الزوجة الحبيبة والسند القوي والظهير الرائع.

صنعاء تدعو الأمة للعمل على رفع يد السعودية عن المقدسات بعد منعها الحج للعام الثاني

 

نشأتها

قدمت فاطمة إلى هذه الدنيا مع قدوم الإسلام وبزوغ فجره، الذي دفن ثقافة براثن الجاهلية وكل مآثرها ونظرته للمرأة باعتبارها عارا وهونا، وجريمة وعارا، فنشأت على يد أمها خديجة وأبيها محمد، وترعرعت في كنف أبوين طاهرين، تحفها تعاليم جبريل عليه السلام، وتحط فيه آيات التنزيل، ورسول الله يعوذها وذريها من الشيطان الرجيم.

كما نشأت في بيت ربته تاجرة ذكية وعاقلة حصيفة، ورئيس هذا البيت قد كلف بمهمة عظيمة وجليلة ومقدسة وهي أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، تعلمت وهي في بيئتها الأولى: القراءة والكتابة والحساب والمعارف الأولية، وفي دور أبويها تعلمت ما لم تتعلمه طفلة غيرها في مكة.

 

جهادها صغيرة

في غضون ظروف الإسلام الأولى في مكة’ رأت أباها كل يوم يحمل على عاتقه مسؤولية تبليغ الإسلام بإصرار عجيب، فتعلمت منه قوته في ذلك، وإصراره وأنسه بالله’ واستشعرت معية الله، وذاقت معه طعم الألم في سبيل الله، فكانت حريصة على نصرة أبيها.

 

أسماؤها وألقابها

لفاطمة 8 أسماء كما روي عن الصادق عليه السلام وهي (الصديقة، الزهراء، الطاهرة، الزكية، الرضية، المرضية، البتول، فاطمة) ولكل من هذه الأسماء والألقاب دلالات خاصة تشير إلى أوصافها العظيمة، منها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال (إنما سميت ابنتي فاطمة، لأن الله تعالى فطمها وفطم من أحبها من النار) , وكانت تسميتها من الله أوحى به إلى نبيه.

 

وصفها الخلقي

شاء الله أن تكون هذه الأنثى امتداد أبيها، وتحمل في جيناتها أعلام الهدى الذين يخلفون رسول الله في أمته قائمين بالحق، ولهذا منحها الله خصوصية استثنائية أخرى، ألا وهي شبهها القوي برسول الله حتى في مشيتها, ويمكن استيحاء شخصيتها الجسمانية والخلقانية من صفات والدها الرسول الأنور وصاحب الجبين الأزهر.

 

فاطمة في القرآن

تحدث القرآن الكريم عن الزهراء باعتبارها من أهل بيت نبيها المصطفى وذوي قرباه ونسائه ومن الأبرار الزاكين ومنها قول الله:

-آية التطهير (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)

-آية المباهلة (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)

– (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)

– (إنا أعطيناك الكوثر)

– (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا…)

فاطمة في كلمات الرسول وتعاملاته

-عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: قال رسول الله لفاطمة (إن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)

-قال رسول الله (فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)

-قال رسول الله (أفضل نساء أهل الجنة، وخير نساء العالمين أربع: , خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم)

– قوله صلوات الله عليه وآله (فاطمة حوراء إنسية، كلما اشتقت إلى الجنة قبلتها)

-قوله صلوات الله عليه وآله (كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما)

-كما أن رسول الله بتعاملات مميزة وكثيرة منها:

– أنه كان إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها، ورحب بها كما كانت تصنع به

-إذا سافر رسول الله يجعلها آخر الناس عهدا به، وإذا قدم قدم إلى بيتها أولا

– كان إذا بكت يمسح الدموع من عينها بطرف ثوبه واستمر على ذلك حتى مرضه الأخير

-كانت تضع خدها على خده، وإذا دعاها أجلسها بالقرب منه وأسر إليها دون من سواها،

-أمر رسول الله بسد أبواب بيوت الصحابة المشرعة إلى مسجده إلا باب على وفاطمة

-زوجها وصيه وخليفته من بعده من وصفه بقوله (سيد في الدنيا والآخرة)

– كناها بأم أبيها، وتولى الله أمر زواجها حيث كان بأمر منه سبحانه، وانقطع نسل رسول الله إلا منها،

 

علمها

كانت الزهراء عليها السلام تحمل علما جما ’ إذا أنها كانت تغرف من بحر مدينة العلم, فاستوعبت القرآن بشكل عميق, ووعت سنة أبيها وسيرته فكانت فقيهة عالمة, فامتلكت قدرة فائقة على التعامل مع مصادر التشريع , وكانت تتميز بقدرة أسلوبها الخطابي الذي يشبه إلى حد كبير أسلوب زوجها الإمام علي في نهج البلاغة, ولعل خطبتها البليغة العصماء “الشقشقية” التي أنكرت فيها على أبي بكر استيلاءه على املاكها في فدك ومواجهتها له والتي ابتدأتها(الحمد لله على ما أنعم, وله الشكر بما ألهم , الممتنع عن الأبصار رؤيته, ومن الألسن صفته’ ومن الأوهام الإحاطة به) وكذلك نكرانها على المسلمين تخاذلهم عن نصرة ابن عمها وزوجها في تضييع مبدأ ولايته, خير دليل وأنصع برهان,  كما أنها أيضا كانت تمتلك مهارات تربوية , كما بلغ من حصافتها وحنكتها السياسية والاجتماعية أنها صارت مستشارة الإمام علي حين بويع أبو بكر, وفكرها الإبداعي حيث تعد أول من استحدث النعش للجنائز في الإسلام.

 

من مروياتها الحديثية

-روى عنها ولدها شهيد الكربلاء الإمام الحسين عليه السلام أنها قالت ” خرج رسول الله صلى الله عليه وآله عشية عرفة فقال: (إن الله باهى بكم، وغفر لكم عامة، ولعلي خاصة، وإني رسول الله إليكم غير محاب لقرابتي فقال: إن السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد مماته).

– روت رضوان الله عليها عن أبيها أنه قال (يحفظ المرء في ولده)

-وقولها عن رسول الله (ألا لا يلومن امرؤ إلا نفسه، يبت وفي يده ريخ غمر) وغيرها من الأحاديث الكثيرة.

 

جهادها

كان الجهاد يحتل مكانة مقدسة في وعي فاطمة، فكانت سلام الله عليها على علاقة خاصة بوالدها، وهي بضعة منه في كل شيء حتى في جهاده، ورغم صغر سنها , غير أن التاريخ سجل لها مواقف رائدة، منها:

-أن هذه الفتاة في عمر السادسة عشرة أنه: لما جرح رسول الله في معركة أحد، وظل جرحه ينزف، استطاعت أن توقف ذلك النزيف بفضل خبرتها الجراحية.

-عند فتح مكة خرجت مع أبيها وزوجها حيث تحكي السير أنه قد ضرب للنبي خباء بالبطحاء وجلس فيه يغتسل، وكانت فاطمة معه تستره، وامرها فسكبت له غسلا فاغتسل.

– هروعها مع أخريات من المدينة بعد معركة أحد لمعالجة الجرحى فعالجت النبي المصطفى، وحملها للطعام والشراب على ظهورهن للمجاهدين.

_إقبالهم على أبيها بأقراص الخبز إذا جاع كما فعلت في يوم الخندق.

– لما استشهد عم أبيها حمزة بكت، وتحركت في أنشطة عملية لتخليد ذكرى الشهداء وتقديس قضاياهم، وتأتي لزيارة قبور الشهداء غداة كل سبت.

 

زواجها من علي ووليمة عرسها

بعد تجاوز عمرها الخمسة عشر سنة, حيث تم ذلك بتوجيهات من الله كما روي عن رسوله أنه قال ( إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي ) عليهما السلام’, بعد أن تقدم لخطبتها أمير المؤمنين وآذنها أبيها, وبصداق خمس مئة درهم’ وزفت إلى منزل كان فرشه جلد كبش, وأرضه رمل من بطحاء الروحاء, ووسادة من أدم جلد, وقربة من جلد للشرب، وأما وليمة العرس الذي أقامه الإمام علي فكان : آصا من شعير، وتمر، وحيس، وكبش، فبارك لهما النبي وقال ( جمع الله شملكما وأسعد جدكما وأخرج منكما كثيرا طيبا).

 

الزوجية المثلى

ضربت فاطمة عليها السلام في بيت زوجها الأمثلة العالية للزوجة المثالية في الطاعة وحسن العشرة، معينة له في طاعة الله، تؤثره على نفسها، ولذا فقد وصفها سيد الوصيين بقوله (والله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرا، ولقد كنت أنظر إليها، فتكشف عني الهموم والأحزان)، ولقد كانت أيضا تطحن وتعجن وتستقي وتخبز وتربي الأولاد وتغزل الملابس وتسعد زوجها وتكرم ضيفها وتتفقد أباها وتصلح أمره وتقوم بأدوارها الجهادية والاجتماعية والتعليمية بأفضل ما يمكن.

 

تربية الأولاد

لقد أنشأت فاطمة بطريقتها التربوية أعلى مدرسة مثالية تخرج منها الحسنان وزينب العقيلة عليهما السلام, وكانت تحرص على اصحابهم إلى محراب عبادتها وتعلمهم أنواع التبتل والتهجد، وكذلك خطب رسول الله, وهما لم يبلغا الخامسة من أعمارهما، وأما أولادها فهم (الحسن, الحسين, زينب, ام كلثوم, المحسن).

 

دورها الاجتماعي والسياسي

كان للزهراء عليها السلام دور رائد في الدفاع عن قضايا الإسلام الكبرى, وتحرك جاد في الجانب الاجتماعي بين نساء المدينة المنورة، وفي مواجهة أول انحراف في الإسلام بما يخص الجانب السياسي، حيث صرخت بقوة في وجه السلطة الجديدة التي انحرفت بمسار الحكم عمن اختاره الله وأعلن ولايته رسول الله في أكثر من موقف، ولم تكتف بذلك بل دارت في بيوت الأنصار تحرضهم على الثورة في نصرة الحق واتخاذ الموقف الصحيح، وخطبتها في مسجد رسو الله بشأن الإمامة وفدك تسمى بالخطبة الكبرى.

 

وفاتها

بعد ان اتخذت المواقف القوية ضد السلطة الجديدة، هاجمها المرض, وكان قد أخبرها رسول الله بأنها أول اللاحقين به من أهل بيته، إذ أنها كانت قد عافت الدنيا،لموت أبيها، ثم لحصول الانحراف الخطير في حق الإسلام، ولحقت برسول الله بعد ستة أشهر، وأوصت أن تدفن سرا ودفنت بالبقيع بالمدينة المنورة عن 23 سنة., حيث دفن سبطها الحسن عليه السلام وآخرون من ذريتها.

 

الإمام علي ينعيها ببيت شعري:

لكل اجتماع من خليلين فرقة .. وكل الذي دون الممات قليل

وان افتقادي فاطما بعد أحمد .. دليل على ألا يدوم خليل.

 

وكان عليه السلام يزور قبرها في كل أسبوع مرة وينشد:

إلى الله أشكوا لا إلى الناس إنني.. أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب

أخلاي لو غير الحمام أصابكم.. عتبت ولكن ما على الموت معتب.

 

المصدر: اقتباسات من بحث علمي أكاديمي للدكتور حمود الأهنومي.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: الله علیه وآله فاطمة الزهراء علیها السلام علیه السلام الإمام علی رسول الله الله فی

إقرأ أيضاً:

العرفان السياسي.. مفهومه ونماذجه

«العرفان السياسي».. مصطلح استعملتُه في مقال «أردوغان.. والسياسة الإسلامية»، نشرته مشكورة جريدة «عمان» بتاريخ: 30/ 5/ 2023م، وجاء استعمالي له في إطار تأثير التجربة الصوفية النورسية على الخط السياسي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ للمقارنة بين مسلكه ومسلك الإسلام السياسي؛ حيث قلت: (الصوفية النورسية المنتشرة في تركيا.. وهي تجربة تحتاج إلى دراسة بذاتها، وما يهمنا هنا هو جانبها السياسي. ورغم أنَّ العلاقة بين التصوف والسياسة قديمة، إلا أنَّ نموذج النورسي جديد؛ ارتكز على العرفان السياسي القائم على الإصلاح السياسي، وليس الوصول إلى الحكم، وهذا فارق مفصلي بين تجربته وبين الإسلام السياسي؛ الذي يرى الإصلاح بعد تسنّم منصب الحكم. هذه التجربة أعطت أردوغان رؤية سياسية عميقة وفاعلية نافذة).

هذا المصطلح حديث، ولم ينل حقه من التحرير.. بل إنَّه غير شائع، ولم أجده استُعمِل إلا في وصف التجربة السياسية لبديع الزمان سعيد النورسي، ثم استُعمِل في التحليل الفلسفي والصوفي للتجربة السياسية للمرشد الإيراني روح الله الخميني، في إطار الحديث عن «حكومة الولي الفقيه». فإنْ قلتَ: إنْ كان مصطلح «العرفان السياسي» قليل الاستعمال؛ فهل توجد حاجة لدراسته؟ قلتُ: إنَّ المصطلح يشير إلى ظاهرة موجودة، وهي متطورة، ومؤثرة على الساحتين الإسلامية والدولية، فقد كان للإسلام نصيب وافر في تحديد المسارات السياسية بمنطقتنا، وذلك؛ لطبيعته السياسية المتجذرة منذ نشأته الأولى، وفي عصرنا تجلى التأثير السياسي للإسلام في تيار الإسلام السياسي. وهو تيار عريض خرجت منه تجارب سياسية عديدة؛ تراوحت بين المسلك الديمقراطي؛ مثلما هو في الأردن والمغرب، ومسلك العنف مثل القاعدة، مروراً بالانقلاب العسكري في السودان. من هنا تأتي الحاجة إلى المصطلح؛ ودراسة مفهومه ونماذجه.

العرفان السياسي.. حالة نفسية يعيشها الإنسان، تتمظهر بالزهد في الحياة مع الرغبة في إصلاح المجتمع -وربما إصلاح العالم- عبر خوض غمار السياسة؛ منها مسك زمام الحكم، ولأنَّ العرفان حالة دينية؛ فإنَّ ممارسة الإنسان للسياسة تكون عبر معتقداته الدينية. مَن يتبنى العرفان السياسي؛ يؤمن بأنَّه مؤيَد من الله في مشروعه، وقد يبلغ به الإيمان كأنَّما اصطفاه الله له وكلفه به، وهذا لا يعني أنَّه يسلك مسلكاً غير واقعي في ممارسته السياسية، وإنَّما هو يبذل جَهده في الأخذ بالأسباب، ويتوقع كذلك الإخفاقات، ومستعد للمعاناة في سبيل نجاح مشروعه، لكنه على يقين بأنَّ الله يسخر له سنن الكون لينجز مشروعه. ولذلك؛ قلما يثنيه شيء عن تحقيق هدفه السياسي، كما أنَّه عادة يستقبل المصاعب بهدوء نفسي عميق، قليل الانفعال والغضب والقلق؛ فهو عظيم الثقة بالله.

من هذا المفهوم..

تتبادر إلى الذهن شخصية النبي الخاتم محمد بن عبدالله، فهل يمكن اعتباره ممن تحلى بالعرفان السياسي؟ كثير من الصفات التي يحتملها المفهوم يتصف بها النبي؛ كالزهد في الحياة، والهدوء النفسي، والثقة العظيمة بالتأييد الرباني، والرؤية الكلية للوجود، وسعة أفق نظره للغيب. والعرفانيون المسلمون عموماً؛ بمن فيهم العرفانيون السياسيون يقتدون بالنبي.

كل هذا يجعله حاضراً في الحديث عن العرفان السياسي. بيد أنَّ هناك فرقاً جوهرياً بين النبي والعرفاني السياسي، وهو أنَّ النبي بالأساس رسول من الله، ليس مشروعه سياسياً، فرسالته الإصلاح الديني. صحيح؛ أنَّ الدين لا يمكن فصله عن السياسة، وأنَّ النبي مارسها، إلا أنَّها جاءته عرضاً، بمعنى؛ أنَّ تطور الأحداث هو الذي دفع به أنْ يمارس السياسة، بإدارة مجتمع المدينة، كما أنَّ مجتمع المدينة لم يتطور زمن النبي إلى نظام الدولة الشاملة؛ لا بمفهومها القديم، ولا بمعطياتها الحادثة، وإنَّما ظلت ممارسته محدودةً بالمدينة، وكان الغرض هو بناء الأمة المسلمة، وقد شرحت هذا في كتابي «السياسة بالدين». بهذا المعنى.. فإنَّ النبي محمداً لا يُعتبر من العرفانيين السياسيين.

كذلك؛ لا يمكن اعتبار الصوفيين الذي وُصِفوا بأنَّهم من «الأبدال» الذين أقاموا «حكومة العالم الباطنية»، فهذه فكرة مثالية، لا وجود واقعي لها؛ وإنْ زعمها بعض المتصوفة. فالعرفان السياسي.. يعمل في الواقع، ويؤسس دولة سياسية ملموسة. وهذا لا ينفي أنْ يشتغل الصوفي بالسياسة، وأنْ يكون حيناً سابحاً في فلك العرفان السياسي، ولكن ليس كل صوفي مشتغلٍ بالسياسة هو من هذا الصنف، فهناك صوفيون طرقيون، بعيدون عن العرفان، فهؤلاء ساسة كغيرهم من الساسة. إنَّ غالب المتصوفة الذين اشتغلوا بالسياسة لم ينتموا إلى عالم العرفان السياسي.

العرفان السياسي.. ظاهرة إنسانية قديمة، لأنَّ الإنسان بطبيعته كائن سياسي متدين متأمل، من أي دين وفي أي عصر ومصر، وقد شهد الإسلام بأعصره المختلفة نماذج على هذا العرفان، بيد أنَّ كثيراً من تجارب أولئك العرفانيين لم يدوَّن منها البُعد العرفاني، حيث تطغى الجوانب السياسية على غيرها لدى مدوني التاريخ.

من نماذج هؤلاء العرفانيين في العصر الحديث:

- جمال الدين الأفغاني (ت:1897م).. يقول عنه تلميذه محمد عبده (1905م): (أمَّا أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حلم عظيم يسع ما شاء الله. وهو كريم يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طموح إلى مقصده، قليل الحرص على الدنيا، بعيد من الغرور بزخارفها، ولوع بعظائم الأمور، عزوف عن صغارها، شجاع مقدام، لا يهاب الموت كأنَّه لا يعرفه)، هذه الصفات تمثل شخصية العرفاني السياسي، ومعروف أنَّ الأفغاني قضى عمرَه مشتغلاً بالسياسة، ولم يصرفه شيء عنه تحقيق أهدافه.

- العماني عبدالله بن حميد السالمي (ت:1914م).. من صفاته النفسية: خلوته بنفسه، وثقته بربه في نجاح أعماله، وإصراره على ما يراه حقاً. ومع انتقاده لطرائق من التصوف، إلا أنَّه كان يتمتع بنَفَس عرفاني وحالة زهدية. سعى جاهداً لإقامة دولة الإمامة في عمان، ورغم تفرّق القبائل العمانية في زمانه، وهيمنة الإنجليز على المنطقة؛ استطاع أنْ يقيم مشروعه السياسي.

- المصري حسن البنا (ت:1949م).. نشأ صوفياً، واستمر عبر حياته زاهداً في الدنيا، واثقاً بربه في تحقق أهدافه، ولتحقيقها أسس حركة الإخوان المسلمين، وهي حركة سياسية تسعى لإعادة الخلافة الإسلامية، من مبادئها أنَّها «حقيقة صوفية»؛ بحسب تعبير مؤسسها.

ناضل البنا حتى آخر حياته لتحقيق مشروعه السياسي، فلم يتحقق في حياته، حيث اغتيل شاباً، غير أنَّ حركته غدت أكبر حركة إسلامية سياسية، وشكلت معظم تيار الإسلام، ولها تجارب في الوصول للحكم بأشكال مختلفة.

- التركي بديع الزمان النورسي (ت:1960م).. بدأ حياته مصلحاً اجتماعياً وسياسياً، ورغم اشتغاله بالإصلاح الديني، إلا أنَّ عرفانه السياسي برز بعد عام 1926م، وهي المرحلة التي عرفت بـ«مرحلة سعيد الجديد»، والتي خلا فيها بنفسه؛ فألّف «رسائل النور». يبدو ظاهراً أنَّ النورسي في هذه المرحلة ابتعد عن السياسة.. بل وقد يكون ذمها، لكن لا يعدو هذا أنْ يكون رد فعل ظاهر للوضع الذي واجهه، أمَّا في نفسه فقد رسخ لديه أنَّ طريقته الجديدة كفيلة بأنْ تصلح المجتمع سياسياً، ثم تقيم «دولة إسلامية»، وهذا ما أسفر عنه الزمن، بدأ من فتح الله جولن (ت:2024م) وانتهاءً برجب أرودغان.

- الإيراني روح الله مصطفى الخميني (ت:1989م).. مارس العرفان واشتغل بالسياسة منذ بداية حياته، ورغم طغيان النظام الشاهنشاهي الحاكم في إيران حينذاك؛ لكنه كان موقناً بتحقق مشروعه، وبالفعل وصل إلى إقامة جمهورية إسلامية في إيران عبر ثورة شعبية كبرى، وهي الثورة الوحيدة من تيار الإسلام السياسي التي وصلت للحكم. لقد تمتع الخميني بالهدوء النفسي حتى في اللحظات الحاسمة من الثورة، وظل يدير الاجتماع الإيراني من بيته المتواضع في طهران.

مقالات مشابهة

  • أدعية رددها رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام
  • عثر عليها في وسط بيروت من دون اوراق ثبوتية.. فاطمة كنجو في عهدة قوى الأمن
  • تعرف على درجات الحب في الإسلام
  • العرفان السياسي.. مفهومه ونماذجه
  • المولودية تتعرف على تاريخ مواجهتها القارية
  • أبطال «ولد بنت شايب»: المسلسل يتناول خطورة النصب الإلكتروني.. وأشرف عبد الباقي «مدرسة في الفن»
  • الجزائر الأولى عربيا وإفريقيا في مونديال ذوي الهمم
  • "الجهاد الإسلامي" تُصدر بيانا في ذكرى انطلاقتها الـ 38
  • الرئيس السيسي: نقف جميعا وقفة عزة وفخر نحيي ذكرى السادس من أكتوبر اليوم الخالد في تاريخ ووجدان الأمة
  • شاهد بالفيديو.. أثار غضب “الثورجية”.. الكوميديان السوداني عبد الله عبد السلام “فضيل” يهاجم وزير التربية والتعليم بسبب كتاب الصف الرابع ويصف ثورة ديسمبر بأنها أسوأ ثورة حدثت في تاريخ السودان