الاقتصاد نيوز - متابعة

إنه حقاً عام العملات المشفرة. هكذا يمكن وصف عام 2024، حيث واصلت هذه العملات تحطيم الأرقام القياسية. ومع بدء عام 2025، فإن الكثير من المهتمين والمستثمرين في هذا القطاع ينتظرون أن يواصل مسيرته الصعودية، إلا أن هذا الأمل مرهون بعدة عوامل. 

تعهد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال الحملة الرئاسية بفعل الكثير لدعم قطاع العملات المشفرة.

لا يمكن لأحد أن يعرف على وجه الدقة ما الذي يمكن أن ينفذه ترمب على أرض الواقع، وما الذي يُصنف في خانة التصريحات الدعائية الهادفة إلى استقطاب القطاع، الذي أنفق نحو 130 مليون دولار خلال الانتخابات لتعزيز مصالحه، ولكن جميع المؤشرات تشير إلى أن العملات المشفرة تتجه نحو عام "جيد" آخر إذا لم تحدث أية مفاجأة. 

لحظات مفصلية 

على الرغم من أن الصعود السريع والقوي لأسعار العملات المشفرة كان مفاجئاً إلا أن زخمه كان تدريجياً، فمنذ بداية 2023، بدأت التطورات التي منحت القطاع دفعة طالما انتظرها.

أبرز هذه التحركات ما صدر عن "عدو الصناعة" شخصياً كما تصفه السوق، أي رئيس هيئة البورصات والأوراق المالية غاري غينسلر، بشأن الموافقة على صناديق "بتكوين" المتداولة في البورصة الأميركية. 

هذه الخطوة التي جاءت في يناير الماضي، أتاحت وصول مُستثمرين جديد إلى السوق، كما عززت حجم وسيولة أكبر عملة مشفرة. بالإضافة لذلك، شكلت خطوة أولى نحو إطلاق صناديق متداولة في البورصة تستثمر في عملة "إيثريوم" الأصغر، ليصل عدد هذه الصناديق حالياً إلى 12 صندوقاً.

وللدلالة على أهمية هذه الصناديق، تكفي الإشارة إلى أنها جذبت منذ فوز ترمب وحتى التاسع من ديسمبر نحو 10 مليارات دولار.

تدفق نحو 10 مليارات دولار إلى الصناديق المتداولة في البورصة التي تستثمر مباشرة في "بتكوين" في الولايات المتحدة منذ أن أصبح دونالد ترمب رئيساً منتخباً.

هذا الزخم الذي حصلت عليه العملات المشفرة دفع العديد من الشركات الجديدة إلى دخول القطاع. فضلاً عن ذلك، تلقت السوق دفعةً من تسهيل شركات عملاقة أخرى عمليات بيع وشراء العملات المشفرة، إذ سمحت "فيزا" وبورصة العملات المشفرة "كوين بيس" للمستخدمين بنقل الأموال بسلاسة بين الحسابات المصرفية ومحافظ العملات المشفرة، كما أتاحت "باي بال" عمليات شراء وبيع العملات المشفرة داخل تطبيقها. 

من ناحية أخرى، عززت الشركات المخضرمة في القطاع نشاطها، وشرعت شركة "مايكروستراتيجي" خلال معظم العام الماضي بشراء "بتكوين"، كما طرحت أسهماً بهدف تمويل عمليات شراء هذه العملة المشفرة. وتمتلك الشركة حالياً عملات "بتكوين" تزيد قيمتها عن 40 مليار دولار، ما يجعلها أكبر شركة مدرجة تمتلك هذه الأصول الرقمية.

تحسينات في تقنية العملات

القطاع شهد أيضاً دفعة بفضل العديد من التحسينات التقنية التي تهدف إلى تعزيز أداء وتداولات العملات المشفرة، وخصوصاً "إيثريوم". 

أبرز هذه التحسينات جاء في مارس الماضي، إذ تم إطلاق تحديث "دنكن" الذي يهدف إلى معالجة أبرز تحد أمام هذه العملة المشفرة: كلفة المعاملات المرتفعة. هذا التحديث استطاع تخفيض كلفة المعاملات بحوالي 20 مرة.

بعد هذا التحديث، شهدت العملة المشفرة تحديثاً جديداً أُطلق عليه "بيكترا" يهدف إلى جعل "إيثريوم" أكثر سرعة وأماناً، وأكثر سهولة للاستخدام. كما تم إطلاق "إي آي بي 3074"، وهو تحديث يهدف إلى تجميع عدد من المعاملات في معاملة واحدة، ما يسرع العملية ويخفف من التعقيدات التقنية. 

نضوج العملات المستقرة

لم تكن هذه الخطوات الوحيدة التي دفعت مسيرة العملات المشفرة، إذ ساهم نضوج العملات المستقرة في دعم القطاع أيضاً. 

لعبت العملات المستقرة دوراً حيوياً في دعم العملات المشفرة الأخرى، إذ وفرت للمستثمرين السيولة الأساسية أثناء تقلبات السوق. والعملات المستقرة تُعتبر نوعاً من العملات المشفرة والتي تهدف إلى الحفاظ على سعر ثابت مرتبط بعملة ورقية، وعادةً ما يجري اختيار الدولار الأميركي لهذا النوع من الربط.

زادت أهمية العملات المستقرة بشكل واضح خلال العام الماضي، ففي نوفمبر 2024، أفادت بيانات شركة "دي في لاما" بأن قيمة هذه السوق بلغت 190 مليار دولار، بارتفاع نسبته 46% مقارنة ببداية السنة.

كما جرى تسليط الضوء على الشراكة بين "سيركل إنترنت فاينانشيال" (Circle Internet Financial)- مُصدرة العملة المستقرة "يو إس دي سي" (USDC)- ومنصة "بينانس" لتداول العملات المشفرة، والتي تسمح بزيادة استخدام الأصل على منصة التداول، كدليل على دور العملة المستقرة المتزايد في ترسيخ نشاط العملات المشفرة.

وتأتي هذه الشراكة الموسعة، في فترة تعزز فيها "تيذر"، أكبر منافسي "سيركل"، الحصة السوقية المهيمنة لعملتها المستقرة "يو إس دي تي" (USDT) خلال موجة ارتفاع أسعار العملات المشفرة حالياً.

ترمب يدفع القطاع

كل هذه العوامل وغيرها، شكلت لحظات فاصلة في عالم العملات المشفرة خلال العام الماضي. إلا أن فوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية شكل أبرز المحطات في مسار ذلك القطاع. 

ساهم فوز ترمب بشكل كبير في وصول سعر "بتكوين" إلى عتبة 100 ألف دولار القياسية رغم حدوث عملية التنصيف، التي تخفض المكافأة المقررة لمعدني العملة المشفرة إلى النصف، خلال السنة الماضية، ورفع أسعار العملات المشفرة الأخرى، على غرار "إكس آر بي" التي أصبحت ثالث أكبر عملة مشفرة في السوق بداية الشهر الماضي.

تأثير ترمب لم يقتصر على الأقوال فقط وإنما امتد إلى الأفعال، فقد قدم الرئيس المنتخب شخصيات رئيسية مؤيدة للقطاع في بعض المناصب الرئيسية، كما استحدث منصباً مخصصاً للذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة في البيت الأبيض، ورشح ديفيد ساكس لقيادته، فضلا عن اقتراحه تعيين بول أتكينز لقيادة هيئة الأوراق المالية والبورصات بدلاً من غينسلر، ما منح القطاع دفعةً لا تزال سارية في أرجائه حتى الآن.

توقعات بارتفاع الأسعار

أعطت هذه التعيينات بريق أمل بالنسبة للسوق التي لطالما اعتبرت إدارة جو بايدن "مقيدة" للقطاع، وهو ما ساهم في الارتفاع الصاروخي للعملات المشفرة وخصوصاً "بتكوين" التي قفزت السنة الماضية ما يزيد عن 120%، متفوقة على غالبية الأسهم أو الذهب.

يظهر التفاؤل حيال أداء العملات المشفرة أيضاً في العام المقبل جلياً عبر توقعات بيوت الاستثمار لأسعار "بتكوين" خلال العام المقبل. إذ تتوقع شركة "بيرنستين" (Bernstein) أن تصل أسعار "بتكوين" في العام المقبل إلى 150 ألف دولار. 

اللافت أن هذا الرقم هو الأقل بين التوقعات الأخرى التي شملت كلاً من "بيت وايز" (Bitwise)، و"فان إيك" (VanEck)، و"ستاندرد تشارترد" (Standard Chartered)، و"فاند سترات" (Fundstrat). وتراوحت توقعات هذه الشركات لأسعار "بتكوين" بين 180 ألف دولار و250 ألف دولار.

تراهن الغالبية في السوق على أن تنصيب ترمب سيدعم أسعار العملات المشفرة أكثر. على الرغم من ذلك يرى باتريك بوش، محلل أول لأبحاث الأصول الرقمية في "فان إيك" أن مسيرة "بتكوين" حتى مع تسلم ترمب منصبه ستتسم "بالتقلب"، متوقعاً في مقابلة مع "الشرق" أن تشهد الأسعار عمليات تصحيح لفترة. 

وقلصت بتكوين مكاسبها لتحوم قرب 93922 دولاراً ما يقل بنحو 15 ألف دولار عن المستوى القياسي الذي سجلته في منتصف ديسمبر الماضي. 

بوش اعتبر أن الأداء الجيد للعملات المشفرة قد يتجدد "عندما يتم اتخاذ تدابير حاسمة مثل تلك المتعلقة بالعملات المستقرة، أو إنشاء احتياطي أميركي من بتكوين"، مضيفاً: "حتى يتم الإعلان عن هذه الخطوة، أو حدوث تغييرات جادة في السياسات، فلن نرى أي تغيير كبير، لأن هذه الخطوات هي "الحافز الذي سيدفع الناس للشراء".

بوش ليس الوحيد الذي عكس مسار التفاؤل في السوق، ففي ديسمبر الماضي، حذّر مايكل هارتنيت، المحلل لدى "بنك أوف أميركا"، من أن موجة الصعود القوية في الأسهم الأميركية والعملات المشفرة، خلفت ما يبدو أنها فقاعة في هذه الأصول.

شكوك بوعود احتياطي بتكوين

من جهة ثانية، يشكك الكثير من الخبراء في إمكانية إنشاء احتياطي من "بتكوين"، خصوصاً لما تنطوي عليه هذه الخطوة من مخاطر. 

تشير كل من أولغا خريف وإيزابيلا لي من "بلومبرغ" إلى أن شراء الحكومة الأميركية كمية كبيرة من "بتكوين" لإنشاء مخزون قد يجعلها لاعباً رئيسياً في سوق العملات المشفرة، مما قد يؤدي إلى تقلبات في السوق. كما حذرتا في تقرير نشرته "بلومبرغ"في ديسمبر الماضي، من أن هذه الخطوة قد تؤثر سلباً على قيمة الذهب، حيث قد يتجه المستثمرون نحو "بتكوين" كبديل عن المعدن الأصفر.

 

كما تتعارض أساسيات العملة نفسها مع مقترح ترمب، فالعملة مُصممة على أن يتراجع المعروض منها بمرور الوقت، وذلك لمنع التضخم المفرط، مما يعزز قيمتها كأصل نادر. 

ويعتقد إدوارد تشين، الشريك المؤسس لشركة "باراتاكسيس كابيتال" (Parataxis Capital)، أن المعروض السنوي البالغ 164,250 وحدة لن يكفي لتلبية الطلب المتوقع من "مايكروستراتيجي" والاحتياطي الفيدرالي، إلى جانب الصناديق السيادية والمستثمرين العالميين، ما قد يؤدي إلى نقص في السوق وارتفاع كبير في الأسعار. ويُقدر تشين أن سعر "بتكوين" قد يصل إلى 500 ألف دولار أو حتى مليون دولار إذا أصبحت جزءاً من القاعدة النقدية العالمية مثل الذهب، وفق "بلومبرغ".

السوق بين نارين

الخلاصة، يُرتقب أن تكون رئاسة ترمب الثانية "نعيماً" على قطاع التشفير، إن صدق بوعوده أو نفذ الغالبية العظمى منها.

لكن عدم تنفيذ ترمب لهذه الوعود، أو في حال شعرت السوق بأن السياسات المنفذة لا تلبي التطلعات، فقد يؤدي ذلك إلى إطلاق موجة بيع من شأنها إحداث انهيار كبير في قيمة العملات المشفرة، ما قد يؤثر على قطاع تزيد قيمته حالياً عن 3 تريليونات دولار. 

المصدر: وكالة الإقتصاد نيوز

كلمات دلالية: كل الأخبار كل الأخبار آخر الأخـبـار أسعار العملات المشفرة العملات المستقرة العملة المشفرة هذه الخطوة ألف دولار فی السوق

إقرأ أيضاً:

فهد الخليلي: تراجع معدلات الإنجاب مؤشر له تبعات اقتصادية تمسّ نمو السوق ونجاح الخطط التنموية

انطلاقا من أهمية استقراء التحولات التنموية من منظور المستثمرين الذين يشكلون ركيزة أساسية في تعزيز الاقتصاد الوطني وتنفيذ توجهاته الاستراتيجية ، حاورت «عمان» فهد بن محمد الخليلي، المؤسس ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ»بيت بيان للاستثمار» منذ عام 2015، لتسليط الضوء على واقع الاستثمار في سلطنة عُمان، ومدى تفاعله مع رؤية «عُمان 2040»، وما يرافق ذلك من تحولات ديموغرافية واجتماعية، وتغيرات في البنية الاقتصادية وأسواق العمل.

وخلال الحوار، يضع الخليلي بين أيدينا قراءة معمقة للمشهد الاستثماري الحالي، ويستعرض أبرز ملامح العلاقة المتجددة بين القطاعين العام والخاص، والتحديات والفرص المرتبطة بانخفاض معدلات الإنجاب، إضافة إلى رؤيته لدور القطاع الخاص في بناء بيئة استثمارية أكثر تنافسية.

كرجل يقود مؤسسة استثمارية منذ عام 2015، كيف تقرأ التحولات الاقتصادية والاجتماعية في سلطنة عمان؟

إن التحولات الاقتصادية التي شهدناها في سلطنة عُمان جاءت بشكل رئيسي بعد تولّي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم – حفظه الله – مقاليد الحكم، كونه كان يقود رؤية «عُمان 2040» منذ بدايتها،

وهي الرؤية التي نسترشد بها كمستثمرين، وتمثل خريطة طريق واضحة للمستقبل.

ما يلفت النظر خلال السنوات الأخيرة هو التغيير في أداء المسؤولين، ونمط تعاملهم مع المستثمرين والمطورين. على سبيل المثال، في مؤتمر ومعرض عمان العقاري الأخير، كان معالي وزير الإسكان والتخطيط العمراني يشرح بنفسه المشاريع المطروحة، ويتواصل مباشرة من هاتفه الشخصي مع المستثمرين والمطورين لمتابعة التفاصيل وتحفيزهم على الانخراط. هذا الأسلوب لم يكن موجودًا في السابق، ويعكس تحولًا حقيقيًّا نحو الشفافية والتواصل المباشر. كما أن التحول الرقمي أحدث نقلة نوعية في إنجاز المعاملات. اليوم يمكن إنجاز العديد من الإجراءات إلكترونيًّا بكل سلاسة، وهذا في حد ذاته تقدم كبير خلال ثلاث سنوات فقط.

ولا ننسى المشروعات الجديدة التي أعلنت عنها الحكومة في قطاعات حيوية مثل الطاقة النظيفة، والبنية الأساسية، والمشاريع الإنشائية، هذه المشروعات، في تقديري، ستخلق عشرات الآلاف من الوظائف خلال الأعوام القادمة، وستُحدث فرقًا كبيرًا في السوق المحلي، خاصة في السنوات الخمس إلى العشر المقبلة، التي أتوقع أن تكون مختلفة تمامًا عما سبقها.

ماذا عن واقع الاستثمار، كيف تقيمونه؟

الواقع الاستثماري في سلطنة عُمان يختلف بطبيعة الحال من قطاع إلى آخر، لكن إذا ما تحدثنا تحديدًا عن قطاع البناء والتشييد والتطوير العقاري، فإننا نمر حاليًّا بفترة خضراء، وهي فترة مربحة وواعدة، خصوصًا بعد التحديات الكبيرة التي فرضتها جائحة كورونا على القطاع خلال الأعوام الماضية.

وما نشهده اليوم هو انتعاش مدفوع بسلسلة من التسهيلات الحكومية، والسعي الجاد والحقيقي من الجهات المعنية لتذليل الصعوبات أمام المستثمرين، وتمكين القطاع الخاص من أداء دوره الحيوي في الاقتصاد الوطني. هناك أيضًا تغير واضح في النهج الحكومي، وفي العقلية الاقتصادية التي تدير المشهد؛ حيث أصبح التركيز منصبًا على التوفيق بين القطاعين العام والخاص، وتمكين الشراكات، ورفع وتيرة الإنجاز.

وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقط، شهدنا توقيع اتفاقيات تتجاوز قيمتها 10 مليارات دولار في قطاعات استراتيجية مثل الطاقة والمعادن والإسكان، إضافة إلى مشروعات تتعلق ببناء السدود والطرق الخدمية، وغيرها من المبادرات الاستثمارية الكبرى. هذه أرقام كبيرة ومؤثرة، وهي تبعث برسالة واضحة عن وجود بيئة استثمارية جاذبة، وتبشر بخلق وظائف وفرص نوعية لمختلف القطاعات خلال المرحلة المقبلة.

هل هناك تداخل في الأدوار بين القطاعين العام والخاص برأيكم؟

التداخل بين القطاعين أمر طبيعي وموجود في كل مكان، لكن ما يمكن قوله بوضوح هو إن المحرك الأساسي للاقتصاد العُماني خلال السنوات الماضية كان القطاع الحكومي، وكان هو من يدفع القطاع الخاص للتحرك. اليوم، هناك رغبة واضحة لتغيير هذا النمط، والبدء بتمكين القطاع الخاص ليأخذ زمام المبادرة، ويساهم بشكل فعّال في التنمية.

ونلحظ اليوم -كما أسلفت- توجها حقيقيا من الجهات الرسمية نحو تذليل الصعوبات أمام المستثمرين، وتأسيس آليات عمل توافقية بين الطرفين، وهذا ليس مجرد حديث بل واقع ملموس، فالآن يمكنك التواصل مع أي مسؤول عبر الهاتف، وتجد منه انفتاحًا واستعدادًا للدعم، وهو تغير جذري في طريقة التفاعل الرسمي مع القطاع الخاص.

وفي القطاع الصحي، على سبيل المثال، بات 40% من عدد الأسرّة يتبع للقطاع الخاص، وهو مؤشر مهم على التمكين، وكذلك الحال في قطاع التعليم، حيث تسجل المدارس الخاصة حضورًا متزايدًا. كل ذلك يشير إلى أن هناك بيئة محفزة وجاذبة، لدرجة أن عددًا من المستثمرين من خارج عُمان باتوا يزورون البلاد بحثًا عن فرص استثمارية.

بالحديث عن المستثمرين الخارجيين، ومن خلال تواصلكم المستمر معهم، ما الذي يبحثون عنه عند التفكير في الاستثمار بسلطنة عمان؟

المستثمر الخارجي يبحث أولا عن الاستقرار، وهذا ما تتميز به سلطنة عمان، ليس فقط استقرارًا ظرفيًّا بل تاريخيًّا، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. نحن شعب اعتاد على التباين والتنوع، ومتعايش بطبعه، وهذه سمة تجعل من البيئة العمانية بيئة جاذبة ومتقبلة للاختلافات، وهو أمر مهم بالنسبة للمستثمرين.

إلى جانب ذلك، الاستقرار المالي عنصر محوري، فالريال العُماني مرتبط بالدولار الأمريكي، ولا يعاني من تذبذبات تقلق المستثمر. أيضًا التصنيفات الائتمانية لعُمان بقيت مرتفعة رغم الأزمات، وهذا يعطي ثقة في المسار المالي والاقتصادي للدولة.

أما المستثمرون الخارجيون فهم يقرؤون رؤية عمان 2040 من زاوية استشرافية؛ حين يرون أن الحكومة تفتح أبواب التوسع في قطاع معين، يبادرون بالدخول فيه. لكن ما يحتاجه المستثمر اليوم هو وضوح أكبر، لا تكفيه العناوين العريضة، بل يبحث عن تفاصيل دقيقة للفرص والعوائد المتوقعة، لأنه ببساطة أمامه خيارات كثيرة عالميًّا، ولا يمكن جذب اهتمامه دون عرض واضح ومُفصّل.

في ظل التراجع الملحوظ في معدلات، كيف ترون أثر ذلك على الاقتصاد مستقبلا؟

في عام 2012، التقيت بأحد المسؤولين في ماليزيا، وكان حينها يتحدث عن استهداف بلاده لوصول عدد السكان إلى 50 مليون نسمة. استغربت ذلك، لأن التعداد وقتها كان 27 مليونًا، وهو رقم كبير بحد ذاته. لكنه أوضح لي أن المنافسة في المنطقة تحتّم عليهم تعزيز قوتهم البشرية لمواكبة جيرانهم الأكبر عددًا.

اليوم أصبح النمو السكاني مؤشرًا تنافسيًّا بحد ذاته. نرى أوروبا -أو ما يُسمى اليوم بـ«القارة العجوز»- تبذل جهدًا مضاعفًا لتعزيز نسب الإنجاب واستقطاب الكفاءات من الخارج. وفي اليابان، حسب ما قرأت، فإن استمرار معدلات الإنجاب الحالية قد يؤدي -نظريًّا- إلى انقراض سكاني بحلول عام 3000، إذ إن عدد الوفيات بات يتجاوز عدد المواليد، وهو ما يضعهم في مأزق وجودي.

الصين أيضًا تراجعت عن سياسة الطفل الواحد بعد أن بدأت تشعر بأثر ذلك على بنيتها الاقتصادية. وبالتالي، لا يمكن فصل قضية

الإنجاب عن التخطيط الاقتصادي؛ لأنها تمسّ جوهر القوة الإنتاجية للبلد، واليد العاملة، واستدامة النمو.

بالنسبة لسلطنة عمان، تراجع معدلات الإنجاب مؤشر لا يجب تجاهله. فهو إنذار مبكر بضرورة اتخاذ تدابير تساعد العائلات العُمانية على الإنجاب ضمن ظروف معيشية مستقرة؛ لأن هذه الأجيال هي من سيقود التنمية غدًا.

ولكن ما التأثيرات الاقتصادية المباشرة التي قد نشهدها من تراجع معدلات الإنجاب خلال السنوات القليلة القادمة؟

كل منتج أو خدمة في السوق، من العقارات إلى المواد الاستهلاكية، مرتبط بالنمو السكاني. فعلى سبيل المثال، عند إطلاق مشروع عقاري جديد، فإن الفئة المستهدفة غالبًا ما تكون من العائلات الصغيرة والجيل الجديد المقبل على تأسيس حياة أسرية. وبالتالي، كل تأخر أو تراجع في الإنجاب يعني تراجعًا مباشرًا في الطلب على السكن، المدارس، المستلزمات المنزلية، وحتى الخدمات الصحية والتعليمية.

القوة الشرائية مرتبطة بالتعداد، وزيادة السكان مؤشر لا يقلق فقط سلطنة عمان بل العالم بأسره. فنجاح أي منتج أو استثمار يعتمد على وجود سوق حي ونشط، وهذا لا يتحقق إلا بوجود فئة شابة متزايدة. من هنا تأتي أهمية أن تُدرج الحكومة موضوع دعم الإنجاب ضمن خططها الاستراتيجية، سواء على المدى القريب أو البعيد، من خلال تعزيز الحوافز التي تسهّل الزواج وتخفف أعباء تكوين الأسرة.

تراجع معدلات الإنجاب ليس مجرد رقم غير مريح، بل مؤشر له تبعات اقتصادية عميقة تمسّ نمو السوق، وتوسع المشاريع، ونجاح الخطط التنموية بأكملها.

ما أبرز القطاعات التي يركّز عليها «بيت بيان للاستثمار» حاليًّا، وما مدى انسجامها مع رؤية عُمان 2040؟

رؤية عُمان 2040 شدّدت على أهمية تحسين نمط وجودة الحياة، سواء للمواطن أو المقيم، ونحن في «بيت بيان» نضع هذا الهدف في صميم مشاريعنا. من يتابع ما نطرحه يلاحظ أننا لا نكتفي بتقديم مشاريع إنشائية، بل نُقدّم أنماطًا استثنائية من حيث الجودة والمرافق والموقع، ونعمل على مواءمة مشاريعنا مع محاور الرؤية الوطنية، خاصة ما يتعلق بالاستدامة الحضرية والتكامل المجتمعي.

نحن نركز حاليًّا على قطاع التشييد والخدمات، مع حرصنا على توفير بيئات سكنية آمنة ومتكاملة، ومواقع تتسم بالكثافة السكانية المناسبة، لتكون قريبة من الناس وقريبة من بعضهم بعضًا. نسعى لتقريب الخدمات، وتفعيل الأثر الاقتصادي والاجتماعي في مواقع مشاريعنا، بما يحقق مساهمة مباشرة في الناتج المحلي ويستجيب لتطلعات المجتمع.

أما على مستوى الموارد البشرية، فقد وصلنا إلى نسب تعمين تتجاوز 90%، بكفاءات عُمانية مشهود لها. وأستغرب حقيقةً من بعض الأصوات التي تُقلل من كفاءة الموظف العُماني؛ فالعبرة في التمكين السليم، والتدريب، والثقة، والتعامل معه باحترام لخصوصيته، حينها يبرز تميّزه الحقيقي.

في ظل التحولات الحالية، ما المهارات التي يحتاجها الموظف أو المستثمر في بيئة العمل اليوم؟

بصراحة، من لا يمتلك مهارة التعامل مع الذكاء الاصطناعي اليوم يقترب من الأمية بمفهومها الجديد. هذه الأداة تشبه في تأثيرها اختراع الإنترنت من حيث النقلة المعرفية التي أحدثتها للبشرية. المهم ليس فقط معرفة الأدوات، بل القدرة على إدخال المعطيات الصحيحة واستثمار الذكاء الاصطناعي للحصول على النتائج المرجوة.

أما من جانب المستثمر، فعليه أن يكون مستعدًا لتأهيل وتدريب الكفاءات؛ لأن النجاح لا يتطلب فقط تمويلًا أو فكرة جيدة، بل بيئة عمل تدعم التطوير والتعلّم المستمر، وهذا يتطلب التزامًا حقيقيًّا من القيادات.

واليوم لم يعد هناك مبرر لعبارة «لا أعرف». كل شيء متاح، وكل مصادر التعلم أصبحت في المتناول. التحدي الحقيقي يكمن في وجود الشغف، والرضا، والإيمان بالتدرج في المسار المهني. على الشباب ألا يمانعوا من دخول سوق العمل من الرواتب البسيطة، فالتطور الحقيقي يبدأ من الخطوة الأولى، ومن هناك تبدأ رحلة النضج المهني.

مقالات مشابهة

  • مصر.. ما قد لا تعلمه عن ضريبة الدمغة بعد مفاجأة الأرقام القياسية لتداولات البورصة
  • فهد الخليلي: تراجع معدلات الإنجاب مؤشر له تبعات اقتصادية تمسّ نمو السوق ونجاح الخطط التنموية
  • Bitget تُسلط الضوء على برنامج الشركاء التابعين
  • البيتكوين والإيثريوم اليوم.. تحركات عنيفة في سوق الكريبتو
  • في حالة السودان وأفريقيا عموما، يجدر بنا أن نتسائل كيف يمكن التعامل مع هذا الواقع
  • عودة السوق المالي.. أسعار العملات الأجنبية أمام الجنيه اليوم الثلاثاء 10-6-2025 في البنك المركزي المصري
  • اقتصادي يكشف مفاجأة بخصوص سوق العملات الرقمية و المشفرة
  • أسعار العملات المشفرة مقابل الدولار
  • تقلبات مستمرة في أسعار صرف العملات الأجنبية بالعاصمة عدن
  • الدولار يسجل تراجعات قوية امام جميع العملات العالمية