شِروالُ جَدِّي
سعيد ذياب سليم
يَركبُ الأطفالُ أحصِنةَ خيالِهمُ المُجنَّحةَ، تَعْدُو بهم فوقَ هضابِ الغيمِ الأبيضِ، وفوقَ سهولِ القمرِ، يَقفِزونَ بها مِنْ نجمةٍ لنجمةٍ، ويَعودونَ لنا بأحلى الحكاياتِ وأطرفِها، نُحِبُّهم لأجلِها ونُصَدِّقُهم. وفي عالَمِ الواقعِ الذي لم يكنْ أقلَّ دَهشةً من حكاياتِهم، كانتْ تفاصيلُ الحياةِ اليوميةِ تحمِلُ طابعًا خاصًا يُعَبِّرُ عن بساطةِ الزمنِ وأصالَتِه، ومنها طقوسُ الغَسيلِ التي كانتْ آنذاك مشهدًا مألوفًا في كل بيت.
مِنْ تلكَ الحكاياتِ الطريفةِ ما رَوَتْه فتاةٌ لصديقتِها، في فسحةِ أحدِ الأيامِ الدراسيةِ، مِنْ أيامِ ذلكَ الزمنِ الذي كانَ فيه الناسُ ينشرونَ الغَسيلَ على الحبالِ في ساحاتِ منازلِهم وعلى الشُّرَفاتِ وفوقَ الأسطُحِ، يَعرضونَ غَسيلَهم كما لو كانتْ لوحاتٍ فنيةٍ، تَرى فيها الملايس المُلوَّنةَ، والناصعةَ البياضِ تراقص الريح، وينتشر عطرها في الأجواء.
وكأنَّ سيداتِ ذلكَ الزمنِ يَعرضنَ مَهاراتِهنَّ ويُكاثِرنَ غيرَهنَّ بما لديهنَّ مِنْ مسؤوليةٍ وجهدٍ ومشقةٍ.
كانتِ الأحاديثُ تدورُ حولَ مَهارةِ إحداهنَّ ونظافةِ غَسيلِها ورائحتِه العَطِرةِ، وطُرُقِها الفنيةِ في معالجةِ قِطعِ الملابسِ المختلفةِ وما عَلِقَ بها مِنْ أوساخٍ، وكيفَ ينتهي النهارُ بينَ أكوامِ الملابسِ وما تحتاجُه مِنْ نقعٍ وغَليٍ وشَطْفٍ، تلكَ الأعمالُ التي تقومُ بها اليومَ الغَسالةُ والنشافةُ الأوتوماتيكيةُ بما لديها مِنْ برامجَ وخياراتٍ.
مقالات ذات صلةفي محاكاةٍ لسيداتِ ذلكَ العصرِ، بدأتِ الفتاةُ تتحدثُ عن مَهارةِ أُمِّها في الغَسيلِ، وأنَّها متى ما غَسَلَتْ “شِروالَ” جَدِّها الذي يَحتاجُ إلى حفلةٍ تمتدُّ ليلةً ونهارًا، ثمَّ إذا نَشَرَتْهُ، أَخَذَ حبلَ الغَسيلِ بأكملِه ولم يُبقِ فُسحةً لغيرِه، ويصنعُ بظلِّه عريشًا يَجتمعُ تحتَه أفرادُ العائلةِ ذلكَ اليومَ ويُقيمونَ وليمةً سعيدةً.
ضحكت الصديقة وعلامات الدهشة على وجهها.
تَعلَمونَ أنَّ الشِّروالَ لِباسٌ تراثيٌّ فضفاضٌ، يَلبسُه الرجلُ في نصفِه الأسفلِ، يَضيقُ عندَ القدمينِ، ويتسعُ عندَ الفخذينِ، وتكثرُ كسراتُه وطياتُه حولَ الخصرِ، ويَتدلى جزءٌ منه في الخلفِ يُسمَّى “لِيّةَ الشِّروال”، يَحتاجُ الشخصُ العاديُّ منْ ثلاثٍ إلى خمسةِ أمتارٍ من القماشِ، حسبَ عرضِ الكَمَرِ، والكسراتِ، والجزءِ المُتدليِّ بينَ الساقينِ. يُمكنُ أنْ يكونَ واسعًا أو واسعًا جدًا، حسبَ ثراءِ الرجلِ وخطورةِ مركزِه الاجتماعيِّ، يُؤمِّنُ الراحةَ والتهويةَ التي يَحتاجُها الشخصُ أثناءَ ساعاتِ العملِ الطويلةِ في الزراعةِ والفلاحةِ.
كنتَ تَراهُ في ساحاتِ المدنِ في بلادِ الشامِ وقُراها حتى سبعينياتِ القرنِ الماضي، وربما ما زالتْ تَزدانُ به بعضُ القُرى النائيةِ عن طريقِ البنطلون العصريِّ المصنوعِ من قماشِ “الدينم” أو “الجينز”، كنتَ تَرى الرجالَ يَسيرونَ تَتهدلُ خلفَهم “لِيّاتُ شراويلِهم” بفخرِ هؤلاءِ الذينَ يَلبسونَ آخرَ صرعاتِ الموضةِ العالميةِ.
يعتبر لباسا شرقيا بجدارة، تراه من الصين شرقا إلى بلاد المغرب العربي، انتشر في بلدان الشرق الأوسط منذ قرون، هل وصَلَنا من بلاد فارس، وقد عاد به الفاتحون الأوائل؟ هل هو من بقايا العثمانيين الأتراك؟ أم تطور مع ما تطور من ملابس منذ عهد الكنعانيين؟ مهما كانت الإجابة، من الواضح أنه تطور تصميمه ليأخذ أشكاله المعاصرة التي نستخدمها اليوم في مدننا و باديتنا و أريافنا.
ولو أنَّ أحدَهم كَتَبَ شعرًا في شِروالِ جَدِّه، كما كَتَبَ مسكينُ الدارميُّ في الخِمارِ الأسودِ عندما قال:
قل للمليحةِ في الخِمارِ الأسودِ ** ماذا فَعَلْتِ بناسِكٍ مُتَعَبِّدِ
لو فعل، لَذاعَ صيتُ شِروالِ جَدِّه وجاوزَ الآفاقَ، ولذَكَرْناهُ اليومَ كما نَذْكُرُ ونَحِنّ إلى قهوةِ أُمَّهاتِنا.
وإنْ كانَ حاولَ ذلكَ طوني حنّا في أُغنيةٍ تراثية سنة 1982، يقولُ مَطلعُها:
شِروالُ جَدَّك يا جَدِّي … مُرقَّعٌ لكنَّ بيهَدِّي
وبعدُه مُعلَّقٌ منْ أيّامِ … جَدُّهُ لِجَدِّكَ يا جَدِّي
يَتذكَّرُ بعدَ ذلكَ: القمحَ والجِفتَ والخُرجَ وأسماء تراثية أصبحت غريبة على مسمعنا.
ثمَّ يتمنّى على جَدِّه قائلًا:
ياريتَكْ ما شَلَحتِ النِّير … ولا تَرَكتِ السِّكَّةَ تَصدِّي
في حنين لا يخفى لتلك الأيام. تُرى، هل فقدنا شيئًا حين اختفت تلك الطقوس؟ أم أن ذكرياتنا وحدها التي تُبالغ في جمال ما مضى؟
لما لا نعود بأدراجنا للفتاتين اللتين بدأت بهما رحلتنا، ولتسمع ماردت به الصديقة على قصة الشروال :
أما جدي، فقد كان طويلًا جدًا، إذا صعد على سطح البيت كان يسير ورأسه مخفضا كي لا يضرب القمر! وكان الناس يقولون إنه يستطيع أن يقطف النجوم بيديه.
هل تصدقون ذلك؟
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
هاجر الشرنوبي لـ "كلمة السر مع رانيا حكيم": طفولتي كانت أحلى مراحل حياتي وابني أنا بابا وماما بالنسباله
كشفت الفنانة هاجر الشرنوبي عن العديد من الجوانب الشخصية في حياتها، خلال استضافتها في بودكاست "كلمة السر" الذي تقدّمه الإعلامية رانيا حكيم، حيث تحدثت عن نشأتها، ومفهومها للحب والخيانة، وأصعب اللحظات التي مرت بها، إضافة إلى علاقتها بابنها وزوجها، وعن صلة القرابة التي تجمعها بالفنان محمد الشرنوبي
عند سؤالها عن نفسها، أجابت هاجر: "السؤال يبدو بسيطًا، لكنه صعب بالنسبة لي، يمكنني القول إنني فتاة عادية وُلدت في الإسكندرية، تخرجت من المعهد العالي للفنون المسرحية قسم تمثيل وإخراج، بالإضافة إلى دراستي في كلية الآداب قسم علم النفس. كنت أيضًا جزءًا من فريق الإسكندرية للفنون الشعبية، ومتزوجة ولديَّ ابن يُدعى يوسف."
وتابعت: "أنا ببساطة إنسانة عادية، لا أستطيع تقديم نفسي بكلمات معقدة، وأعيش حياتي بعفوية وصدق، وهذا يظهر في كل تصرفاتي.
استرجعت هاجر ذكرياتها عن طفولتها، مشيرة إلى أنها كانت من أجمل فترات حياتها:
"طفولتي كانت سعيدة للغاية، نشأت في عائلة تحب بعضها البعض. كان لديّ أب رائع رحل عن عالمنا، وأم أحبها وأدعو الله أن يمدها بالصحة. لدي أيضًا أخي محمود، وكانت العائلة دائمًا في قمة أولوياتنا، ولا أستطيع أن أنسى تلك الأيام التي لم تكن مشوبة بالتكنولوجيا والانفتاح الموجود الآن."
وأضافت: "أشعر بشفقة على جيل اليوم، خاصة ابني يوسف، لأنه لم يعيش طفولتنا التي كانت مليئة بالبراءة، حيث كنا نلعب في الشوارع ونعيش وسط جيراننا. الآن، كل شيء تغير."
تحدثت هاجر بتأثر عن علاقتها بابنها يوسف، وقالت: "بالنسبة لي، أنا الأم والأب في حياة يوسف، لا نملك سوا بعضنا البعض. في كل عيد ميلاده، أحرص على التقاط صورة عفوية معه، حتى في وقت جائحة كورونا حيث كنت أرتدي الكمامة، لكن الصورة لا تزال تتكرر كل عام."
وتطرقت أيضًا إلى الجدل الذي أثير بسبب صورة لها وهي تُقبّل ابنها، حيث قالت: "لقد صدمت من ردود الأفعال على تلك الصورة. البعض اتهمني بأنني فعلت شيئًا غير لائق، لكنني كنت فقط أعيش بعفويتي. شعرت أن البراءة والعفوية في تصرفاتي قد تمّ انتقادها بشكل غير مبرر.
تحدثت هاجر عن قصة حبها مع زوجها أحمد، مشيرة إلى أنها لم تكن تنوي الزواج في البداية كنت قد قررت عدم الزواج، ولكن أحمد جذبني بطريقة مختلفة، وأشعر أنه هو الذي أخرجني من مرحلة معينة في حياتي. الحب بالنسبة لي جاء بطريقة غير متوقعة، كما لو أنه نسمة باردة مفاجئة".
وأضافت: "علاقتنا بدأت بصداقة، حيث كنا نعمل معًا، كنت أعرف عائلته جيدًا، وكان يصعب عليَّ تصديق أنه يكن لي مشاعر خاصة، حتى في عيد ميلادي، فاجأني بإهدائي قطعة "بازل" على سبيل المفاجأة، وهو ما جعلني أراجع مشاعري تجاهه".
تحدثت هاجر عن اللحظة الأصعب في حياتها، وهي وفاة والدها: "كان يومًا عاديًا، صباح 16 يوليو 2018، عندما فقدت والدي. كان يعاني من مرض السرطان لفترة طويلة، وبقي يقاوم المرض لمدة عشر سنوات بعد أن خضع لجراحة إزالة المعدة. لكن عندما فقدته شعرت وكأن السجادة قد سُحبت من تحت قدميّ".
وأضافت: "لقد مررت بتجربة قاسية بعدها، وتعرضت لمشاكل صحية، حيث أصبت بشلل مؤقت بسبب الصدمة، وبقيت لفترة لا أستطيع التحرك. كان ذلك أصعب لحظة في حياتي، وأعتقد أنه لا يوجد ألم يمكن أن يفوق فقدان الأب".
وعن علاقتها بالفنان محمد الشرنوبي، أوضحت هاجر: "محمد ليس ابن عمي المباشر، بل هو ابن عم والدي. كان هناك دائمًا علاقة طيبة بيننا، ولكن لأنه أصغر مني في السن، فأنا أعتبره ابن عمي وأتحدث معه على هذا النحو".
عندما سُئلت عن مفهومها للخيانة، قالت هاجر: "الخيانة بالنسبة لي هي أن يتم خداعي أو أن يثق شخص بي ثم يخون ثقتي. لا تقتصر الخيانة فقط على العلاقات بين الرجل والمرأة، فقد تكون خيانة من صديق أو شخص أئتمنته على سر، أو حتى من شخص اعتقدت أنه يحترمني".
وأضافت: "أنا أؤمن بالفرصة الثانية، لكن هذا يعتمد على الشخص. فهناك من يستحق فرصة ثانية وهناك من لا يستحقها. وإذا خانني شخص، فإنني لن أستطيع إعطاءه فرصة جديدة، خاصة لو كان الزوج هو من خان".
وفي ختام حديثها، استذكرت هاجر الحكمة التي كان والدها يرددها دائمًا "كان أبي الله يرحمه يقول لي: "كبرها تكبر وصغرها تصغر"، كنت عندما أتعرض لمشكلة أو أجد نفسي في موقف صعب، يقول لي: إذا كبرت المشكلة ستكبر، ولكن إذا نظرت لها على أنها مشكلة تافهة، فستتمكن من تجاوزها بسهولة".