لجريدة عمان:
2025-07-29@19:41:58 GMT

مراكز الأبحاث.. حاجة راهنة في عُمان

تاريخ النشر: 20th, January 2025 GMT

في بيت عمرو بن برّاقة الشهير:

متى تجمع القلب الذكيّ وصارمًا

وأنفًا حميًّا تجتنبك المظالمُ

إشارة إلى أن من يرد أن يبعد نفسه عن المظالم عليه أن يكون مستعدّا لها بما يواجهها. التغيرات في العالم سريعة وكثيرة التوتر، ولا تحدث فقط في إطاراتها العالمية فحسب، وإنما يؤثر ما يحدث في العالم على الداخل بالضرورة، لا سيما مع تزايد سرعة العولمة في التأثير والتأثر، وسيطرة الكثير من الأفكار «العالمية» (وهي لها بلد منشأ في الحقيقة ولم تظهر من العالم هكذا، وإنما تم السعي لتحقيقها)، فإن الحاجة للمراكز البحثية يتزايد بشكل أكبر.

صدرت بعض المقالات في هذه الحاجة من قبل، فمقال للكاتب عوض باقوير في جريدة عمان في عام 2021 بعنوان «مراكز البحوث الاستراتيجية ودورها في صناعة القرار»، ومقال للصحفي عاصم الشيدي في الجريدة نفسها في عام 2023 بعنوان «عن أهمية مركز البحوث والدراسات.. وضرورته الملحة»، وغيرها. تحدثت هذه المقالات حول أهمية وجود مركز بحثي مستقل في عُمان.

يأتي هذا المقال ليؤكد هذه الضرورة والأهمية، بل وتزايدها، مع زيادة التغيرات العالمية المتسارعة، والمعنيُّ هنا بشكل خاص هو مركز بحث مستقل في الإنسانيات، إذ أن لها تأثيرا كبيرا على المجتمع لا يُمكن التقليل منه بأي شكل من الأشكال.

في أهمية وجود المركز البحثي يُمكن عدّ أربعة مجالات رئيسة، منها الحاجة الفكرية، والحاجة الاجتماعية، والحاجة السياسية، والحاجة الاقتصادية. في الحاجة الفكرية، فإن التغيرات الفكرية التي تحدث في المجتمع بشكل متسارع، وليس الأمر متعلقا بالأفكار الحداثية فقط، وإنما حتى بالأفكار الدينية، بحاجة لدراسة وتمحيص، لمعرفة كيف يتحرك المجتمع فكريا وما هي المؤثرات التي تؤثر عليه وما هي نتائجها، وهذا ليس ترفا، بل إنه مؤثر بشكل كبير لمعرفة الطبيعة الديناميكية للأفكار. أما الحاجة الاجتماعية، فإن عُمان بلدٌ متعدد ومعقد، يتشكل المجتمع فيه بعدة محددات مختلفة قد تشترك في منطقة جغرافية واحدة وقد تتباعد، ولذلك فإن دراسة هذه الهُويات الصغرى وما يتعلق بها وكيف تؤثر أو تتأثر يعطي صورة بانورامية للمجتمع ومعرفته ومعرفة ما يحتاج إليه، وقد سبق ذكر شيء مشابه لهذا في مقال «العمانيّ المتوَّهم» المنشور في جريدة عمان في 22 يوليو، 2024. يأتي دور مركز الأبحاث هنا في إعداد هذه الدراسات والأبحاث التي توفر فهما للمجتمع. والحاجة السياسية، فهي تتعلق بالقرارات الحكومية لا سيما في السياسات العامة ومدى الرضا الداخلي عنها أو مساندتها، يُمكن أن يكون ذلك من خلال دراسات تقيس الرأي العام، ومعرفة ما يحتاج إليه الداخل من قرارات أو مدى رضاه عنها، وعلى الرغم من أن المركز الوطني للإحصاء يقوم بعملٍ مشابه وجهد مشكور، فإن الحاجة لا تزال موجودة حتى في إطار تحسين عملية المشاركة السياسية وما يتأثر بها؛ لأن السلوك السياسي يُمكن أن يتم تشكيله بعوامل مختلفة منها التأثير الإعلامي الخارجي، لذلك فهم هذا السلوك وما يحتاج إليه، وفهم العلاقة بين الحكومة والمجتمع مهم ولا يُمكن تجاهله. أما الحاجة الاقتصادية، فيُمكن مطالعة مقال عوض باقوير في ذلك لأنه تطرق للحاجة الاقتصادية لمركز الأبحاث.

يساعد مركز الأبحاث كذلك في صناعة القرار، إذ أن صناعة القرار المعتمدة على أبحاث علمية وموضوعية تكون أقرب لرضا المجتمع، فإن مراكز الأبحاث قادرة على تقديم التقارير والأبحاث للاتجاهات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي بإمكانها أن تساعد صنّاع القرار على فهم الحاجة واتخاذ القرارات المبنية على أدلة. كما أن المراكز البحثية يُمكن أن تقوم بدراسة السياسات الموجودة وتحلل تأثيرها على المجتمع، إضافة لإمكانية اقتراح البدائل المبنية على دراسة النماذج العالمية والتجارب في المنطقة أو الدولية، مما يجعل إمكانية اتخاذ قرارات جيدة أكثر سهولة وفعالية. من خلال ذلك، يقوم المركز بإعداد الدراسات الاستشرافية من أجل تحديد التحديات والفرص المستقبلية، فضلا عن الخطوات الاستباقية التي يُمكن تبنّيها بناءً على هذا الاستشراف، مما يقلل المخاطر المحتملة واتخاذ القرارات بعيدة المدى. كما أن المراكز توفر الدراسات المتعمقة حول القضايا الراهنة المهمة التي تؤثر بشكل مباشر على المجتمع، وفي عُمان يُمكن أن تكون هذه القضايا محورية مثل قضية الباحثين عن عمل، والأمن الغذائي والبيئي وغيرها. ويُمكن تعديد أمثلة أخرى على مساهمة مراكز الأبحاث في صناعة القرار. وقد أنشئت وحدة دعم اتخاذ القرار خلال السنوات الماضية، مما يوفر نقلة حيوية في مساهمة الأبحاث في صناعة القرار، ومن أجل الوصول إلى الاستفادة الكبرى من عمل الوحدة، فإن أعمال إعداد الأبحاث المتخصصة والمعمقة وقياس الرأي العام الذي تعمل عليه مراكز الأبحاث يُمكن أن يكون رافدًا مهمّا وأن يضيف بُعدا أكثر حيوية لعمل الوحدة.

تساهم مراكز الأبحاث كذلك في حل قضية الباحثين عن عمل، فإن المتخصصين في العلوم الإنسانية باعتبارهم باحثين مؤهلين يُمكن أن يضيفوا أبحاثا حيوية لعمل المركز، إذ أن كثيرًا منهم وبسبب تقنية سوق العمل في كثير من الأحيان لا يتم توظيفهم في تخصصاتهم، ولذلك فإن العمل بالعلم الذي تحصلوا عليه في مسيرتهم الجامعية يُمكن أن يكون في مركز أبحاث مشابه والاستفادة منهم كلُّ بتخصصه، وفي مقال سابق بعنوان «الفلسفة في مواجهة التطرف» تم ذكر أن مشكلة عدم ملاءمة التخصص الجامعي في سوق العمل يُمكن حلها بخطوات بسيطة تحول دون إلغاء هذه التخصصات أو التقليل منها، ومنها العمل في مركز أبحاث، فكثيرٌ من المتخصصين في العلوم الإنسانية يجدون شغفهم في إكمال مسيرتهم العلمية، وخدمة بلادهم بمهاراتهم البحثية، ولكن لندرة وقلة وجود هذه المراكز فإنهم يسعون للعمل في كثير من الأحيان في وظائف ذات خلفيات مختلفة عن خلفياتهم العلمية، ولذلك فإن الاستفادة من هذه العقول والاستثمار فيها مهم. وبذكر قلة وجود المراكز، فإن المراكز البحثية الموجودة في بعض المؤسسات مثل الجامعات لا تكفي؛ لعدة أسباب، منها أولا، أنها لا تغطي الحاجة، فالناتج منها أقل من المواضيع المبحوثة، ثانيا، أنها متعلقة رأسًا بسياسات المؤسسة التي تنتمي لها ومحكومة بقراراتها، لذلك فإنها لا تعمل بحرية كافية لإنجاز أبحاث مستقلة وذات تأثير حقيقي.

وفي دول الخليج كثير من النماذج التي يُمكن الاستفادة منها لإنشاء مراكز بحثية مستقلة ومنتجة؛ فالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومركز الدوحة لحرية الإعلام وكيومك في قطر، ومركز الخليج العربي للدراسات والبحوث ومركز البحوث والدراسات الكويتية في الكويت، ومركز الخليج للأبحاث ومركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام ومركز رؤية للدراسات الاجتماعية في السعودية، وغيرها، كل هذه المراكز مستقلة ولا تتبع جهة معينة، فضلا عن المراكز الموجودة عربيا وعالميا (ثينك تانكس) التي يُمكن اعتبارها نماذج لإنشاء مركز مشابه.

إضافة لما سبق كله، يُمكن اعتبار المراكز البحثية قوة ناعمة للدول، فإنها تشير إلى أن الدولة تهتم بالعلم والأبحاث، وفي هذا السياق يُمكن أخذ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أنموذجا، فإن إنشاء المركز واستقلاليته ثم ارتباطه بمعهد الدوحة للدراسات العليا وفّر نوعا من القوة الناعمة بسبب جودة الدراسات والكتب والمجلات التي يصدرها المركز والمعهد على حد سواء، فأصبح الكثير من الباحثين في الوطن العربي والمتخصصين يقصدون هذه المراكز للبحث عن فرصة عمل بما يتوافق مع اهتماماتهم ومهاراتهم، وجديرٌ بالذكر أن منهم عمانيين فضّلوا العمل هناك حتى يتسنى لهم فتح آفاق جديدة لأنفسهم وتسخير علمهم بما يخدم العلم والبشرية والوطن العربي، هذا الترحال إلى مثل هذه المراكز ينشئ فكرة لا شك فيها بأنها مع كل أعمالها البحثية فإنها تعمل على رفد الدولة بقوة ناعمة متعلقة بالعلم والدراسات.

في الختام، يُمكن تلخيص ذلك كله في أن إنشاء مركز أبحاث مستقل في عُمان حاجة راهنة وملحة، وليس ترفًا أو مجرد إضافة يُمكن الاستغناء عنها، فإن المركز في ذاته يساهم في حل كثير من القضايا ويقدم فهما أكثر عمقًا للاحتياجات والمسائل، لذلك -وعود لبيت عمرو بن برّاقة- فإن من اجتناب المظالم العالمية والمحيطة أن يكون هناك فهم واسع لهذه القضايا من خلال وجود مركز أبحاث مستقل، غير محكوم بالعمليات البيروقراطية، ويغطي الاحتياجات البحثية. •

جاسم بني عرابة كاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی صناعة القرار مراکز الأبحاث هذه المراکز مرکز أبحاث فی ع مان ی مکن أن کثیر من أن یکون التی ی

إقرأ أيضاً:

المفوضية الأوروبية توصي بفرض قيود على الأبحاث الإسرائيلية بسبب الانتهاكات في غزة

 

الثورة نت/

اوصت المفوضية الأوروبية، بالحد من وصول الكيان الإسرائيلي إلى برنامجه الرئيسي لتمويل الأبحاث بعد دعوات من دول في الاتحاد الأوروبي لزيادة الضغط على الكيان لتخفيف الأزمة الإنسانية في قطاع غزة ووقف جرائمه في القطاع.

وقالت المفوضية في بيان، اليوم الاثنين، إن الاقتراح يأتي ردا على مراجعة امتثال “إسرائيل” لبند حقوق الإنسان في اتفاقية تحكم علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي.

وأضافت: “في حين أعلنت “إسرائيل” عن هدنة إنسانية يومية في القتال في غزة، فإن الوضع لا يزال خطيرا، مع استمرار تدهور الأوضاع الإنسانية بشكل غير مقبول في القطاع”.

واوضحت المفوضية، أن الاقتراح سيؤثر على مشاركة الكيانات “الإسرائيلية” في برنامج مجلس الابتكار الأوروبي التابع للاتحاد الذي يستهدف الشركات الناشئة والصغيرة ذات الابتكارات الحديثة والتقنيات الناشئة التي لها تطبيقات محتملة ذات استخدام مزدوج، مثل الأمن الإلكتروني والطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي.

وقالت دول عدة بالاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، إن “إسرائيل” لا تفي بالتزاماتها بموجب اتفاق مع الاتحاد بشأن زيادة إمدادات المساعدات إلى غزة، وطلبت من المفوضية وضع خيارات ملموسة على الطاولة.

وبدعم أميركي وأوروبي، يواصل جيش العدو الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة أسفرت عن استشهاد 59,921 مدنياً فلسطينياً، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وإصابة 145,233 آخرين، حتى اليوم، في حصيلة غير نهائية، حيث لا يزال الآلاف من الضحايا تحت الركام وفي الطرقات لا تستطيع طواقم الإسعاف والإنقاذ الوصول إليهم.

مقالات مشابهة

  • بعد حرب الـ12 يوما مع إيران.. بماذا أوصت مراكز الأبحاث الإسرائيلية نتنياهو؟
  • المفوضية الأوروبية توصي بفرض قيود على الأبحاث الإسرائيلية بسبب الانتهاكات في غزة
  • بسبب غزة.. مقترح أوروبي بفرض قيود على تمويل الأبحاث الإسرائيلية
  • "مقترح أوروبي" بفرض قيود على تمويل الأبحاث الإسرائيلية
  • وفد أمني يطلع على المراكز التدريبية بالهند
  • إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل تشارك بمهرجان جرش بخيمة لعرض منتوحات نزلاء المراكز
  • ماتت وهى على قيد الحياة.. الحاجة أنوار بتطلب الرحمة بكلام يقطع القلب| تفاصيل صادمة ..فيديو
  • وداعًا للفأرة والكيبورد.. سوار ميتا الثوري للكتابة والنقر بدون لمس أي شيء بيدك
  • صدور العدد الجديد من مجلة نزوى بملفات متنوعة وقضايا راهنة
  • حكاية الحاجة عزة السيد أكبر طالبة ثانوية عامة .. فيديو