لجريدة عمان:
2025-06-13@16:51:31 GMT

جماليات فانوس رمضان

تاريخ النشر: 4th, March 2025 GMT

تُستخدَم كلمة «الجماليات» عادةً في علم الجمال التقليدي للإشارة إلى القيم الفنية والجمالية المتعلقة بالفن أو العمل الفني artwork من حيث إبداعه وتَلقيه ونقده، ولكن الكلمة أصبحت تمتد الآن إلى مجال الجماليات في الحياة اليومية، كما سبق أن أوضحت في أكثر من مقال.

وأنا أستخدم الكلمة هنا في سياق هذا المجال الأخير؛ لأن الفانوس وإن لم يكن «عملًا فنيًّا» من أعمال الفنون الجميلة، إلا أنه يظل عملًا أو «شيئًا مصنوعًا» artifact له جمالياته الخاصة التي تنتمي إلى سياق الحياة اليومية في شهر رمضان تحديدًا.

ولكن قبل التطرق إلى هذا الموضوع، أود التأكيد أولًا على أنه ينتمي إلى جماليات طقوس شهر رمضان بوجه عام، وهي طقوس تعبر عنها الشعوب المسلمة على أنحاء شتى في أساليب الحياة في المأكل والمشرب والإعداد لأهلة الشهر الكريم والاحتفاء بها. ومع ذلك، يمكن القول بأن ما يجمع بينها هو فكرة التجمع والمشاركة الفيزيقية والروحية بين الناس، سواء في مآدب الطعام أو في صلاة التراويح أو في عملية الاحتفاء بالطقس نفسه.

ومع ذلك، يظل للفانوس رمزية جمالية خاصة في موروثنا العربي الثقافي والاجتماعي، فهو حاضر بقوة سواء على مستوى المتخيَّل الأسطوري أو الواقعي المتمثَّل في أشياء واقعية رمزية؛ ومن ذلك على سبيل المثال: «الفانوس السحري» الذي نجده في الحكايات مثل «ألف ليلة وليلة» وغيرها، بل إن هناك فيلمًا مصريًّا كوميديًّا قديمًا بهذا العنوان نفسه، وهو الفانوس الذي إذا عثر عليه أي شخص ودعكه بأصابعه، يخرج بذلك العِفريت أو الجان من القمقم المحبوس فيه ليحقق للشخص كل ما يتمناه جزاءً لتحريره من محبسه؛ وبذلك ترتبط الدلالة الرمزية للفانوس هنا بحالة تحقيق الأماني والأحلام. وهناك مصباح أو «فانوس علاء الدين» الذي يتطابق مع الرمز السابق نفسه وإن كان من خلال سردية معينة، وهي سردية تشير في النهاية إلى قدرة علاء الدين وإصراره على الاحتفاظ بالفانوس الذي يعني احتفاظه بالأمنيات المتحققة في مواجهة الساحر الشرير الذي يريد استعادة الفانوس.

ومثل هذه هي السرديات التي أصبحت شائعة في التراث العربي والعالمي، وكانت ملهمة للكثير من الروايات الأدبية والأفلام السينمائية. وهناك أيضًا «الفانوس البحري»: ومنه ما يُسمى «الفنار» الذي هو بناء معماري يعلوه فانوس ضخم يرسل إشارات ضوئية لكي ترشد السفن في أثناء الإبحار وتساعدها في تحديد مواقعها البحرية، وهو عادةً ما يكون قائمًا عند رأس ميناء بحري. وهناك ما هو أصغر من ذلك، وهو الفانوس البحري الذي يوضع عند رأس الجزر والشعاب المرجانية الناتئة القريبة من الشواطئ؛ لكي يحذٍّر السفن والقوارب من الارتطام بالصخور أو الشعاب، ومن ثم يهديها إلى الطريق الآمن. ومنه ما هو مجرد فانوس للإضاءة متفاوت القوة والحجم، يوضع على رأس مقدمة السفن كي ينير طريقها في أثناء الإبحار الليلي.

هذه الدلالات المتعلقة بمعاني تحقيق الأماني، والإنارة، والهداية إلى الطريق- هي جميعًا دلالات مترابطة، وهي بلا شك تشكل الخلفية الواسعة لرمزية فانوس رمضان. ومع ذلك يظل فانوس رمضان له خصوصيته وخلفيته المتعلقة بفكرة الاحتفال الديني في شهر رمضان. فانوس رمضان هو رمز احتفالي مصري أصيل، فهو جزء أصيل من الاحتفالات الدينية الرمضانية التي أدخلتها الدولة الفاطمية بمصر (وهي احتفالات تشمل إعداد الأهلة وتناول صنوف معينة من الطعام والحلوى المخصوصة). وعلى الرغم من شيوع الاحتفالات الرمضانية في كثير من بلدان العالم العربي، فإن أقربها إلى الاحتفالات المصرية تُوجَد في بلاد الشام. أما الرمزية الاحتفالية للفانوس فإنها شائعة في مصر تحديدًا، وهي تُوجَد على استحياء في غيرها، ولكنها موجودة في البلدان القريبة، خاصةً في فلسطين. ولقد احتفى المصريون بشهر رمضان، فخصصوا له الأغاني الشهيرة التي غناها السابقون واللاحقون من كِبار المطربين، وكثير منها مخصص لفانوس رمضان أو يأتي على ذكره بإعزاز.

فما ذلك الفانوس؟ الفانوس الرمضاني التقليدي مصنوع من الصفيح الأبيض المُعشَّق بالزجاج الملون غالبًا بالأصفر والأخضر والأزرق، وهو يُضاء بالشمع، وهو الفانوس الذي كنا نتجول به بعد الإفطار الرمضاني في الحواري التي يسكنها الجيران بانتظار نفحة رمضانية منهم، بينما نتغنى بالأغنية الشهيرة «وحوي يا وحوي، إياحة». وفي تفسير تلك الحالة الاحتفالية، أقتبس هنا بتصرف شيئًا مما قاله الدكتور كمال مغيث في هذا الصدد:

«كنا نحمل فوانيسنا الصغيرة المتواضعة، ونشعلها بالشمع ونمر على البيوت ونحن ننشد «وحوي يا وحوي.. إياحة، حالو يا حلو رمضان كريم يا حالو»، وكان هؤلاء الأقارب يجودون علينا ببعض التمرات، أو ببعض ثمار الفاكهة، لا أكثر من ذلك. وقد حاولت أن أفهم معني هذه الكلمات. كلمات: «وَحوي يا وَحوي إياحة»، لاهتمام أصيل يدفعني لمحاولة فك رموز الثقافة المصرية؛ فتبين لي: أن اسم «إياحة» هو اسم التدليل للأميرة «إياح حُتب» التي شجعت ابنها الثاني أحمس ودفعته إلى الانتصار على الحثيين.

وحيث إن كلمة «إياح» معناها «قمر»، وحُتب معناها «الزمان»؛ فإن هذا الاسم يعني «قمر الزمان»، بينما تعني كلمة «وَحوي»: مرحباً أو أهلاً. وتقديرًا للتضحيات وللدور البطولي لـ «إياحة»؛ فقد خرج المصريون القدماء حاملين المشاعل والمصابيح وهم يهتفون لها: «وَحوي يا وَحوي إياحة»، أي: مرحبًا يا قمر، أو أهلًا يا قمر .وهكذا أصبحت «وحوي إياحة» أو «أهلًا يا قمر»، تعويذة المصريين وشعارهم لاستقبال كل قمر يحبونه، خاصًة: قمر رمضان».

هكذا يمكن أن تبين كيف تحمل اللغة والرموز شيئًا من موروثنا الثقافي وتحتفي به، وهي حالة نتحسر عليها اليوم بعد أن اجتاحت شركات العولمة إرثنا الثقافي، فصدرت لنا الفوانيس الصينية البلاستيكية الرخيصة التي قضت على صناعتها المحلية، وجعلت من الفانوس لعبة من الألعاب في أشكال شتى، ما باعد بينه وبين أصله الثقافي الاحتفالي. ومَن يقرأ مقالي هذا من العارفين بفلسفة التأويل، سيدرك أن هذا المقال ينبع من روح التأويل عند جادامر، خاصة في مقاله الطويل للغاية عن «احتفالية المسرح» من كتابه «تجلي الجميل» الذي قمت بترجمته سنة 1999.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فانوس رمضان

إقرأ أيضاً:

49 عامًا.. الأنبا بفنوتيوس الراهب الذي صنع المجد

في حياة الشعوب، لا يُقاس الزمن بعدد السنين، بل بما تصنعه الأرواح النادرة في عمق الواقع، حين تعيد تشكيله برؤية تتجاوز اللحظة، وتغزل من الصمت حركة، ومن العدم حضورًا. وفي الكنيسة، هناك من مرّوا، وهناك من تركوا أثرًا، وهناك من صاروا مسارًا. هكذا كان، ولا يزال، نيافة الأنبا بفنوتيوس، مطران إيبارشية سمالوط.

على مدار تسعة وأربعين عامًا، منذ يوم سيامته في 13 يونيو 1976، لم تكن رحلته مجرد إدارة لشؤون إيبارشية، بل كانت نهجًا فريدًا في الفهم الروحي والتنموي لدور الكنيسة في خدمة الإنسان، عقلًا وروحًا وجسدًا.

منذ لحظة وصوله إلى سمالوط، لم يكن الواقع مشجعًا. الإيبارشية لم تكن موجودة وكانت تفتقر إلى البنية الأساسية، وتعاني من التهميش والخدمات المحدودة، والمجتمع نفسه يحمل من التقاليد والتحديات ما يكفي لتثبيط الطموح. لكن الرجل الذي جاء من عمق الرهبنة، لم يرَ ذلك عائقًا، بل بوابة. فهو لم يأتِ ليدير واقعًا، بل ليصنع واقعًا جديدًا. رؤيته كانت واضحة منذ اللحظة الأولى: بناء الإنسان قبل الحجر، وتأسيس منظومة خدمة لا تعتمد على التبرعات، بل على موارد ذاتية مستدامة، تعيد للكنيسة استقلالها وكرامتها.

خطواته الأولى بدأت ببناء هيكل إداري فعال، ثم تحولت إلى مشروعات حقيقية أحدثت تحولًا في المشهد الاجتماعي والخدمي للإيبارشية. فكانت مستشفى الراعي الصالح بمدينة سمالوط، أول مستشفى خاص في صعيد مصر بمواصفات تضاهي كبرى المؤسسات الطبية، أصبحت منارة للشفاء، ومصدر عمل لمئات الأسر. وتأسست مدارس العهد الجديد، كمشروع تربوي وتعليمي متكامل حافظ على هوية التعليم وأعاد صياغة العلاقة بين المعرفة والقيم، حتى أصبحت اليوم من أفضل المدارس على مستوى الجمهورية.

الأنبا بفنوتيوس

ثم جاء فندق العائلة المقدسة، مقامًا على سفح جبل دير العذراء بجبل الطير، يحتضنه الجمال الطبيعي ويطل على نهر النيل في مشهد روحي وسياحي نادر، ليصبح نقطة ارتكاز حقيقية لمسار العائلة المقدسة، يربط الجنوب بالشمال، والتاريخ بالحاضر. كما أطلق مشروع "لقمة هنية"، وهو منظومة خدمية متكاملة توفر السلع الغذائية للمواطنين بأسعار مناسبة، وتحقق التكافل دون اتكال. وأطلق نظامًا فريدًا لسيامة الكهنة على مذبح المطرانية ثم توزيعهم وفق احتياجات الخدمة، مع مراعاة التوافق المجتمعي بينهم وبين الشعب، وهو مسار لم تطبقه أي إيبارشية أخرى حسب علمي.

ما يميز الأنبا بفنوتيوس ليس حجم الإنجاز فحسب، بل الطريقة التي أنجز بها. هدوء العارف، وبعد نظر المفكر، وحكمة الراهب. وجهه المضيء، الذي يحمل هدوء شيوخ البراري، هو ذات الوجه الذي يقود بعينين ثابتتين نحو المستقبل، لا يعرف التردد ولا الضوضاء. هو لا يتحدث كثيرًا عن الإنجازات، لأنه يرى أن الفعل وحده هو ما يبقى. ولأنه اختار أن يكون خادمًا لا متصدرًا، ترك للتاريخ أن يشهد، وللناس أن تقول.

في زمن أصبحت فيه المعايير ضبابية، يظل الأنبا بفنوتيوس نموذجًا لرجل الدين المتكامل: قائد بروح الراهب، ومفكر بعين المعلّم، وخادم يضع المحبة فوق كل اعتبار. هو أكثر من مطران، هو حالة نادرة في تاريخ الكنيسة، ورحلة روحية وإنسانية تستحق أن تُدرّس، وأن تُروى، وأن تُحتذى.

وفي كل عام، في يوم سيامته، نُدرك أن بعض الرجال لا يُحتفل بهم في يوم، بل في كل إنجازٍ تركوه، وكل روحٍ لمسوه، وعلى إثر ذلك أقف عاجزا عن اختيار كلمات اكتبها أو حروف أسطرها لأن الأنبا بفنوتيوس ليس شخص بل فكره أيدتها الروح القدس فسار صوره حيه لحكمة سيده، كل عام ونيافتك تنجز إنجازات جديدا.

اقرأ أيضاًعيد سيامة الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط

الأنبا بفنوتيوس: الكنيسة لا تُدار من القبر

البابا تواضروس الثاني إلى الفاتيكان.. تفاصيل اللقاء وبرنامج الزيارة«صور»

مقالات مشابهة

  • النمر يوضح أسباب التعرق الذي يبلل الملابس اثناء النوم
  • من هو محمد حسين باقري رئيس الأركان الإيراني الذي اغتالته إسرائيل؟
  • ما الذي حدث في إيران ؟ ولماذا لم تُطلق المضادات؟
  • توقف قطارات النقل في تونس عن العمل.. ما الذي حصل؟
  • 49 عامًا.. الأنبا بفنوتيوس الراهب الذي صنع المجد
  • "أنا أنت".. محمد رمضان يطرح أحدث أغانيه
  • مؤرخ في جحيم غزة.. خبير فرنسي يكتب عن القطاع الذي اختفى
  • عن العنف الذي لا يبرر
  • جارف الثلوج الذي دَوَّخ فرنسا وأميركا.. من يكون هو شي منه؟
  • الانتقال الذي لا ينتقل !!