لجريدة عمان:
2025-06-13@12:36:31 GMT

دفاعًا عن كرة القدم: أي شيءٍ أكثر شعريّةً؟

تاريخ النشر: 8th, March 2025 GMT

دفاعًا عن كرة القدم: أي شيءٍ أكثر شعريّةً؟

في المسافة الفاصلة بين فندق كراون بلازا القرم وقلعة الميراني في مطرح، وبينما أقود سيارتي رفقة الأديب العالمي ألبرتو مانغويل وآخرين، يخالجني شعور بأنني أتوجّه بسيارتي المتهالكة إلى مسرحٍ تمتد خَشَبَتُهُ على سطح بحر عُمان الذي كان في تلك الليلة فقط، يَعِدُ بأنّ يتّسع لكل ما قرأتُه يومًا، وكانت مخيلتي جاهزةً لإنتاج ذلك كله بتحفيزٍ من حكايات "الرجل المكتبة".

إلا أنني بادرت مُتهورًا بالتصريح لألبرتو بأن أساس علاقتي ببلدِه الأرجنتين هو كرة القدم، محاولًا استفزاز أرجنتينيَّتَهُ نحو حديثٍ عن شعرية كرة القدم، وعن فوز الأرجنتين بكأس العالم 2022، وعما فعله الأرجنتينيون إبان ذلك في الدوحة، واختتمتُ بتأكيدٍ على أن كرة القدم قادرة على صناعة نشوةٍ أصيلةٍ، إنسانيّةٍ، وحقيقيّة. فقال: "لليلة واحدةٍ فقط، ثم يعود كل أولئك إلى منازلهم، حيث لا طعام على الطاولة" وأردف مقتبسًا عن الشاعر الروماني جوفينال بسخرية يائسة: "أعطهم الخبز والسيرك، ولن يثوروا أبدًا"، ليؤكد بذلك على أن المتعة التي تحققها كرة القدم ليست في النهاية إلا إلهاءً، وستارًا يتخفى الساسة الفسدة وراءه، كما آمن من قبله معلّمه؛ خورخي لويس بورخيس.

أستعيد المشهد أثناء قراءة كتاب "الظاهرة مارادونا" بعدها بأسبوع، متسائلًا: إلى أي مدىً يمكن تحميل كرة القدم وحدها المسؤولية؟ هذا الكتاب الذي شارك في تأليفه عددٌ من الفلاسفة والمفكرين والصحفيين، وقَدّمَهُ فرناندو سينيوريني، وهو المدرّب البدني لمارادونا في سنوات مجده، يُختَتَمُ بمقابلة صحفيّة مع "علي بناكور" الحكم التونسي الذي خانته عيناهُ أمام هدف مارادونا غير الشرعي، الذي يُعرف اليوم في كل العالم باسم "يد الرب". الكتاب الصادر عن مكتبة مُبتدأ في مصر، مكون من 8 فصول في المجمل، سأتناول اثنين منها.

يثيرني هذا النوع من الكتب التي تتناول موضوعًا معينًا في سياقات لا يبدو -على السطح- أنها ترتبط بالموضوع، فما الذي يجعل فيلسوفًا سياسيًّا أمضى حياته ينبش في فلسفة "هايدغر" يهتم بمارادونا، وما هو الرابط الذي قد يدعو مختصًّا مثل سانتياغو زابالا - وهوأستاذ بالمعهد الكتالوني للبحوث والدراسات المتقدمة في جامعة "بومبيو فابرا" في برشلونة- لاستدعاء هايدغر لفهم "الفلسفة الكامنة وراء تمرد مارادونا"؟ يقول زابالا في الفصل الثاني من الكتاب: "لا يجمع بين هايدغر و مارادونا الكثير من القواسم المشتركة، باستثناء أنهما ارتكبا خطأً فادحًا"، وبينما اعتذر هايدغر عن خطأه الفادح –الانتماء للحزب النازي- بحجة أن من يفكر كثيرًا، يُخطئ كثيرًا، قال ماردونا: "يحلو لي الغرق في هذا البحر"، مشيرًا إلى حياته في الملعب وخارجه، في الشخصي والعام، بحلوها ومرّها وكثير فضائحها. ينطلق زابالا من اشتغالات هايدغر ومن تأثروا به لاحقًا في الهيرمونيطيقا والتأويل، لينتهي إلى تأكيد أن تمرّد مارادونا الاجتماعي والسياسي قد لا ينبع بالضرورة من حقيقة أنه أوجد نموذجًا جديدًا، بل ينبع من تأويل جديدٍ يتيح له رؤية الظلم الذي يرزح تحته الضعفاء. ولا ينظر زابالا إلى نضالات هايدغر ومارادونا بوصفها نضالات الأقوياء التي يُقدمّها التاريخ لنا مُنتصرةً وعقلانيّة، بل بوصفها نضالات المضطهدين والضعفاء الذين يبدو ماضيهم هشًّا ومن ثمّ كثيرًا ما ينسى. في نهاية هذا الفصل ربما نستطيع فهم تمرّد مارادونا بشكلٍ أفضل عبر اشتغال هايدغر على ربط التأويل بالوجود؛ فبحسب زابالا كان التقاطع الأهم بين الاسمين متعلقًّا بتوسيع البعد الوجودي لعملهما، حيث لم تعد كرة القدم "مجرد لعبة" بعد مارادونا، ولم يعد التأويل اختصاصًا لاهوتيًّا بعد هايدغر.

في الفصل الثالث، يطوف بنا براد إيفانز -أستاذ الجماليات والعنف السياسي في جامعة "باث" بإنجلترا- وهو الفيلسوف السياسي والناقد النظري المختص في دراسة العنف، حول لحظات مختلفة من حياة دييغو مارادونا، بأسلوب يُفصح عن الحمولات الشعرية للعبة، عابرًا بوعي القارئ العاشق للكرة حول مفاهيم وقضايا مختلفة تتعلق بالعالم في ظل لهاثه التقني الاقتصاديّ، وأخرى تتعلق بالاجتماع والسياسة، مرورًا بتاريخ الأرجنتين السياسي المظلم، ومفاهيم حول الجمال والشغف والحياة. المحور الرئيس في هذا الفصل المعنون بـ "لحظة اللحظات" هي تلك اللحظة التي طار فيها مارادونا ليضرب الكرة برأسه أو بيده -لن نعرف أبدًا ما كان ينوي قبل القفز- إلا أنه ضربها بيده وأدخلها في شباك الإنجليز، مسجّلًا أشهر هدف في تاريخ كرة القدم. يتفرع إيفانز من هذه اللحظة تحديدًا عبر شبكة شديدة التعقيد إلى نواحٍ عدّة تتعلق باللعبة والحياة والعالم. فبهدفٍ غير شرعيّ في عام 1986 تحققت -مرةً أخرى- رؤية هايدغر فيما يتعلق بالتكنولوجيا؛ حيث يرى إيفانز أن دخول التقنية على اللعبة لا يهدف إلى مزيدٍ من الشفافية، بل في الواقع إلى تجريدها من أهمّ ما يُميّزها؛ وهو الإنسان. وبذاتِ الهدف/اللحظة تمكن الأرجنتينيون من الانتصار في حربٍ كانوا قد هُزِموا فيها قبل أعوام أربعة، وانطلاقا من ذاتِ اللقطة/اللحظة، يتناول إيفانز فكرة الفوتوغراف (أو الصورة) وما يُمكن لها أن تعطي، والأهم، أن تأخذ. وفي نهاية الفصل الثالث يتحقق القارئ من ادعاء سانتياغو زابالا في الفصل الثاني حول أخذِ مارادونا البعدَ الوجودي لكرة القدم إلى "ما وراء الملعب"، وقد يتساءل، هل أخذ المستطيل الأخضر الوجودَ أجمع -بطريقة أو أخرى- إلى "ما وراءٍ" آخر؟ كأن يكون "مارادونا هو الاستثناء، وكرة القدم هي القاعدة"؟

بالنسبة لي، يمثل الانتهاء من قراءة كتابٍ كهذا، لحظة من لحظات القراءة المُثلى، فقد وجدت نفسي في حضرة نصٍّ واحدٍ يجمع اهتماماتي كلّها ويصبّها في نسيج معقّد شديد الوضوح يمكنني رؤيته بعقلي وقلبي في آن. لحظاتٍ كهذه هي ما أصبحت قارئًا من أجلها. وبالمثل فيما يتعلق بالشغف باللعبة، يدفعك هذا الكتاب نحو التساؤل عما إذا كان ممكنًا لأي "لهوٍ" آخر أن يكون أكثر شعريّة من كرة القدم. وإن استخدم الساسة الفسدة كرة القدم لإلهاء الشعوب، فذلك لأنها تقدّم بالفعل مردودًا عاطفيًّا أصيلًا، يمكن استثماره في فهم العالم والوجود، ويمكن بالتالي استثمارهُ في الخداع. ثُمّ وبكل الممكن من اللاعقلانية أعود لأتساءل: ما الذي لن يستغله الساسة أصلًا؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: د مارادونا کرة القدم

إقرأ أيضاً:

فلسفة نشوء الدول عبر التاريخ.. بحوث أكاديمية للدكتور عزمي بشارة

دمشق-سانا

يقدم المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في كتابه الصادر بعنوان “مسألة الدولة” بحوثاً تتسم بلغة أكاديمية عالية، تناول فيها فلسفة ونظريات نشوء الدول، منطلقاً من مدارس مختلفة في العلوم السياسية وعلم الاجتماع.

ويأتي الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مكملاً لكتاب المجتمع المدني الذي أصدره بشارة قبل ثلاثين عاماً، والذي بحث من خلاله وصف الدولة.

يشمل كتاب مسألة الدولة جزأين تضمن الأول أحد عشر فصلاً، والثاني ثلاثة فصول نظراً لغزارة المعطيات والتفاصيل، حيث حاول المؤلف خلال هذه الفصول تكريس نظرة مختلفة للدولة وفق مفهومٍ نقدي إنساني، مستخدماً رؤى متباينة بين الجماعاتية “الجماعية” والليبرالية والماركسية، مستعرضاً آثار العولمة ومرحلة ما بعد الدولة.

يبحر الجزء الأول عميقاً في نشوء الدولة عبر التاريخ، والمراحل التي قطعتها، ففي الفصل الأول يعالج المؤلف أهمية دراسة الدولة وخطورة الاستخفاف بهذا المبحث، ويطرح تعريفات للدولة عبر استقراء واقع عدد من الأنظمة، ثم ينتقل إلى التمييز بين الدولة القديمة بوصفها علاقة بين الحكّام والمحكومين، وبين الدولة الحديثة التي تجمع الحكّام والمحكومين في كيانٍ مشترك.

أما الفصل الثاني فخصص للتمييز بين الفلسفة السياسية والنظرية السياسية التي لا تستغني عن المنهج العلمي، مؤكداً ضرورة تجنب تفسير الظواهر الاجتماعية المركبة وفق مبدأ واحد، لأن ذلك يقود إلى الأيديولوجيا.

ويعتبر الفصل الثالث أن التاريخ لم يبدأ بأفراد، بل بجماعات شكلت الدول القديمة، ويشرح أن الدولة الحديثة لم تنشأ من فراغ، بل من سلطات قائمة توسعت إقليميّاً لتتحوّل إلى سيادة وقانون، وارتكزت شرعية الدولة الحديثة على الحكم.

الفصل الرابع أشار إلى أن منظري الدولة الأوائل هم من دافعوا عن سلطات الملك ضد تدخّل الكنيسة، حيث اعتقدوا أن رفع الدولة فوقها هو الحل، وذلك بتحقيق الإجماع على كيان سياسي مشترك يجسده الحاكم، كما يخصص هذا الفصل مساحة واسعة لمناقشة أفكار روسّو والتي أكدت على العدالة، وعلى أهمية تمثيل الإرادة للمواطنين في تثبيت شرعية الدولة.

ويُفرد الفصل الخامس مساحة للحديث عن آراء هيغل وكانط، حول فكرتَي الحرية والأخلاق، وأن الدولة هي من يجسّد العرف الأخلاقي، فيما يدور الفصل السادس حول السجال الدائر حول اعتبار الدولة شخصاً معنوياً فوق المجتمع.

ويتحدث الفصل السابع عن معايير وحدود سيادة الدولة، وأن وصفها بالمطلقة لا يعني أنها بلا حدود، لينتقل المؤلف في الفصلين الثامن والتاسع لتعريف الدولة وأن المواطنة مكون أساسي فيها.

ويتحدث الفصل العاشر عن استحالة الفصل بين الدولة ونظام الحكم ما قبل الحداثة، فيما يتناول الفصل الحادي عشر والأخير الفرق بين بناء الدولة وبناء الأمة والعلاقة بينهما، وكذلك دور القوميات في نشوء الدول المعاصرة، ودور الدول في تشكيل الجماعات الأهلية وأثرها على المواطنة.

نجد في القسم الأول من الكتاب بحثاً في منشأ ومسار الدول في الحضارة الإسلامية، حيث يلفت إلى تميّز الدولة العثمانية تشريعيّاً عن دول الحضارة الإسلامية الأخرى، ويعرض الانتقال من فكرة “الرعية” إلى مفهوم “المواطَنة العثمانية” في نظام الحكم، وأن غالبية مؤسسات الدول الوطنية في البلاد العربية والمشرق لم تكن نتاج مرحلة الاستعمار بل مرحلة التحديث والإصلاح العثمانيين.

أما القسم الثاني فيحتوي على ثلاثة فصول تناقش قضية السيادة والمواطَنة، وبناء جهاز الدولة، والعلاقة بين النخب القديمة والحديثة، وحالات نشوء الدولة الوطنية في خمسة بلدان عربية، هي مصر وتونس والمغرب وسوريا والجزائر، مبيناً أن البيروقراطية المركزية والحدود الترابية ظهرتا في تونس ومصر قبل الاستعمار.

ويناقش القسم الثالث مهمات الدولة الحديثة التي لم تعرفها الدولة التقليدية كالتنمية، والخدمات، وتوقعات المواطنين منها، كما يبحث انتقال إستراتيجيات الجماعات الأهلية من رفض السلطة إلى المشاركة فيها من دون المرور بمرحلة المواطَنة.

يذكر أن الدكتور عزمي بشارة كاتب وباحث، نُشر له العديد من الكتب والدراسات والبحوث بلغات مختلفة في الفكر السياسي، والنظرية الاجتماعية، والفلسفة، يشغل بشارة منصب المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ويرأس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا.

تابعوا أخبار سانا على

مقالات مشابهة

  • لماذا لم تتمكن الدفاعات الإيرانية من صد الهجمات الإسرائيلية؟
  • فضيحة تأشيرة تُقصي أيرتون كوستا من مونديال الأندية وتربك دفاع بوكا جونيورز
  • «التربية» تعلن الجدول الزمني لاختبار الفترة التعويضية لنهاية الفصل الدراسي الثالث
  • وكيل دفاع النواب: لا يمكن المزايدة على دور مصر في القضية الفلسطينية
  • من دون الفصل السابع تبقىاليونيفيل شاهدًا ما شفش حاجة
  • أسينسيو وهويسن في قلب دفاع ريال مدريد أمام الهلال
  • من سيقود دفاع الأهلي؟ ريبييرو يفاضل بين بيكهام وأشرف داري لقيادة الدفاع في مونديال الأندية
  • بالصوت والصورة.. كاميرات مراقبة في قاعات الامتحانات
  • فلسطيني يسيطر على سلاح جندي إسرائيلي ويصيب4 جنود دفاعًا عن شقيقه(فيديو)
  • فلسفة نشوء الدول عبر التاريخ.. بحوث أكاديمية للدكتور عزمي بشارة