شهد السودان بعد انقلاب الجيش في أكتوبر 2021 انحدارًا غير مسبوق في مستوى الخطاب السياسي، حيث لم تقتصر التفاهة والانحدار اللغوي على الإسلاميين فحسب، بل شملت أيضًا القوى المدنية بمختلف تياراتها، إضافة إلى المؤسسة العسكرية التي حاولت تبرير استحواذها على السلطة عبر خطاب يقوم على التخويف والتبرير السياسي المراوغ.

يعكس هذا التدهور أزمة أعمق في الفكر السياسي السوداني، حيث أصبح الخطاب أداةً للتعبئة العاطفية والتخوين بدلًا من أن يكون وسيلةً للحوار العقلاني وبناء التوافق الوطني.
الخطاب السياسي كأداة للهيمنة والإقصاء
لم يعد الخطاب السياسي في السودان وسيلةً لنقل الأفكار أو النقاش الموضوعي، بل تحول إلى سلاح لإقصاء الخصوم وإحكام السيطرة السياسية. الإسلاميون، الذين وجدوا أنفسهم خارج السلطة بعد ثورة ديسمبر 2019، استخدموا خطابًا دينيًا متشددًا، متهمين القوى المدنية بالعمالة للخارج والسعي لتدمير هوية البلاد الإسلامية. في المقابل، لم يكن خطاب القوى المدنية أكثر نضجًا؛ إذ لجأت إلى التخوين المتبادل وانقسمت بين مناصري الانقلاب ومعارضيه، مما أضعف موقفها وسهّل على العسكر الاحتفاظ بالسلطة.
الكتلة الديمقراطية التناقض بين الخطاب والممارسة
برزت الكتلة الديمقراطية، التي ضمت قوى سياسية وحركات مسلحة مثل حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان، كلاعب رئيسي في المشهد السياسي بعد الانقلاب. هذه الكتلة سعت في البداية إلى تبرير الانقلاب واتهام قوى الثورة بالفشل في الحكم، لكنها عادت لاحقًا لتبني خطابًا مدنيًا يطالب بعودة الديمقراطية، رغم دعمها السابق للحكم العسكري. هذه الازدواجية أضعفت موقفها السياسي وكشفت عن غياب رؤية واضحة، حيث بدت مواقفها محكومة بالمصالح المرحلية أكثر من المبادئ الديمقراطية.
خطاب العسكر التخويف والتبرير السياسي
من جهته، لجأ الجيش إلى خطاب يركز على حماية الأمن القومي والاستقرار، محاولًا تصوير الانقلاب كخطوة ضرورية لإنقاذ البلاد من الفوضى. استخدم القادة العسكريون لغة التخويف من "الفراغ السياسي" و"الانزلاق نحو الفوضى" لتبرير بقائهم في السلطة. كما عمل الإعلام الرسمي على الترويج لرواية مفادها أن الجيش هو الضامن الوحيد لوحدة السودان، متجاهلًا حقيقة أن الانقلاب هو الذي أدى إلى تفاقم الأزمة السياسية.
مقارنة بين خطاب الإسلاميين، القوى المدنية، والعسكر
الفاعل السياسي
أبرز سمات الخطاب
الإسلاميون خطاب ديني متشدد، تخوين الخصوم، تصوير المدنيين كعملاء للغرب

القوى المدنية (الكتلة الديمقراطية) تناقض في المواقف، خطاب مزدوج بين دعم الانقلاب والمطالبة بالديمقراطية

المؤسسة العسكرية خطاب التخويف، تبرير الانقلاب، احتكار الوطنية

تأثير الخطاب السياسي على المشهد العام
ساهم هذا الخطاب المشوه في عدة نتائج خطيرة-
إضعاف فرص التحول الديمقراطي - لا يمكن بناء دولة مدنية في ظل خطاب يقوم على التخوين والإقصاء.
تعميق الانقسامات داخل القوى المدنية- التشرذم أضعف موقف القوى المناهضة للانقلاب وأطال أمد الأزمة.
إفقاد الجماهير الثقة في النخب السياسية- عندما يصبح الخطاب السياسي مجرد شعارات خاوية، يفقد المواطنون إيمانهم بالعملية السياسية برمتها.
كيف يمكن تصحيح المسار؟
لإصلاح الخطاب السياسي، لا بد من -وقف حملات التشويه المتبادل: الحوار بين القوى المختلفة ضرورة لإنهاء حالة الاستقطاب.
إعادة تعريف الأولويات - التركيز على القضايا الجوهرية مثل الاقتصاد والأمن بدلاً من الصراعات الأيديولوجية.
ضبط الإعلام السياسي- يجب أن يكون الإعلام منصة توعوية بدلاً من أداة للتحريض والتضليل.
إن تفاهة الخطاب السياسي في السودان اليوم ليست مجرد أزمة لغوية، بل انعكاس لأزمة سياسية وفكرية أعمق. وكلما استمر هذا الانحدار، زادت صعوبة الوصول إلى حل سياسي حقيقي يعيد الاستقرار إلى البلاد.
المطلوب اليوم هو خطاب سياسي مسؤول، يعكس التحديات الحقيقية التي تواجه السودان، بدلاً من الاكتفاء بإعادة إنتاج نفس المفردات التخوينية والمواقف المتناقضة.

[email protected]  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الخطاب السیاسی القوى المدنیة خطاب ا

إقرأ أيضاً:

إبراهيم عثمان يكتب: تبرير العدوان: لماذا حدث ولماذا فشل؟

*إذا قيل لأنصار “قحت”، في أيام ترديد قياداتهم لمقولة “لا بديل للإطاري إلا الحرب”: (إذا تمرد الدعم السريع، واحتل بيوتكم، ودعمت الإمارات تمرده، فإن قادتكم سيدافعون عنهما)، الأكيد أن ردهم جميعاً كان سيكون هو التكذيب، لتسليمهم ــ في ذلك الوقت ــ بخطئه إذا وقع، لكن “بعضهم”، قبلوا بهذا الدفاع عندما حدث فعلاً!*

*البحث في هذه الظاهرة يكشف عن قواعد لتبرير الفعل بعد وقوعه بينما كان يُستَنكَر عندما كان افتراضاً. هذه القواعد رصدها منظرون في عدة تخصصات، يمكن تلخيص منطقها في العبارة: (عندما ينعدم المبدأ يصبح التبرير فناً للبقاء: ما دام يحقق مصلحة سياسية، يجب تفهمه، بدلاً من ما دام انحرافاً عن المبدأ، يجب استنكاره)*

١. *نظرية التنافر المعرفي*: يصبح المبدأ عبئاً داخلياً: ما دام الخطأ يخص فصيلي، يجب تبريره، بدلاً من: ما دام يتعارض مع قيمي، يجب رفضه!
٢. *انحياز الإدراك المتأخر*: يصبح العدوان مشفوع بالحكمة: ما دام حدث، فلا بد أنه كان مبرراً، بدلاً من: ما دام خطأً، كان يجب تفاديه!

٣. *الانحياز التأكيدي*: يصبح الفعل دليلاً للهوى: ما دام يخدم تصوري، يجب دعمه، بدلاً من: ما دام يخرق المبدأ، يجب استنكاره!
٤. *تقليل التكلفة النفسية*: يصبح الخطأ تضحية محتملة: ما دام خفف ألماً أكبر، فهو مبرَّر، بدلاً من: ما دام ظلماً، فهو مرفوض!

٥. *ضغط المجموعة والهوية الاجتماعية*: يصبح الولاء معياراً للأخلاق: ما دام الخطأ من جماعتنا، يجب تفهّمه، بدلاً من: ما دام غير أخلاقي، يجب نقده!

٦. *الاستقطاب السياسي*: يصبح النقد خيانة: ما دام النقد يضعف صفنا، يجب السكوت عنه، بدلاً من: ما دام خطأ، يجب قوله!

٧. *التعود على التبرير للخارج*: يصبح الانتهاك مجرد حدث عادي: ما دام وقع، فهو طبيعي، بدلاً من ما دام عدواناً، فهو مدان!

٨. *أخلاق المبدأ مقابل أخلاق الموقف*: يصبح السياق حَكماً على الأخلاق: ما دام في ظرف استثنائي، يجب تفهّمه، بدلاً من ما دام لا أخلاقي، يجب رفضه!

٩. *البراغماتية الأخلاقية*: يصبح الفعل وظيفةً للمنفعة: ما دام يحقق نتيجةً، فهو صواب، بدلاً من: ما دام ظلماً، فنتيجته لا تبرره!

١٠. *النسبية الأخلاقية العملية*: يصبح المعتدي هو المعيار: ما دام من حليفنا يجوز فعله، بدلاً من: ما دام فعله سيئاً فهو مرفوض!

١١. *التواطؤ اللاشعوري*: يصبح التبرير تلقائياً: ما دام التبرير يحمي هويتي، فهو معقول، بدلاً من: ما دام غير أخلاقي، فلا مبرر له!

١٢. *شرعية الجماعة مقابل شرعية الدولة*: يصبح الولاء للجماعة هو المعيار: ما دام يخدم جماعتنا، فهو مشروع، بدلاً من: ما دام يضر الدولة، فهو مرفوض!

١٣. *التحول اللغوي بعد الفعل*: يصبح السرد أداة للتبرئة: ما دام حدث، يجب تبريره، بدلاً من: ما دام ظلماً، يجب إدانته!
١٤. *تكييف المعنى بعد الصدمة*: يصبح المعنى وظيفة للبقاء: ما دام يخفف الألم، فهو تفسير مقبول بدلاً من: ما دام يخالف الحقيقة، فهو تواطؤ!

١٥. *الضرورة والواقعية* يصبح الواقع معيار الحكم: ما دام وقع، فهو أمر يجب تقبله، بدلاً من: ما دام خطأ، يجب تصحيحه!

١٦. *نظرية السباحة مع التيار*: يصبح رأي الجماعة منجاة: ما دام الكل في جماعتي يبرره، لا حاجة للاستنكار، بدلاً من: ما دام خطأ، فالعدد لا يغيّره!

١٧. *تأثير التأطير السياسي*: يصبح الخطأ مؤطراً كواجب: ما دام في سرديتنا، فهو مبرر، بدلاً من: ما دام اعتداءً، فهو مدان مهما قيل!

١٨. *استهداف الآخر*: يصبح العدوان انتصاراً: ما دام ضد خصومنا، فهو تطهير، بدلاً من: ما دام ضد أبرياء، فهو جريمة!

١٩. *تآكل القيم الشخصية*: يصبح الضمير صامتاً: ما دام يخص فصيلي، فلا بأس. بدلاً من: ما دام لا أخلاقياً، لن أبرره!

٢٠. *غياب التفكير النقدي*: يصبح العقل قيداً للمبدأ: ما دام التبرير يخدم جماعتنا، فليمر، بدلاً من: ما دام يتعارض مع العدالة، يجب رفضه!
*لماذا فشل دفاعهم وتحول إلى فضيحة؟*
١. *فقدان الشرعية الأساسية*: يُبنى الدفاع على قضية تفتقر لأي سند أخلاقي أو قانوني واضح.
٢. *تضارب الإطار القيمي مع القيم العامة*: الإطار الأخلاقي المستخدم في الخطاب شاذ عن الحس الجمعي المتمسك بالسيادة.

٣. *انتهاك العقد الاجتماعي الضمني*: حين يدافع المتحدّث عن جهة أو ممارسة تُعتبر مهدّدة للأمان الجماعي يشعر الجمهور أن المتحدث تخلّى عن التزامه الأخلاقي تجاه المجتمع.
٤. *رد الفعل العكسي (تأثير بوميرانج)*: الرسالة تؤدي لنتائج معاكسة لما أرادت. كلما زاد الإلحاح في الخطاب، ازداد تشبث الجمهور بموقفه الأصلي. ويُفهم الخطاب كضغط أو محاولة تضليل، فيولّد نفوراً مضاعفا.

٥. *تشوّه هوية المدافِع*: الدفاع يُظهِر المتحدث كأنه يتبنّى هوية الخصم، ويضيع التمييز بين من يتحدث ومن يدافع عنهم. ويُفسَّر دفاعه كتنازل عن الانتماء الوطني.

٦. *إخفاق الإطار المقارن*: عند استخدام مقارنات تهوينية أو موازين غير عادلة, يُفسَّر ذلك كتقليل من الضرر على الوطن والمواطنين أو تسطيح للكارثة، وهذا يجعل الخطاب مُستفزاً أكثر من كونه مقنعاً.

٧. *فرط الإفلاس المنطقي*: اعتماد الدفاع على حجج فارغة يُفهم منه أنه خطاب مفصول عن الواقع المعاش. ويُقرَأ كتعالٍ لغوي لا كشرح منطقي.

٨. *انكشاف التموضع الشخصي*: عندما يبدو الخطاب مدفوعاً بمنفعة أو مصلحة ذاتية. يُستنتج أن المتحدث يبرر لنفسه لا للآخرين. ويفقد المتحدث مصداقيته فوراً.

٩. *الانفصال الوجداني:* فشل المتحدّث في مخاطبة الحس الأخلاقي أو العاطفي للجمهور، وهذا يجعل الخطاب جافاً، ميكانيكياً، بارداً. ويحدث انفصال وجداني يضعف التعاطف ويمنع الإقناع.

١٠. *التعارض مع الخبرة الجمعية*: حين يناقض الدفاع ما شاهده أو عاشه الناس بأنفسهم يُستقبل الخطاب كتزوير للواقع لا تفسير له. وهذا يرفع حساسية الجمهور تجاه الكذب والتلاعب.

١١. *التوظيف السيئ للسلطة الرمزية*: استغلال المنصب الرسمي السابق لإضفاء شرعية مزيفة على الحديث. استخدام الهيبة الوظيفية السابقة لإقناع الغرب بعدم استحقاق المعتدي للإدانة.

١٢. *إشكالية الإقامة في الدولة المعتدية*: وجود المتحدث في جغرافيا الطرف المدافع عنه يؤدي إلى تفسير الدفاع كتأثير طبيعي للإقامة. ويحول الخطاب إلى شهادة ملوثة بالتبعية المكانية.

١٣. *التجاهل المتعمد للوقائع الجوهرية*: تحاشي مناقشة الوقائع الصلبة في القضية، والتركيز على هوامش القضية بدل جوهرها. وهذا يثير الشكوك حول نية المتحدث الحقيقية.
١٤. *تأثير التمويل:* إعلان الكيان الذي يرأسه المتحدث عن تمويل منظمات غربية لأنشطته يفتح باب الظن بأن التمويل ليس غربياً فقط. خاصةً وأن الدولة التي يدافع عنها مشهورة بتمويل أنشطة القوى الموالية لها.

١٥. *المراوغة في الإجابة على الأسئلة المباشرة*: التحايل على الأسئلة المحورية بدل مواجهتها واستخدام أسلوب الكلام الكثير بلا معنى يطعن في مصداقية المدافع.
١٦. *الاستخفاف بالذكاء الجمعي*: إنتاج خطاب يفترض سذاجة المتلقي، ومحاولات التضليل بأدلة واهية. تؤدي إلى نتائج عكسية تزيد من تشبث الجمهور بالرفض

١٧. *الافتقار للحلول البديلة:* اقتصار الخطاب على تبرير العدوان دون حلول، وعدم تقديم رؤى عملية قابلة للتطبيق، يؤدي إلى تحوله إلى دفاع نظري مجرد من الفعالية. ويثير الشكوك المشروعة بأن المدافع يرغب في تحقيق العدوان لأهدافه.

إبراهيم عثمان

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • كرت تفاوض: حكومة المليشيا: مقاربات وخيارات
  • محاكمات الشجرة (يوليو 1971): مهرجان الكلاب الجائعة
  • خالد أبو بكر عن خطاب الرئيس السيسى : عبّر عن كل مصري واعٍ ومُدرك لتحديات الأمن القومي
  • صحيفة بريطانية: غزة مشرحة مفتوحة ورائحة الموت تزكم الأنوف في كل مكان
  • منظمات أممية: السودان بحاجة ماسة للدعم مع عودة 1.3 مليون نازح
  • اجتماع الرباعية الدولية في واشنطن: تدخلات خارجية ومصالح متضاربة في ملف السودان
  • السودان يهزم نيجيريا ويتأهل لدور الأربعة في الدورة المدرسية الإفريقية
  • ترامب: مراكز توزيع الطعام في غزة ستكون مفتوحة دون قيود
  • الحُكومة الأردنية ترد على دعوى الفوضى في خطاب حماس
  • إبراهيم عثمان يكتب: تبرير العدوان: لماذا حدث ولماذا فشل؟