لم يكن غريبا ولا مفاجئا اليوم أن تُنشر دراسات وتؤلّفَ كتبٌ وتُكتب بحوث غزيرة عن غزة بعد "طوفان الأقصى" وما بعد "العدوان على غزة"، كما وصدرت مؤلفات ترصد حالة "العالم بعد غزة". فالحدث وإن بدا فلسطينيا، فقد استحال حدثا إقليميا ودوليا، شد أنظار العالم كله، وتحوّل إلى حدث كوني، تنشدّ إليه الأنظار بالليل والنهار، بل وتنخرط في الاهتمام به جل القوى العالمية بشكل أو بآخر، تحيزا لإسرائيل ومشاركتها في العدوان ودعما لها، أو رفضا للإبادة وإدانة لها، أو سعيا لوقف العدوان أو احتواء تداعياته التي فاضت خارج حدود الإقليم، أمنيا واقتصاديا وعسكريا لتطال تأثيراتها أنحاء العالم بشكل مباشر وغير مباشر.



الطوفان الكوني.. من حدث فلسطيني إلى قضية عالمية

وما شد الانتباه ولفت الأنظار إلى جانب التفاعلات الكونية الصاخبة مع الطوفان، مشهد التجلّي الهوياتي المنبثق بشكل لافت في خضم هذا الحدث الطوفاني. إذ بدت شعوب العالم في سياق هذا "الطوفان" الهادر، وكأنها تكتشف نفسها من جديد، هوية وانتماء واهتماما.

بقدر ما كان العدوان إباديا، لطمس كل شيء بما في ذلك الهوية، بقدر ما كانت ملحمة التصدي لهذا العدوان والحراك العالمي المساند له والرافض للعدوان، منعرجا حاسما باتجاه إعادة اكتشاف الهوية وترسيخا لها. لقد بدا واضحا أنه بقدر ما ينكسر المشروع الإبادي أهدافا، ويتفسّخ كيانا، بقدر ما انتشر مشروع التحرر كفاحا، وتقدّم استقلالا.فقد فجّر طوفان الأقصى وما بعده من عدوان إبادي على غزة، وما أحدثه من صدمة في الضمير الإنساني العالمي، سؤال الهوية والانتماء والاهتمام، محدثا تحولا نوعيا وكميا غير مسبوق في الاتجاه السلوكي لشعوب العالم، ومواقفها. ولا نبالغ إذا قلنا إن أول ملامح هذا التحول، تجلّت في مغادرة مساحات التفاهة التي كانت تكتسح المشهد العام حول العالم، والتعافي من سفاهة الاهتمامات، لا سيما التي كانت تهدد جيل الشباب. وبرز هذا التحول جليا في نتائج استطلاعات رأي، كانت مثيرة ولافتة، استوجبت وقفات لمراكز صناعة القرار وراسمي السياسات العامة. فقد ارتفع الوعي والاهتمام الكبير بالقضايا العادلة، لا سيما القضية الفلسطينية بشكل لافت وغير مسبوق. وبات الشباب عموما وشباب الجامعات خصوصا، منخرطين بشكل متزايد ومتصاعد في التحركات الطلابية والشعبية رفضا للحرب وتضامنا مع غزة، بينما لم يكن جلّهم يعرف اهتماما أو انخراطا في قضايا الشأن العام أو القضايا السياسية.

صدمة الهوية.. اكتشاف الذات في مواجهة العدوان

مثّلت مرحلة ما بعد "طوفان الأقصى" لحظة اكتشفت فيها قطاعات شعبية من الرأي العالم العالمي هويتها مجددا. فبين المتابعة الحية للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة في غزة وما يصدر عن بعض القوى العالمية الكبرى لا سيما الغربية منها من مواقف متماهية وداعمة ومنخرطة في هذا الحرب الإبادية، اكتشفت الشعوب حقيقة أنظمتها، وشهدت على مواقفها الداعمة بدون تحفظ لإسرائيل، بل ومشاركتها في العدوان بجسر جوي من السلاح والذخيرة، وآخر من المساعدات الاستخباراتية، وثالث من المساعدات الاقتصادية، ورابع من الغطاء الدبلوماسي، وخامس من شيطنة واستهداف الرافضين للحرب والعدوان المطالبين بحقن الدماء. اكتشف تيار عام كبير أن أنظمتهم لا تشبههم مطلقا، وأنها لا تعبّر لا عنهم ولا عن القيم الإنسانية الكونية المتعارف عليها التي تشبعوا بها، والتي تحتفي بحق الشعوب في تقرير مصيرها، والسلام والتسامح والتعايش الحضاري. فأثار الكثير تساؤلات مصيرية، حول هويتهم وقيمهم، بعد أن أدركوا بشكل جلي بأنها لا تتحدد من خلال ما يرونه في سياسات ومواقف دولهم وحكوماتهم.

تيار شعبي عربي وعالمي واسع اكتشف مع طوفان الأقصى هويته أو حفّزه هذا الحدث الكوني لا على اكتشاف ذاته فحسب، وإنما على إعادة تعريفها أيضا، على ضوء هذا الحدث الكوني.  

ففي العالم العربي والإسلامي توقف المسلمون لا سيما الفئات الشبابية وهي الفئة الغالبة ديموغرافيا، مصدومين وبغضب أمام حجم الانحياز الذي أظهره "العالم الحر" لإسرائيل والدعم السخي الذي يقدمه لها دون تحفظ أو شروط، بينما بدا هذا "العالم الحر"- الذي روّج لعقود لعولمة قيمه وجعلها القيم الكونية التي تسود العالم وتكتسح الهويات الثقافية- خلال العدوان على غزة غير مبال بأرواح عشرات الالاف من الفلسطينيين الذين أبادتهم إسرائيل، وتناقلت الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي مشاهد حية للمجازر والقتل والتقتيل الذي تعرضوا له على مدى شهور طويلة. شاهد الرأي العام العالمي كيف دعّمت "دول العالم الحر" هذه المجازر، وبرّر بعضها استهداف الفلسطينيين العزل، نساء وأطفالا وشيوخا.

تغيّر مزاج الشارع العربي والإسلامي، باتجاه التمايز عن الثقافة الاستهلاكية، من خلال حركة واسعة وضخمة للمقاطعة، مقاطعة المنتوجات والماركات العالمية الداعمة لإسرائيل، وقطعت فئات كبيرة مع ثقافة التفاهة والسفاهة. وحرص هؤلاء الشباب على تقديم أنفسهم وتعريفها من خلال انحيازهم للقضية الفلسطينية وانخراطهم في الدفاع عنها، وتبنيها. وعبر الشباب عن ذلك من خلال اللباس والاهتمام والنشطات العلمية والثقافية والفنية. ففي بلدان مثل المغرب وتونس والأردن وموريتانيا وليبيا تنافس طلاب الثانويات والجامعات وجماهير الرياضة على إبراز حجم انخراطهم في دعم غزة وإظهار التضامن مع أهلها، وتحوّلت الرموز الفلسطينية، على غرار العلم والكوفية واللباس الفلسطيني التقليدي وصور قادة المقاومة وشهدائها إلى أيقونات تغزو الشوارع، حتى غمرت المشهد العام.

تغيّر مزاج الشارع العربي والإسلامي، باتجاه التمايز عن الثقافة الاستهلاكية، من خلال حركة واسعة وضخمة للمقاطعة، مقاطعة المنتوجات والماركات العالمية الداعمة لإسرائيل، وقطعت فئات كبيرة مع ثقافة التفاهة والسفاهةإلى ذلك أظهرت استطلاعات للرأي في المنطقة وأخرى أجرتها مراكز استطلاع دولية، أن حجم العداء والكراهية للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الداعم الرئيس لإسرائيل، تزايد بشكل غير مسبوق في العالمين العربي والإسلامي، كما أن حجم التعاطف مع القضية الفلسطينية ورفض فكرة التطبيع وصلت إلى نسبة عالية جدا تجاوزت نسبة التسعين بالمائة.

الشباب في الواجهة.. من التفاهة إلى الوعي بالقضية

حفّز هذا الموقف الغربي الرسمي "العدائي"، عناصر الهوية الثقافية لدى الشباب في العالم العربي والإسلامي، وجعلهم يستشعرون الاختلاف والتباين بل وحتى التناقض بينهم وبين "الآخر الغربي" المنحاز والمتحيز. وهذه الصدمة من الموقف الغربي دفعت قطاعات شبابية ورأي عام للالتفات إلى الذات والعودة إليها ومساءلتها، وإعادة اكتشافها، باعتبارها ذات لها خصوصيتها.. ذات علاقتها بالآخر لا تقوم على التماهي وإنما التمايز، ولا على التبعية وإنما الاستقلالية.

أما على الصعيد العالمي، فقد اكتسب الطوفان وما بعده أبعادا أعمق في العواصم والبلدان الغربية نفسها، حيث يعيش ملايين المسلمين، الذين مثّل لديهم طوفان الأقصى وما لحقه من العدوان الإبادي على غزة ومواقف الدول الغربية، منعرجا حاسما، في رؤيتهم للأحداث المتسارعة. إذ استشعر الشباب الغربي المسلم حجم الهوة بين المواقف السياسية الغربية الرسمية وبين المبادئ والأخلاق، عندما تعلّق الأمر بقضية غزة والعدوان على فلسطين، وعندما كان المعتدي إسرائيل تحديدا. كانت تلك المواقف صادمة، لدرجة أحدثت هزّة كبيرة في وعي وضمير الرأي العام الغربي، ومنه الشباب الغربي المسلم، الذي وجد نفسه يشعر بأن الموقف الغربي الرسمي من إبادة تُنقل على الهواء، لا يعبّر لا الرأي العام ولا مسلمي الغرب. وبشكل متدرج تشكلت حالة من الرفض والاحتجاج لهذه المواقف، لتتحول إلى ظاهرة احتجاجية، أخذت أبعادا سياسية واجتماعية وثقافية، عبرّت عن نفسها من خلال حركة مظاهرات احتجاجية عارمة في العواصم والمدن الغربية، واحتلال العلم الفلسطيني وكل ما يرمز لغزة وفلسطين مساحات معتبرة من الاهتمام، في المدرسة والجامعة والأسواق والشوارع، حتى أنه يمكن القول إن العلم الفلسطيني كان أكثر راية رفعت في العالم خلال العامين الماضيين، ولا تنافسه مطلقا أية راية أخرى. وأصبحت ألوان العلم الفلسطيني أشهر الألوان في الملابس والرموز وحمالات المفاتيح، واللاصقات. وتصدرت الكوفية الفلسطينية بكل ألوانها كأكثر وشاح أو لفاع يتوشّح به الناس اعتزازا وتضامنا.

ولم يسر في شوارع العواصم والمدن الغربية في تاريخها مظاهرات واحتجاجات مثلما حصل بعد طوفان الأقصى من أجل غزة وفلسطين. إذ تحولت غزة إلى الكلمة الأكثر تداولا في العالم، وشغلت الكبير والصغير على حد السواء. ولن نبالغ إذا قلنا إن غزة تحوّلت على مدى أشهر طويلة وهي تصد العدوان، مواجهة وصمودا، إلى مركز الاهتمام الدولي الرسمي والشعبي، واستحوذت على صدارة الأحداث الأكثر تناولا في الاعلام السمعي والمرئي ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث نشرت مليارات المواد الخبرية والتغريدات والتعليقات والصور والفيديوهات عن قطاع غزة. حتى تعولمت فيه القضية واستحوذت على صدارة اهتمام العالم، بشكل لم يحصل حتى مع الحرب العالمية الأولى والثانية اللتان كانتا أحداثهما تجري جلها خارج التغطية الكاملة للإعلام، بسبب محدودية وسائل الإعلام وبدائيتها آنذاك، بينما كانت أحداث غزة ة والعدوان عليها تنقل حية عبر مختلف وسائل الإعلام، التقليدية منها والاجتماعية. وكان للنشطاء وحركة التضامن الواسعة الدور البارز في نقل الأحداث والإبقاء على زخمها الطوفاني الكبير في المشهد الدولي.

تتبدى الهوية اليوم باعتبارها المعقل الصلب في وجه حالة من التوحش الإبادي (إسرائيلي)، انعطف عليها موقف انحيازي (غربي)، اقتضى حالة من التمايز عن الآخر الغربي المعادي، الداعم للقتل والعدوان والإبادة. وباستعادة الهوية واكتشافها، فرض داعمو غزة وفلسطين التمايز ليس فقط السياسي، وإنما الأخلاقي والإنساني والثقافي عن الآخر الغربي الذي يصر على التموقع عدوا لا صديقا، ومحاربا لا مسالما، ونافيا لا متعايشا.لقد أعاد طوفان الأقصى، بتحوله إلى حدث كوني، توجيه الوعي الشبابي والشعبي عموما، باتجاه إعادة اكتشاف الذات والهوية. إذ رصد خلال شهر رمضان من هذا العام في الغرب إقبالا على المساجد منقطع النظير وغير مسبوق من حيث الأعداد الكبيرة التي غصت بها المساجد وفاضت بها على الشوارع المحيطة، مع تسجيل حضور طاغ للشباب، الذي بدا كأنه يكتشف ذاته بعد طوفان الأقصى، ويدرك بعدا أساسيا في هويته، عودة للدين، وإقبالا كبيرا على المساجد. فالصدمة من أحداث غزة وطوفانها، والتي عمقتها المواقف الغربية المتواطئة مع الإبادة، جعلت الشباب المسلم في الغرب، الذي كان بعضه يعيش تيه الهوية وآخر يراهن على الاندماج طلبا لهوية وطنية، هذه الصدمة أثارت لدى الشباب سؤال الهوية والانتماء، وحفزته لبدء رحلة العودة إلى الذات.

 ما بعد الطوفان.. تداعيات ثقافية وسياسية في العالم العربي والإسلامي

المؤكد اليوم أن طوفان الأقصى، الذي اعتبره البعض حدثا تاريخيا له ما بعده في العلاقة بالقضية الفلسطينية من ناحية، وإعادة تشكيل ملامح المنطقة والمعادلات التي تحكمها من ناحية أخرى، تبدو تداعياته اليوم أبعد وأعمق أثرا من مجرّد المشهد السياسي. فهذا الحدث تجاوز السياسة إلى الثقافة، والاجتماع إلى الاقتصاد، وأعاد سؤال الهوية والخصوصية لقلب الجدل، خاصة بسبب الحجم المروع من التحيزات والاصطفافات الغربية الصادمة. هذه التحيزات دفعت الكثير لطرح السؤال: من أنا؟ ولماذا هذا الموقف العدواني من الفلسطينيين وفلسطين رغم مظلوميتها؟ لماذا هذا الموقف الغربي المتناقض بشكل سافر مع مبادئ العدالة والحرية والكرامة الإنسانية؟ أسئلة تعيد البحث في العلاقة بالذات وبالآخر، وتعيد التفكير في طبيعة هذه العلاقة، التي تبيّن أن الآخر يراها تتأسس على القوة وموازينها وعلى التحيز، لا على التعايش والتعارف والشراكة.

وقد عمّقت صدمة طوفان الأقصى وما بعده مسألة الهوية وجذّرتها. إذ تتبدى الهوية اليوم باعتبارها المعقل الصلب في وجه حالة من التوحش الإبادي (إسرائيلي)، انعطف عليها موقف انحيازي (غربي)، اقتضى حالة من التمايز عن الآخر الغربي المعادي، الداعم للقتل والعدوان والإبادة. وباستعادة الهوية واكتشافها، فرض داعمو غزة وفلسطين التمايز ليس فقط السياسي، وإنما الأخلاقي والإنساني والثقافي عن الآخر الغربي الذي يصر على التموقع عدوا لا صديقا، ومحاربا لا مسالما، ونافيا لا متعايشا.

وبقدر ما كان العدوان إباديا، لطمس كل شيء بما في ذلك الهوية، بقدر ما كانت ملحمة التصدي لهذا العدوان والحراك العالمي المساند له والرافض للعدوان، منعرجا حاسما باتجاه إعادة اكتشاف الهوية وترسيخا لها. لقد بدا واضحا أنه بقدر ما ينكسر المشروع الإبادي أهدافا، ويتفسّخ كيانا، بقدر ما انتشر مشروع التحرر كفاحا، وتقدّم استقلالا.

*كاتب وباحث تونسي  

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير غزة طوفان تداعياته فلسطيني احتلال فلسطين غزة تداعيات طوفان سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العربی والإسلامی الموقف الغربی طوفان الأقصى إعادة اکتشاف غزة وفلسطین هذا الحدث فی العالم من خلال حالة من لا سیما على غزة ما بعده وما بعد ما بعد لا على

إقرأ أيضاً:

ماذا بقي من معنى «حوار الحضارات»؟!

بينما كانت حمم الاحتلال الإسرائيلي تُحيل أطفال غزة إلى رماد، كان العالم يحتفل يوم الثلاثاء بـ«اليوم الدولي لحوار الحضارات»، وكان سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، مايك هاكابي، يصرّح بأن بلاده لم تعد تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة. لم يكن هذا التزامن صدفة زمنية، ولكنه تجسيد حقيقي لانفصام الخطاب عن الفعل، وانهيار القيم الكونية تحت وطأة المواقف السياسية. ففي الوقت الذي تُرفع فيه الشعارات عن التفاهم والاعتراف المتبادل، تُغلق الأبواب أمام أكثر الحقوق بداهة، وتُختزل الحضارات إلى مجرد خرائط جيوسياسية لا تقيم وزنا للعدالة أو الكرامة ولا إلى المشتركات الإنسانية.

ورغم أن العالم لم يعد مشغولا أو محتفيا كثيرا بأطروحة «حوار الحضارات» كما كان في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة إلا أن الحقيقة في الميدان تدعونا جميعا إلى تلمس خطر التصعيد غير المسبوق بين مختلف الحضارات والذي أفرز عالما متعدد التوجسات. إن هذا الاستقطاب الكبير يقود إلى أخطر لحظة شحن عالمية من شأنها أن تقود إلى الصدام الكبير، والذي إن وقع، فلن يكون محصورا بين «الشرق والإسلام» من جهة و«الغرب الليبرالي» من جهة أخرى، كما توهّم هنتنغتون في أطروحته، بل سيكون انفجارا متعدد الجبهات: صيني ـ غربي، وأوراسي ـ أطلسي، وفارسي ـ أمريكي/ إسرائيلي. وكل جهة تدعي أن لديها مبررات الصدام وهي إلى الاشتعال أقرب من أي لحظة سابقة.

لكن ما يجعل هذه اللحظة أخطر من كل ما سبقها، هو أنها لا تعيش في خانة النظريات أو الدعوات، بل تُمارس على الأرض بتشظٍ كامل في القيم والنماذج، معلنة دخولنا عصر ما بعد التواصل، وما بعد المنطق المشترك. إنها تتجاوز بمراحل كثيرة لحظة صموئيل هنتنغتون ومحمد خاتمي على السواء. وضع الأول أطروحة الصدام على هيئة تنبؤ نُزعت عنه السياسة وأُلبس لباسا حضاريا، بينما جاء الثاني حالما بأن تجتمع الحضارات في قاعة واحدة تستمع فيها كل حضارة إلى الأخرى في سبيل أن تفهمها.

لقد تحوّل الغرب، الذي ادّعى لنفسه موقع الناطق الرسمي باسم الكونية، إلى كيان مزدوج: يدعو إلى الحوار من جهة، ويفرض الحصار والتفوق القيمي من جهة أخرى. في هذا السياق، لا يمكن أن يكون حوار الحضارات مجرد مشروع أخلاقي، ولكن لا بد أن يكون تفكيكا جذريا لبنية القوة، ولخطابات الهيمنة وللدعوة إلى نفي الآخر وإبادته، ولكل البنى الثقافية والفكرية التي تقوم عليها مختلف الحضارات.

فالصراع مع الحضارة الصينية ليس اقتصاديا محضا، بل هو أيضا صراع على أنماط التنظيم الاجتماعي، وعلى تعريف «القوة» و«النجاح» خارج النموذج الليبرالي. والصدام مع الحضارة الأوراسية بقيادة روسيا يتخذ بعدا إمبراطوريا ثقافيا يعيد رسم خرائط النفوذ والميراث المسيحي ـ السلافي في مواجهة الهيمنة الغربية. أما الصدام مع الحضارة الفارسية، فهو أكثر تعقيدا: حضارة قدمت للعالم خطابا باسم «حوار الحضارات» في 1998 على لسان محمد خاتمي، لكنها تُعامل اليوم ككيان يُراد تطويقه ومحو رمزيته.

إن ما يُحتفى به اليوم في الغرب بوصفه «حوار حضارات»، لا يعدو كونه طقوسا شكلية تُقام على ركام النسيان، بينما تُدار السياسات الحقيقية بمنطق الهيمنة والعزل، دون إنصات لصوت الهامش، ودون تفكيك للخطاب الاستعماري ودون إعادة الاعتبار للذاكرة بوصفها حقا أصيلا في السرد، فالحضارة التي لا يُعترف بجراحها، لا يمكنها أن تتحاور؛ لأنها ستبقى في حالة ألم وصراخ.

يحتاج العالم في هذه اللحظة الخطرة أن يتحدث بكثير من الوضوح؛ فالصراع ليس قادما، إنه، هنا، في كل لغة إعلامية تشرعن القتل، وفي كل قراءة مشوّهة للآخر وفي كل تصريح سياسي أو رأي فكري يجيز أو يدعو لإبادة الآخر. وإذا لم يبنَ خطاب جديد يقوم على الاعتراف بالمظلومية وبالكرامة فلن يستطيع العالم في أي وقت من الأوقات الذهاب إلى «حوار الحضارات»، وسيكون السؤال في ذلك الوقت هل ما زالت هناك قيم حضارية باقية.

إننا في أمس الحاجة اليوم إلى نقد جذري جديد يعيد تعريف ما نعنيه بكلمة حضارة، ويمنح كل حضارة الحق في أن تكون فاعلة لا موضوعا يُدرَس أو يُراقَب.

هذا هو التحدي، وهذه هي الضرورة الأخلاقية والسياسية التي تفرض نفسها علينا في هذه اللحظة. وإذا لم يُنجز هذا التغيير، فإن الحضارات لا تنتظر طويلًا قبل أن تُستدعى إلى حروبها الكبرى، ومنطقتنا ليست بعيدة عن قلب هذا الصدام، بل هي مختبره الأول، ما يجعل تبني خطاب حضاري نقدي ضرورة وطنية قبل أن تكون مسؤولية إنسانية.

مقالات مشابهة

  • عرض لخريجي دورات “طوفان الأقصى” في حجة
  • عرض شعبي لـ 1500 من خريجي دورات (طوفان الأقصى) في حجـة
  • ماذا بقي من معنى «حوار الحضارات»؟!
  • طوفان الأقصى واللوبي الإسرائيلي في تركيا
  • الشباب يرفض إعارة حمد الله لـ” الوداد” في المونديال
  • عرض شعبي لـ 2200 من خريجي دورات “طوفان الأقصى” في حجة “صور”
  • الشباب يحرم حمد الله من المشاركة في مونديال الأندية
  • بمشاركة 2000 مقاتل: قوات التعبئة العامة بحجة تنظم عرضاً شعبياً لخروجي دورات طوفان الأقصى
  • اكتشاف أكبر خريطة للكون تمتد عبر 13 مليار سنة.. ماذا حدث؟
  • مسير وتطبيق لخريجي دورات “طوفان الأقصى” في مديرية جهران بذمار