يتناول هذا المقال ظاهرة اعتماد العرب على العلاقات مع الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى، بعيدا عن العمل على بناء القوة الذاتية بأنواعها المختلفة، ولئن كانت بعض الدول العربية تصرف مبالغ طائلة على التسلّح لكنّها منضبطة بشروط البائع من جهة ومنزوعة الكفاءة القتالية من ناحية أخرى، كما أنّ اتفاقية الدفاع العربي المشترك مجمّدة منذ عقود طويلة، ولا تعمل في حماية أي بلد عربي من أي عدوان خارجي، ولئن كانت بعض مظاهر القوة قد تمثلت في قطع العرب للنفط عن الغرب عام 1973، وحشد الجيوش العربية على حدود فلسطين عامي 1967 و1973، فإن الوضع القائم اليوم ينبئ بأن العرب بشكل جمعيّ قرروا الانكفاء القُطْري في موضوع الدفاع.
وقد كشفت حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، وحرب التهجير والضمّ والتدمير في الضفة الغربية، منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، العجز الفعليّ في اتخاذ القرار العربيّ، حيث إنه وبرغم اتخاذ القمم العربية قرارات نَصّية ربما معقولة، غير أنّ استبعاد القوة في مواجهة غطرسة إسرائيل واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني، والدول العربية كذلك، إنما أغرى الجانب الإسرائيلي بالاستخفاف بهذه القرارات، بل إن الجانب الأمريكي في عهدي بايدن وترامب لا يكاد يُلقي بالا لأي قرارات أو مصالح عربية، خصوصا في مجال الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي مواجهة العدوان الإسرائيلي.
وتتمثل مشكلة المقال في أنّ العرب لا يزالون يتجنّبون تحقيق عناصر القوة كقوة إقليمية ودولية، رغم أن عناصر القوة المختلفة تتوفر لدى الدول العربية عسكريا وأمنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ناهيك عن الموارد البشرية والطبيعية، والموقع والعمق الاستراتيجي في قلب العالم، وبالتالي جيوسياسيا وجيواستراتيجيا، والسؤال المركزي للمقال: لماذا لا يتسلّح العرب بما يملكون من قوة لفرض توجّهاتهم ومصالحهم ومواقفهم وحماية بلادهم، بما في ذلك حماية الشعب الفلسطيني وإسناده ضد الاحتلال الإسرائيلي؟
الناظم الذي تفتقده هذه القوة هو الإرادة العربية، والتي تشكّل العامل الحاسم القادر على تفعيل هذه القوة واستخدامها لمصلحة الأمن القومي العربي وللدفاع عن العرب ومصالحهم أمام أيّ قوة خارجية معتدية، وهو يرتبط كذلك بآليات وسرعة اتخاذ القرار وتحمّل تبعاته واحتواء سلبياته
وبرغم أن الدراسات العربية على مدى الأعوام الستين الماضية كشفت مكنونات القوة في مقابل مخاطر المشروع الصهيوني وإسرائيل على الدول العربية وأمنها وجوديا، غير أنّ المقاربات لا زالت ترتبط بالخارج، أو بالغرب على وجه الخصوص، في حين أن هذا الغرب هو الذي يمدّ إسرائيل بالقوة والتسلّح والغطرسة حتى وهي تقتل الأطفال والنساء المدنيين العزّل، كما في غزة والضفة ولبنان وسوريا.
ويقدر خبراء الصراعات أنّ القوة تتشكل في الدول بعوامل القوة الجيوسياسية والقدرة الجيواستراتيجية، بما في ذلك القدرة على امتلاك القوة العسكرية والاقتصادية، والقوة الدبلوماسية والسياسية، والقوة الاجتماعية والثقافية والفكرية، والعلاقات الدولية، وتوفر البدائل لمختلف العلاقات والمصالح من ذوى المصالح في المنطقة. وفي الواقع، فإنّ كل هذه العوامل متوفرة، وبقوة ربما أكبر من بعض الدول الصناعية في العالم، لكنّ الناظم الذي تفتقده هذه القوة هو الإرادة العربية، والتي تشكّل العامل الحاسم القادر على تفعيل هذه القوة واستخدامها لمصلحة الأمن القومي العربي وللدفاع عن العرب ومصالحهم أمام أيّ قوة خارجية معتدية، وهو يرتبط كذلك بآليات وسرعة اتخاذ القرار وتحمّل تبعاته واحتواء سلبياته، حيث إن العمل العربي المشترك يوفر هذه المعطيات بشكل قويّ، لكنه لا زال بحاجة إلى إسناد كلّ قرار بإجراءات وقوة تقف خلفه لتنفيذه، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بإسرائيل التي تعلن أنها تسعى لتحتل سبع دول عربية لإقامة إسرائيل الكبرى كما يقولون، ولا يأخذ العرب الأمر على محمل الجدّ بعد.
صحيح أن امتلاك القوة يقف في وجهه أحيانا عقبات وتحديات، وصحيح أنّ اتخاذ بعض القرارات والإجراءات ستكون له تبعات إيجابية وسلبية، غير أن القرار السياسي في التاريخ هو كذلك، وإن الأمم والقادة الذين يتطلّعون إلى المنَعة أمام العدوان الخارجي وحماية حقوقهم وأممهم وشعوبهم وحضاراتهم قدّموا لذلك ما يلزم من تضحيات، لكنها كانت تضحيات بناء وتقدم لهذه الحضارة. ولعل التجربة الحضارية الإسلامية التاريخية مثال واضح على ذلك، في مقابل محاولات فارسية وبيزنطية ومغولية كبرى أخرى.
ومن أبرز نماذج هذه الإشكالية وارتباطاتها الوثيقة ما يظهر عند دراسة حالة حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة (2023-2025) بوصفها حالة قائمة، فقد اتُّخذت قرارات عربية، بعضها كان مواربا في البدايات، لكن بعضها تقدّم بالنص والوضوح لاحقا. ولكن الدراسة لهذه القرارات تبين أنها تربط تنفيذها ونجاحها بالمجتمع الدولي وبالولايات المتحدة والأمم المتحدة، ولا تشير بأي شكل لأي إجراء عربيّ أو إسلامي، فردي أو جماعي، لوقف عدوان إسرائيل ومطامعها التوسعية في المنطقة، والتي تهدد كل الدول العربية وحكوماتها وأنظمتها بلا أدنى مواربة، وعلنا وبتكرار مستمرّ، وعلى أعلى المستويات. ولذلك فإن هذه القرارات شهدت على الدوام العجز عن التطبيق، وغياب الإرادة الذاتية العربية للفعل المباشر، سواء بإسناد النضال الفلسطيني بكل الوسائل، أو بمعاقبة إسرائيل ومحاصرتها بكل الوسائل أيضا، حيث غاب أي ارتباط بما قد يخيف إسرائيل أن تجعلها تعيد الحسابات، خاصة وأن هذه القرارات كانت لها صفات تفرغها من محتواها وتُضعف أي أثر لها على العدوان الإسرائيلي، وأهمها:
- استبعاد خيار القوة بكل أشكالها باستمرار التأكيد على أن خيار السلام هو خيار استراتيجي، مما أعطى الطمأنينة لإسرائيل على أمنها ووجودها.
- استبعاد المقاطعة ووقف التطبيع وسحب السفراء ووقف التنسيق الأمني من قبل أكثر من 17 دولة عربية وإسلامية في ظل أجواء الحرب التي ترتكب فيها إسرائيل جرائم بحق الشعب الفلسطيني.
- الابتعاد عن دعم مقاومة الاحتلال المشروعة وفق القانون الدولي، أو اعتبار هذه المقاومة دفاعا عن النفس، كما يفعل الغرب بانتظام في تغطية جرائم إسرائيل التي تخرق القوانين الدولية ذات الصلة.
- وضوح العجز عن التأثير في الأحداث واتجاهاتها، ما أدى إلى التوسّع بالاستخفاف الإسرائيلي والأمريكي بالعرب حتى يتم طرح احتلال أرض عربية جديدة، وطرح تهجير مليوني مواطن من غزة إلى دول أخرى.
- العجز عن دعم صمود الشعب الفلسطيني والمقاومة في غزة والضفة، ولولا فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها عسكريا لكانت تملي اليوم الخريطة السياسية وشكل الحكم في العالم العربي بكل صفاقة.
العرب لا يفكرون من حيث المبدأ باستخدام القوة التي لديهم بمختلف أنواعها، باستثناء قوة دبلوماسية غير موحّدة وغير مدعومة بالقوة العملية، ولا تؤتي إلا أُكلا متواضعا، وتبين أن ثمة تخوفات وأوهاما كثيرة تحيط بالتفكير لدى العرب إزاء مواجهة إسرائيل، حيث نجحت الصهيونية ببناء قوة ضاغطة مهمة في الولايات المتحدة يحسب العرب لها حسابا
وبذلك، كشف التحليل أن العرب لا يفكرون من حيث المبدأ باستخدام القوة التي لديهم بمختلف أنواعها، باستثناء قوة دبلوماسية غير موحّدة وغير مدعومة بالقوة العملية، ولا تؤتي إلا أُكلا متواضعا، وتبين أن ثمة تخوفات وأوهاما كثيرة تحيط بالتفكير لدى العرب إزاء مواجهة إسرائيل، حيث نجحت الصهيونية ببناء قوة ضاغطة مهمة في الولايات المتحدة يحسب العرب لها حسابا في علاقاتهم مع الولايات المتحدة، ولا يضع العرب في حسبانهم أن أمريكا والغرب بحاجة ماسة للعلاقات مع العرب، وأن إسرائيل العدوانية إنما هي أداة تهديد وتخويف للعرب. كما أن النخب العربية تعتقد أن مصير الحكومات ومصالحها ترتبط بالعلاقات مع الولايات المتحدة والغرب أكثر من ارتباطها بامتلاك القوة.
لكنّ السؤال يبقى بحاجة إلى توقّف: ما دام العرب لا يفعّلون القوة المتاحة لديهم، ولا يفكّرون في استخدامها لحماية أنفسهم وأرضهم ودمائهم، فما قيمة هذه التخوّفات؟ خاصة وأنّ الواقع يشير إلى أن حال الدول العربية أنها دول منزوعة الأظافر أمام العدوان الإسرائيلي المدعوم علنا وبشكل كامل من قبل الولايات المتحدة والغرب، حتى مع ارتكاب جرائم حرب بحق العرب، الأمر الذي يشكّك في حقيقة هذه الأوهام التي يبيعها بعضهم لبعض، وتبيعها بعض الأدبيات الغربية الموجّهة لبعض النخب السياسية والنخب الحاكمة في العالم العربي، وهو ما يجعل الهيمنة والتحكّم في المصير العربي مرهونا بالإرادة الخارجية، وهو الأمر الذي يجب أن يفتح الباب للتفكير من جديد لدى النخب الحاكمة العربية، ولدى نخب المعارضة أو النخب المثقفة العربية، للتوجّه نحو صياغة مشروع قوميّ عربيّ يستند إلى القوة والمنعة لكل الدول العربية وشعوبها، ويوقف الصلف والإجرام الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني ويعيد له حقوقه المغصوبة، وينهي الاحتلال الإسرائيلي لأرضه، ويمنع إسرائيل من الهيمنة على المنطقة عسكريا وأمنيا واقتصاديا، وهو ما سيزيد من مثقال ميزان التوازن الدولي لصالح العرب، في ظل بدائل أخرى متاحة أمام العربي إقليميا ودوليا في القارات الست.
ورغم الحاجة إلى تعمّقٍ أكثر في أسباب ودوافع ومعوقات امتلاك القوة، غير أن ما قدّمه المقال يكفي لوضع العربة على السكة في التفكير والتخطيط العربي للعقد الحالي قبل فوات الأوان، وأهم ذلك ربط القرارات العربية بإجراءات فاعلة، خاصة في مواجهة المشروع الصهيوني والصلف الإسرائيلي المهدّد للعالم العربي، ولإنهاء خطره على الأمة، واسترجاع الحق الفلسطيني العربي المغصوب، وهو ما يمكن أن يُفرض على النظام الدولي في حال توفرت له أسباب الإرادة والعزيمة والبحث الجاد في الأمر.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء العرب القوة فلسطين إسرائيل إسرائيل فلسطين عرب قوة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الشعب الفلسطینی الدول العربیة هذه القرارات هذه القوة العرب لا غیر أن
إقرأ أيضاً:
سجال مصري وسعودي حول اسم أمين الجامعة العربية.. أجواء متوترة
في الوقت الذي غاب فيه دور الجامعة العربية في ملف الحرب على قطاع غزة التي تعدت 600 يوما، ساد الشارع العربي حالة من الجدل حول اسم الأمين العام القادم المحتمل للجامعة العربية الذي يخلو بانتهاء مدة الأمين الحالي المصري أحمد أبوالغيط في آذار/ مارس المقبل.
وتحدثت تقارير صحفية عن ترشيح مصري محتمل لرئيس الحكومة الحالي مصطفى مدبولي للمنصب المقرر فتح الترشح له في أيلول/ سبتمبر المقبل، وذلك في الوقت الذي تبرز فيه رغبات خليجية وعربية بتغيير العرف السائد منذ نشأة الجامعة العربية عام 1945، بأن يكون الأمين العام من بلد مقر الجامعة، وهي مصر.
أجواء متوترة
إلى ذلك طالبت شخصيات سعودية بنقل مقر الجامعة العربية من مكانها القريب من نيل القاهرة إلى العاصمة السعودية الرياض، وتعيين وزير الخارجية السعودي الأسبق عادل الجبير، وسط أحاديث عن رغبة جزائرية بتقديم مرشح لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، إلى جانب رغبات سابقة من قطر، وغيرها من الدول الأعضاء.
ودعا الكاتب السعودي عبيد العايد، إلى ما أسما وقف "احتكار" مصر للأمانة العامة، داعيا إلى إسناد هذا المنصب الذي تستأثر به مصر، إلى "أعلام العرب ودهاة السياسة"، مشيرا لاسم الجبير، ويصنع حالة من الجدل.
وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، نقلت صفحات منسوبة للسعودية 15 توصية بإصلاح وتطوير الجامعة العربية، منها: تعديل الميثاق الموضوع عام 1945، وتعيين نائب للأمين العام، وإعادة النظر في مكافأة الأمين العام وهيكل رواتب موظفي الجامعة، ومصروفات بعثات الجامعة، ومراجعة النظام الداخلي والنظام الأساسي للموظفين.
في المقابل، أكد مصريون على رغبة بلادهم على "مواصلة حضورها بتقديم ولأول مرة رئيس وزراء للمنصب وليس وزيرا للخارجية كما كانت العادة منذ الأمين العام الأول عبدالرحمن عزام (22 آذار/ مارس 1945- أيلول/ سبتمبر 1952)".
وأشاروا إلى أن "تفجر الحديث عن منصب الأمين العام ونقل مقر الجامعة يأتي في ظل تأزم واضح في علاقات القاهرة والرياض، خاصة بعد تجاهل دعوة رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، لحضور القمة الأمريكية-الخليجية الشهر الماضي في الرياض، ثم لقاء السيسي وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بالقاهرة الأسبوع الماضي".
وعلى الجانب الآخر، انتقد مراقبون دور الجامعة العربية بقضايا العرب المصيرية، مؤكدين على "غيابها التام في قضايا غزة التي لم تجتمع بشأنها إلا بعد 3 أشهر من حرب الإبادة الدموية الإسرائيلية على 2.3 مليون فلسطيني المستمرة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023".
وتحدثوا عن "سلسلة إخفاقات للجامعة بقضايا حرب السودان (15 نيسان/ أبريل 2023 وحتى اليوم)، والأزمة الممتدة في ليبيا واليمن منذ أكثر من 10 سنوات، وأزمة الحصار على قطر (2017- 2021) والخلاف الجزائري المغربي، والمغربي الموريتاني".
ويعتقدون أن "ما يجري من سجال، يأتي في ظل التغييرات الإقليمية الحادثة بالشرق الأوسط، وتعاظم الأدوار الخليجية للسعودية والإمارات بشكل خاص على حساب دور مصر التي غابت عن الخريطة وتعاني أزمات سياسية واقتصادية تفاقمت بشدة خلال حكم السيسي".
ومع تصاعد السجال المصري السعودي، تحدث خبراء وأكاديميون من مصر والعراق والسودان، لـ"عربي21"، مجيبين على التساؤلات: "هل يستحق اسم أمين الجامعة العربية كل هذا الضجيج؟"، و"بعد غياب الجامعة عن الأزمات العربية هل يجب إغلاقها أم إصلاحها؟".
"الفاعيلة هي المعيار"
وفي قراءته، قال رئيس "أكاديمية العلاقات الدولية" المصري الدكتور عصام عبدالشافي: "من المنظور العام فقدت الجامعة في العقود الأخيرة الكثير من قيمتها ببعض الملفات، وتحديدا منذ الغزو العراقي للكويت 2 آب/ أغسطس 1990، فقبل ذلك التاريخ كانت هناك بعض أدوار للجامعة، وكان هناك تنسيق عربي مشترك ببعض الملفات".
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بعدة جامعات عربية وغربية، أكد لـ"عربي21"، أن "يبقى وجود الجامعة رمزيا أمر في غاية الأهمية؛ لأن هناك إطار تنظيمي يجتمع فيه العرب يناقشون بعض الأفكار، قد تكون قضية الفاعلية هي الإشكالية الكبيرة بهذه المرحلة ولكن في الأخير وجود إطار تنظيمي أفضل كثيرا من عدم وجوده، حتى لو كان محدود الدور ومحدود الفاعلية بهذه المرحلة".
وأضاف: "وبالتالي إشكالية الفاعيلة هي المعيار، وليس وجود المنظمة من عدمه؛ فيبقى وجود الكيانات والمؤسسات مهم، ولكن الإشكالية الأساسية في قضية تفعيل الفاعلية والتأثير وتحديد الدور وإعادة ضبطه".
البعد الثاني، بحسب الأكاديمي المصري في هذا الجدل المثار حاليا يرى أنه "مرتبط بخلافات سياسية أو عدم توافق سياسي في بعض الأحيان"، مستدركا: "لكن من وجهة نظري الشخصية وبالمطلق ليس عندي أي إشكال أو مانع في أن يكون الأمين العام للجامعة غير مصري، لأنه في الأخير مصر دولة مقر، وليس هناك ما ينص في الميثاق المنشئ للجامعة أن يكون الأمين العام مصريا".
ولفت إلى أن "العرف السياسي أو الدبلوماسي استقر على أن يكون الأمين العام من مصر؛ ولكن كانت هناك مرحلة أزمة بعد توقيع مصر اتفاقية السلام مع الكيان الإسرائيلي، ونقل المقر لتونس وأصبح الأمين العام تونسي (الشاذلي القليبي 1979- 1990) لفترة استثنائية 11 عاما، ولكن من وجهة نظري لا أرى أن هناك إشكال طالما أن الأمر يخضع لقرار الأغلبية عبر تصويت على أسماء مرشحين، فمن حق كل دولة أن تطرح مرشحها".
"الإصلاح وإعادة التموضع"
ويعتقد عبدالشافي، أن للأمر بعد ثالث ومهم، وهو "فكرة الميثاق المنشئ للجامعة نفسه، وإصلاح منظومة الجامعة، وإعادة النظر في الميثاق، ومحاولة تعديله بما يتوافق".
وألمح إلى أن "التخوفات الآن من الجانب المصري أن النظام بمرحلة هشاشة وضعف سياسي وتبعية وعدم استقلالية بسياسته الخارجية؛ وبطبيعة الحال إذا تمت تعديلات سياسية الآن على الميثاق لن تكون إلا من منظور الدولة الأكثر تأثيرا وهي في هذه الحالة السعودية، وهنا ستفرض أجندتها على ميثاق الجامعة".
ويرى أن "كل الأسماء المصرية المرشحة صنيعة النظام وبالتالي لا قيمة لها من وجهة نظري الشخصية، والمنافسة السياسية على المنصب من عدمه في هذا المرحلة أيضا أعتقد أنها من باب المناكفات السياسية، لأن السائد بين الدول هو التوافق السياسي، ولا يجب أن يكون الأمر محصورا بين مصر والسعودية، ولكن من حق أي دولة عربية أن تطرح مرشحها".
وختم بالقول: "المعيار والسؤال الأهم هو إلى أي مدى يستطيع أي مرشح من أي دولة أن يعيد تموضع الجامعة ويعزز من فاعليتها في ظل مرحلة التبعية المطلقة لأمريكا، وأن تكون المخاوف من أن تتحول الجامعة في المراحل القادمة إلى مجرد أداة من أدوات ترسيخ الهيمنة الأمريكية من ناحية، والأسوأ ترسيخ الهيمنة الصهيونية على المنظومة العربية من ناحية ثانية".
"منصب للأكفاء ولكل الدول"
وفي رؤيته قال الأكاديمي العراقي الدكتور حارث قطان: "على الرغم من أن الكثير من ويلات العرب ومآسيهم سببها الجامعة العربية، والتي لا تزال عالقة في الأذهان ومنها الضوء الأخضر في الحرب على العراق، لكن مسالة السجال هنا هي إحدى جوانب الفشل الذي أصاب العرب، ولا يعلم إلا الله متى يزول".
وفي حديثه لـ"عربي21"، من جانب قانوني ودستوري أكد أن "منصب الأمين العام يجب أن يكون لكل الدول العربية، وهنا علينا أن نكون واضحين فالمؤسسات عندما تكون حكرا لدولة دون بقية الدول الأخرى تصبح مؤسسة مكتوب عليها الفشل".
وأضاف: "هذه الأمم المتحدة، والاتحاد الأوربي، وحتى منظمة الوحدة العربية، متى كان أمينها حكرا لدولة دون أخرى أو دون دول أخرى؛ بل هو منصب يتحتم أن يكون للأكفاء بغض النظر عن الجنسية التي يحملها، فهل مصطفى مدبولي أو عادل الجبير، هما الأنسب؟".
وتابع: "أن يكون هذا المنصب دوري بين أعضاء جامعة الدول العربية، فهذه مسألة قانونية ودستورية تقرها قوانين المنظمات الدولية".
ويعتقد أن "الجدال والنقاش حول منصب الأمين العام بين مصر والسعودية المسألة والخلاف هنا لا يخص منصب الأمين وإنما هناك مسائل خلافية في وجهات النظر حول ترتيب أوضاع إقليم الشرق الأوسط وقضية غزة والتطبيع مع العدو الصهيوني".
وختم مشيرا إلى "القشة، التي أظهرت هذه الخلافات، وهي استقبال الرئيس المصري لوزير الخارجية الإيراني بالقاهرة، ما اعتبرته السعودية مد اليد المصرية لإيران في ضوء الضغوط الدولية على طهران، ما ترى فيه الرياض طعنة من الخلف من القاهرة، رغم وقوف السعودية والخليج بجانبها سياسيا واقتصاديا بأوقات عديدة".
"لهذا بات الإصلاح ملحا"
وفي تقديره، قال الأكاديمي المصري الدكتور صبري العدل: "الجامعة العربية منذ عقود وهي كيان إقليمي يعاني الإخفاق، ولدت فكرته من رحم الحرب العالمية الثانية، تحديدا خلال عام 1942، حين اندلعت مظاهرات بالقاهرة متزامنة مع تجهيز القائد الألماني إرفين روميل لحملة على مصر، وكان شعار التظاهرات وقتها (إلى الأمام ياروميل)".
أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف: "وهنا شعرت السلطات البريطانية بالقاهرة أن هناك اتجاه لمساندة النازية، وربما ينتشر ببقية الأقطار العربية، ولمنع هذا التيار رأى البريطانيون أنه لابد للعرب من إنشاء كيان إقليمي لمحاربة النازية، وكانت تلك لحظة ميلاد الجامعة العربية".
"التي ولدت بمعاهدة (سان استيفانو) بالاسكندرية 1944، في ميلاد كان يعبر في الأساس عن الحفاظ على مصالح الغرب المنتصر بالحرب العالمية الثانية، حتى قامت ثورة 1952 وتحررت معظم الدول العربية من الاستعمار"، بحسب العدل.
وتابع: "استمرت الجامعة حتى حقبة السبعينيات تهتم بالقضايا العربية، خاصة الصراع العربي الإسرائيلي، لكن منذ احتلال العراق للكويت 1990، وانهيار الاتحاد السوفيتي، باتت أمريكا القوة العظمى الوحيدة بالكوكب، لهذا كان احتلالها بغداد البداية الحقيقية لسلسلة اخفاقات الجامعة العربية".
ويعتقد أستاذ التاريخ، أن "الجامعة لا تلبي طموحات الشارع العربي ولا تعبر عنه، ولا تأخذ قرارات حاسمة إلا حين يكون هناك طرف عربي لدى بعضهم الرغبة في تدميره مثل (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن)".
ولفت إلى أنهم "في المقابل لم يتحدوا على قضاياهم المصيرية، بل فشلوا باتخاذ أي قرارات أمام إبادة إسرائيل لقطاع غزة ولمدة أكثر من عام ونصف، رغم أن شعوب العالم انتفضت لهول المجازر، حتي في إسرائيل نفسها، والجامعة العربية صامتة تماما وغير قادرة على الفعل".
وخلص للقول: "لهذا باتت هناك حاجة ملحة إلى إصلاح الجامعة، فهو خيار ضروري رغم صعوبته؛ ورغم إخفاقات الجامعة، إلا أن إغلاقها يعني التخلي عن آخر مؤسسة جامعة (ولو رمزيا) للدول العربية".
ويعتقد العدل أنه "بالتالي، من الأجدى المطالبة بـإصلاح جذري يتضمن، تعديل ميثاق الجامعة ليتناسب مع التحديات الحالية، وتمكين آليات أكثر فاعلية لحل النزاعات، وتحصين قرارات الجامعة عبر إلزامية تطبيقها، بدلا من أن تظل (توصيات)".
وأشار إلى "ضرورة إشراك منظمات المجتمع المدني والخبراء في السياسات، وعدم حصر القرار في وزارات الخارجية فقط، واعتماد آلية تداول ديمقراطي للرئاسة لضمان عدالة التمثيل"، مبينا أن "الإصلاحات ستكون صعبة، بسبب تناقض مصالح الدول، لكنها السبيل الوحيد لإبقاء الجامعة ذات معنى".
"خيبة أمل واعتراف بالعجز"
ويرى أن "المناداة بإغلاق الجامعة العربية يعكس خيبة أمل، لكنه أيضا اعتراف بالعجز الجماعي، ومن الناحية الواقعية، إغلاقها لن يحل الأزمات، بل قد يزيد تشرذم العالم العربي، وسيُفسح المجال أمام الاختراق الإقليمي والدولي (تركيا، إيران، إسرائيل) ليملأ الفراغ، وستكون رسالة سلبية تاريخية عن فشل العرب في إدارة منظومة تعاونهم الإقليمي".
وعما يثار حول الرغبة في انتقال مقر الجامعة من القاهرة إلى الرياض، أو ترشيح أمين عام من غير مصر أو حتي من مصر، قال العدل، إنه "سجال بدأ يظهر عقب ما يسمى بالربيع العربي، حين طرح اسم وزير الخارجية القطري أمام المرشح وزير الخارجية المصري أحمد أبوالغيط، واليوم يُطرح اسم عادل الجبير مقابل مصطفي مدبولي، ونقل مقر الجامعة للرياض".
ومضى يؤكد أن "مسألة نقل المقر وتداول الرئاسة، مطالب شرعية، والجدل حول المقر والرئاسة يعكس رغبة دول مثل الجزائر والسعودية في كسر احتكار مصر للمقر والقيادة الرمزية، وجعل الجامعة أكثر تعبيرا عن التنوع العربي، ونقل المقر أو تدوير الرئاسة، ليست مطالب تعسفية بل مطالب مشروعة، لكنها لا تعني بالضرورة تقويض دور مصر، بل يجب أن تُرى كخطوات نحو ديمقراطية مؤسسية داخل الجامعة".
"صراع السيطرة"
من جانبه، يعتقد الباحث السوداني في الشأن العربي وائل نصر الدين، أن "منصب الأمين العام للجامعة العربية يستحق هذا الجدل، فالمنظمة مازال لها بعض بريق، رغم ما طالها وجعلها باهتة، خصوصا بعد عمرو موسى آخر أمين قوي إذ ضعفت كثيرا".
وفي حديثه لـ"عربي21"، قال: "كانت لها أدوار تاريخية منذ 1945، فكانت الحامل الأساسي لقضية فلسطين، ومن أدوارها قمة الخرطوم التاريخية بعد هزيمة 1967، ومن قراراتها ارسال قوات ردع خلال الحرب الأهلية في لبنان، ومنها السماح بالتدخل الأمريكي في العراق 1990، وتدخل الناتو في ليبيا 2011، لذا فاسمها مازال قويا".
وأضاف: "لدي قناعة بضرورة تغيير نظام اختيار الأمين العام، فهناك دول عربية تشتري المنصب ويصبح دوره ترضيتها لا مراعاة مصالح باقي الدول العربية، ولم يقدم أية مبادرة إغاثية أو سياسية لحل أزمات عربية كبيرة: السورية اليمنية الليبية السودانية، فالجامعة لم تقم بأي دور وأوكلت التدخلات للأمم المتحدة".
وحول السبب، أكد الكاتب والمحلل السياسي السوداني، أن "دول خليجية تتحكم بأموالها في الأوضاع العربية لأنها تدفع راتب الأمين العام، ومحزن جدا عندما يقدم السودان شكوى ضد الإمارات تكون بمحكمة العدل الدولية بالأمم المتحدة، في حين تجمع الجامعة البلدين، لكنها لم تتدخل لأن الأمين العام لا يريد إغضاب الإمارات".
ولفت إلى أنه "في الأزمة السورية قدمت الجامعة خطوات وفرضت عقوبات على نظام بشار الأسد، وأرسلت فريق مراقبين، بعدها سلمت الملف السوري للأمم المتحدة والدول الغربية، حتى حدث التغيير بعد 14 عاما".
وألمح إلى أن "الجامعة "لم يكن لها دور بالملف الليبي، ولا باليمن التي تتعرض لقصف أمريكي إسرائيلي ولم يخرج بيان إدانة رغم أنها من الدول المؤسسة للجامعة؛ ناهيك عن فلسطين القضية الأساسية فلم تدع لقمة عاجلة، ولم يقد الأمين العام حملات الإغاثة وحملات الضغط السياسي".
علي، خلص للقول إن "منصب الأمين العام بعد عمرو موسى، باهت ليس له دور؛ بالتالي الكلام عن تغييره من مصري إلى خليجي تحصيل حاصل، لأن دول الخليج أصبحت تسيطر على الجامعة وتحكمها لتنفيذ سياستها".
"مع الإصلاح لا الإغلاق"
ورفض دعوات إغلاق الجامعة العربية، مؤكدا على ضرورة "تعزيزها، وإصلاحها بهذه اللحظة الصعبة"، ملمحا إلى أن "ثورات الربيع العربي شتاء وصيف وخريف 2011 والموجات التالية بالجزائر والسودان، أثبتت أن الجامعة كان لديها دور كبير في أمور أساسية".
وذهب لتبني "الدعوة إلى عودة روح الميثاق، وفكرة جامعة أساسها العمل العربي المشترك، والمصلحة العربية المشتركة، وليس صراع الدول والأنظمة والمصالح الضيقة، والقطرية، وهنا لا تهمنا مسألة جنسية الأمين العام، المهم أن يراعي مصالح الأمة العربية وتتحول الدول العربية لجسد أشبه بالكونفدرالية في الاتحاد الأوروبي؛ لكن للأسف هناك سيطرة من دول تمتلك الأموال وتفرض رأيها".