انتهى عهد المجد للساتك، ولا مجد بعد اليوم إلا للبنادق. هكذا قدّم البرهان جملةً ستبقى – على الأرجح – عنوانًا لمرحلة جديدة من الوعي السياسي والعسكري في السودان، وهي مرحلة يُعاد فيها ضبط المفاهيم، وتحديد من يملك حق تمثيل الشعب، وحماية سيادته، وإعادة بناء الدولة التي كادت أن تضيع جراء التآمر على وحدتها، والصراع على مواردها، وإفساح المجال للأطماع الإقليمية والدولية بضعف قادتها .

أكد رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، لدى مخاطبته أمس الأول الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الخدمة المدنية على جملة من القضايا المهمة. وأشار إلى أن “المجد للبندقية” ليست مجرد تصدٍّ للنقاشات العامة حول التحولات السياسية في السودان، بل هي تأكيد على أن الثورة التي عُرفت بمرحلة التغيير في عام 2019، قد أدخلت البلاد في أتون من الفوضى والصراعات الحزبية السياسية.

ورغم الطموحات التي رفعتها تلك الثورة في بداياتها، فإنها قادت البلاد إلى حافة الانهيار، حيث أصبحت رهينة لأطراف محلية ودولية لا ترى في استقرار السودان إلا تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية، وكانت هذه الأطراف بمثابة المحرك الرئيس للميليشيات التي أشعلت الحرب في منتصف أبريل من العام 2023. وبينما كانت الفوضى تتسارع، كان الجيش هو آخر خطوط الدفاع التي وقفت في وجه هذا التهديد الكبير، محافظًا على السيادة والأمن الوطني.

الجيش السوداني، الذي تلقّى استفزازات كبيرة بعد سقوط نظام البشير، أصبح اليوم القوة المركزية التي تحمي الدولة من التفكك، إذ كان هو من استعاد السيطرة على الخرطوم وولاية الجزيرة وعدد من المدن السودانية، بعد معارك طاحنة مع ميليشيات الدعم السريع التي كانت تحاول فرض سيطرتها على البلاد. هنا تكمن أهمية حديث البرهان عن البندقية، التي أعادت الأمور إلى نصابها، بعد أن كانت قد تزعزعت بفعل الحرب الداخلية والخراب الذي أحدثته المليشيا .

ورغم ما يُثار عن أدوار لعدد من السياسيين في إدارة المشهد – “الكيزان”، كما يشير البرهان في خطابه – إلا أن تصريحاته التي أكدت أن الجيش “لا يعرف التحزب أو الانتماءات الضيقة”، تسلط الضوء على وحدة القوات المسلحة السودانية التي تقاتل من أجل السودان، بعيدًا عن الانتماءات السياسية أو الإثنية. وهذه نقطة أساسية في حديث البرهان؛ حيث تواصل القوات المسلحة تمسكها بقيم الوطن والمواطنة، بعيدًا عن الولاءات الحزبية.

في إشارة أخرى، يأتي تصريح البرهان حول ضرورة “مراجعة قوانين الخدمة المدنية” ليتماهى مع الرؤية الشاملة التي طرحها في خطابه ، حيث يرى أن المرحلة القادمة تتطلب إجراء إصلاحات مؤسسية جذرية تساهم في استقرار البلاد. وقد وصف التعيينات العشوائية في المؤسسات الحكومية بأنها “ترضيات للأقارب”، وهو ما يعكس الضعف الذي شاب مرحلة ما بعد الثورة، التي بدلًا من أن تقود البلاد نحو الاستقرار، عادت بها إلى التفكك بسبب غياب الحوكمة الرشيدة.

في ظل هذه التحولات ، يظل السؤال الأهم: هل يمكن للبندقية أن تصنع مجدًا حقيقيًا يعيد بناء السودان؟ على الرغم من المخاوف من التحول إلى نهج عسكري صرف، إلا أن العديد من التحليلات تشير إلى أن البندقية السودانية، اليوم، هي ما يضمن وحدة السودان وسلامته من الانقسام والفوضى؛ حيث أصبح الأمن والسلام على رأس أولويات الشعب السوداني، في هذه المرحلة التي تحكمها الوثيقة الدستورية المعدلة لعام 2025، والتي أشارت بوضوح إلى إدارتها بواسطة حكومة تنفيذية من الكفاءات الوطنية المستقلة ، خلال 39 شهرًا، تُحضّر البلاد لانتخابات حقيقية يُترك فيها الخيار للشعب السوداني لاختيار من يحكمه.

لم تكن الإشارات بعيدة عن زيارة القاهرة، حيث التقى البرهان بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وبدأ أن هناك تحولات تسعى لإيجاد مقاربة سياسية ربما تعيد داعمي الميليشيا إلى المشهد. حديث عضو اللجنة الإفريقية في البرلمان المصري، النائبة نيفين حمدي، أشارت – عقب الزيارة – في تصريح لـ”بوابة الأهرام”، إلى وجود طرح مصري متكامل لتسوية الملف السوداني. وربما صفقة، بحسب مراقبين، تم التفاهم حولها ولو بصمت، رغم المواقف المصرية الداعمة لوحدة مؤسسات الدولة السودانية، ولأهمية استعادة الأمن والسلام للسودانيين.

في هذا السياق، بدأ خطاب البرهان بمثابة ردٍّ غير مباشر على هذه الطروحات، يحمل إشارات ذكية في اتجاهات متعددة، ويوضح أن الخرطوم الرسمية لن تتعاطى مع أي مبادرات تتجاوز تضحيات الجيش والشعب، أو تحاول إعادة تدوير الفوضى تحت مسمّى التسوية.

هذا، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، يمكننا القول إن حديث البرهان لم يكن مجرد تقريعٍ لمرحلة، بل إعلانُ نهاية لزمنٍ لم يُنتج إلا الخراب والحرب، وبدايةٌ لمرحلة سيبنيها الفاعلون الحقيقيون، أولئك الذين لم يتخلّوا عن مواقعهم حين انهارت الجبهات، ولم يستبدلوا البندقية باللافتات الكذوب، ولم يبيعوا سيادة البلاد في سوق الاصطفافات الدولية الخائنة للعهود. فالسودان الجديد، المجد فيه للبنادق التي حرّرت، لا للساتك التي خانت.

دمتم بخير وعافية.
الخميس 1 مايو 2025م

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

إنهم الآن يذوقون من الكأس ذاتها التي أرادوا أن يذيقوها للسودان

حول تلقي رئيس مجلس السيادة رسالة من رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فوستين أرشانج تواديرا، نقلها له مدير جهاز المخابرات، مستشار الرئيس.

كلما تقدم جيش الدولة ومُسانديه، بقيادة متحرك “الشهيد الصيّاد”، نحو الغرب والجنوب لاستعادة الأراضي المحتلة وتحرير جغرافيا البلاد من مليشيات أبوظبي، وفكّ أسر ملايين الرهائن من السودانيين في مناطق الاحتلال الإماراتي، كلما ازداد شعور دول الجوار الغربي والجنوبي بالخوف والقلق على مستقبل استقرارها وأمنها الداخلي.

فالانعكاسات الجيوسياسية المتوقعة لهذا التقدم العسكري، ميدانياً وعلى جبهات متعددة، ستكون عميقة وذات آثار تمتد عبر جغرافيا السهل الإفريقي حتى شواطئ الأطلسي. دول الجوار السوداني المباشرة تواجه احتمال تحوّل أراضيها إلى وجهة عكسية لمرتزقة أبوظبي، وهذه المرة سيكونون مدججين بالسلاح الثقيل والطائرات المسيّرة المتطورة. وهو ما سيدفع غالبيتهم ممّن لن يتمكنوا من الانتقال للضفّة الشمالية للمتوسط من الالتحاق بالحركات المتمردة والمطلبية داخل تلك البلدان، مما يزيد من تعقيد مشهد عدم الاستقرار فيها، بل وستتحوّل تلك الدول إلى أسواق مرتزقة، ومناطق تنافس جيوسياسي سيفاقم تعقيداتها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

إنهم الآن يذوقون من الكأس ذاتها التي أرادوا أن يذيقوها للسودان، حين شاركوا في مؤامرة إغراق السودان في الفوضى، واستبدال شعبه، وإعادة هندسة ديمغرافيته وأمنه القومي، واستتباع مؤسساته السيادية. فتحوا حدودهم ومطاراتهم لتحويلها إلى مراكز استيراد للمرتزقة والعتاد، في محاولة للتخلص من عناصر عدم الاستقرار القادمة من بلادهم وعبرها، ولأجل مكاسب مادّية رخيصة لنخب فاسدة عابثة بأمن واستقرار الإقليم. واليوم، أعتقد أنهم يسارعون إلى السودان في محاولة للتنسيق واحتواء آثار تلك التداعيات.

وتبدو الدولة، في هذا السياق، تتعامل بعقل ومسؤولية وهدوء مع هذه الملفات، واضعةً على رأس أولوياتها إنهاء حرب الغزو والعدوان، واستكمال تحرير البلاد، وبسط السيادة، وتحقيق الاستقرار. وبعد ذلك، قد يأتي النظر في ما تحدث عنه الفريق أول ياسر العطا بشأن “ردّ الصاع صاعين”.

Ahmad Shomokh

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الأخلاق والسياسة في زمن الكوليرا
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: الإعلام يحجز مكانًا جديدًا
  • مدير مخابراتها التقى البرهان ومفضل.. افريقيا الوسطى.. “اعادة ضبط المصنع”
  • إنهم الآن يذوقون من الكأس ذاتها التي أرادوا أن يذيقوها للسودان
  • البرهان يصدر قرار عاجل بشأن إتهامات أمريكية بإستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في الحرب
  • البرهان يُشكل لجنة للتحقيق بمزاعم استخدام السودان أسلحة كيميائية
  • إبراهيم السجيني: هدفنا رفع وعي المستهلك وليس العقاب فقط
  • زيادة عدد!!
  • السيد القائد عبدالملك: من مقامات النبي إبراهيم التي ذكرت في القرآن الدروس الكثيرة لنهتدي بها
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: عودة مهندس ازاحة البشير