هل يتلبّس الجِنيُّ بجسد الإنسان؟
تاريخ النشر: 28th, May 2025 GMT
بدر بن خميس الظفري
@waladjameel
سُئل سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عُمان، عن قضيّة تلبس الجن بالإنس فأجاب في مقطع مرئي منشور على "يوتيوب" بأنّ "هذه القضية العلماء وقفوا منها موقفيْن: منهم من قال بدخول الجن في جسم الإنس لأن أجسامهم أجسام لطيفة، أي هم أقرب إلى الروحانيّة، فلذلك يتمكنون من الدخول.
منذ فجر التاريخ، لم تنفكّ البشرية عن رواية القصص الغريبة التي تنسب حالات استثنائية من السلوك البشري إلى قوى خفية غير مرئية. وعلى الرغم من اختلاف الأديان والثقافات، ظلّ الاعتقاد بإمكانية "تلبّس الجن" بجسد الإنسان واحدًا من أكثر المعتقدات رسوخًا في الخيال الجمعي البشري. لكن أمام تطوّر العلوم الطبية والنفسية، برز سؤال جوهري: هل نحن فعلًا أمام كائن غيبي يقتحم الجسد، أم أمام اضطرابات عقلية نُسقط عليها تفسيرات غير مادية؟
في المنظور الإسلامي، يُعدّ الإيمان بالجن جزءًا من العقيدة، وقد خُصصت لهم سورة كاملة في القرآن. كما يُستشهد بآيات مثل قوله تعالى "الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ" لتأكيد فكرة التلبُّس. وقد تباينت آراء العلماء في هذه الفكرة، فابن تيمية وابن القيم يَرَيَان التلبُّس أمرًا ثابتًا شرعًا وواقعًا. أما الإمام الشافعي، وبعض المفكرين المعاصرين، فيرون أن تلك الحالات أقرب إلى الأمراض النفسية، وأن الشيطان يؤثِّر بالوسوسة لا بالدخول الحرفي إلى الجسد.
وفي المسيحية، تروي الأناجيل قصصًا عديدة عن قيام المسيح بطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى، كما هو الحال في قصة المجنون الجرجسي أو الصبي المصروع. الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تمارس طقوس "الإكسورسيزم" رسميًا، بينما تختلف المذاهب الأخرى في التفسير، بين تأويلات روحية وأخرى نفسية. وفي اليهودية، يظهر مفهوم "الديبوك"، ويعني روح الميت التي تسكن جسد الحي، بينما نجد في الديانات الهندوسية والبوذية والأفريقية طقوسًا يُنظر فيها إلى "تلبّس الروح" لا كشرّ؛ بل كوسيلة للتواصل مع المقدّس.
لكن العلم الحديث، بما فيه من تقدم في مجالات الطب النفسي وعلم الأعصاب، يقدّم تفسيرات مختلفة تمامًا؛ فحالات الفصام، مثلًا، قد تفسّر هلوسات الأصوات والتغيرات في الشخصية. بينما يشرح "اضطراب الهوية الانشقاقي" تعدُّد الشخصيات التي قد يتحدث بعضها بلغات مختلفة. كذلك نوبات الصرع، خاصةً تلك المرتبطة بالفص الصدغي، يُمكن أن تولِّد سلوكًا غريبًا أو تشنُّجات عنيفة تبدو للعين المُجرَّدة كتلبُّسٍ. وتبرُز أيضًا مُتلازمة "توريت"، التي تُنتج ألفاظًا لا إرادية وأفعالًا حادة قد تُفسّر شعبيًا كتصرّف شيطاني.
ما يهُم في الطرح العلمي هو أن التجربة التي يمر بها الشخص المتلبّس ليست محل إنكار، وإنما تختلف حولها التأويلات. ففي دراسة نُشرت في مجلة علم النفس عام 2021، تبيّن أن كثيرًا من مرضى الفصام الذين يؤمنون بأنهم "مسكونون" قد تأخروا في تلقّي العلاج الطبي بسبب تفسيرهم الروحي للحالة. ولهذا، يدعو الأطباء إلى اعتماد نهج متكامل يحترم المعتقدات الثقافية للمريض، دون أن يغفل الحاجة إلى العلاج الدوائي والنفسي.
وهذا ما أكد عليه سماحة الشيخ الخليلي عندما قال إنّ "هذه القضيّة لا ننكر وقوعها، إلّا أن ذلك قد رُوِّج له ترويجًا عجيبًا عند الناس، وهذا الذي جعل الناس يتأثرون تأثرًا نفسيًا عجيبًا وتترادف عليهم الأمراض النفسيّة، وتكثر عندهم الأوهام، وتشيع عندهم الخيالات، حتى يتحدث الإنسان بأنه رأى كذا ورأى كذا، وأنه يحس بكذا في حالة نومه أو في حالة انفراده أو في غير ذلك من أنواع الحالات. هذا إنما هو غالبًا ناشئ عن حالات نفسيّة، وقد كان الواجب أن تكافح هذه الأمور نفسيا بحيث يعوُّد الناس على التصلّب".
أما الفلسفة فتتعمّق بدورها في طرح أسئلة حول هذه الظاهرة، وإن كانت من زوايا أكثر تجريدية: هل هناك ذات واحدة أم ذوات متعددة داخل الإنسان؟ وهل يمكن لكيان غير مادي أن يحلّ محلّ الوعي الإنساني؟ تحدث ديكارت في فلسفته حول "ثنائية العقل والجسد"، وفي ضوء هذه الفلسفة، يمكن تخيّل التلبّس أنه نوع من حلول وعي آخر في الجسد. لكن المدارس المادية ترفض هذا تمامًا، وترى أن الوعي لا يمكن فصله عن الدماغ المادي. بينما ترى الفلسفات المعاصرة أن الذات قد تكون مرنة ومتغيرة، وأن ما نسميه "تلبُّسًا" ربما يكون فقط تعبيرًا رمزيًا عن تشظي النفس بفعل الصدمة أو الكبت أو الانفصال عن الواقع.
الشهادات الواقعية تحكي قصصا عن شباب وفتيات تغيرت أصواتهم، وتحدثوا بلغات لم يعرفوها من قبل، ثم "شُفوا" بعد الرقية الشرعية في العالم الإسلامي أو بعد التراتيل الإنجيليّة في العالم المسيحي. لكن الأطباء يحذرون من الخلط بين تحسُّن نفسي مؤقت ناتج عن الدعم الروحي، وبين شفاء حقيقي يحتاج إلى علاج مهني.
لا يمكن للعلم أن يلغي الغيب، كما لا يجوز أن يحتكر الدينُ تأويلَ كل ما هو غامض. وتبقى الظاهرة قائمة، تعكس ما هو أعمق من مجرد تفسير؛ بل تمتد إلى ما يشبه الخريطة الوجدانية للعقل البشري. وبين من يراها تجليًا للروح، ومن يفسّرها بانهيار كيميائي في الدماغ، تظلّ الحقيقة رهينة الحوار بين العقول، والإنصات إلى التجربة، والاعتراف بأن بعض الأسئلة لا تحتاج إلى إجابة نهائية؛ بل إلى فهم أعمق لما نجهله.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
الممثل الإقليمي للفاو: لا يمكن إيصال المساعدات لغزة دون ممرات آمنة
يعيش 500 ألف فلسطيني في قطاع غزة (أي ربع سكان القطاع) مرحلة الانعدام الغذائي، أي مرحلة المجاعة، في حين لا توفر إسرائيل ممرات آمنة لإيصال المساعدات للناس، وفق ما أكده الممثل الإقليمي لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية (فاو) عبد الحكيم الواعر.
ووفق ما قاله الواعر في مقابلة مع الجزيرة، فإن فتح إسرائيل المعابر جزئيا لإدخال نحو 100 شاحنة مساعدات يوميا مقارنة بـ600 شاحنة على الأقل يجب إدخالها، "ليس كافيا وأقل بكثير مما يحتاجه القطاع بعد إحكام الحصار طيلة 4 أشهر كاملة".
وحتى هذا القليل الذي يدخل لا يمكن توزيعه لأن المساعدات مشتتة في مناطق مختلفة وعملية النقل غير آمنة بدليل أن عمال الإغاثة قتلوا خلال قيامهم بتوزيع المساعدات على الناس.
ويمثل النساء والأطفال الفئة الأكثر استهدافا بعملية التجويع التي تمارسها إسرائيل، كما قال الواعر، مؤكدا أن المساعدات التي تدخل من معبر كرم أبو سالم لا يمكن توزيعها أبدا داخل القطاع بسبب غياب الممرات الآمنة.
طرق غير فعالة
ولا يمكن لما توفره إسرائيل حاليا من إجراءات أن ينقذ سكان غزة من الوضع المأساوي الذي يعيشونه، لأن فتح المعابر وحده ليس كافيا، لأن المطلوب هو تأمين توزيع المساعدات، وإلا فإنه لا يمكن الحديث عن تقديم الإغاثة للناس.
ووصل تجويع الفلسطينيين في غزة جراء الحصار الإسرائيلي وحرب الإبادة المدعومة أميركيا إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة وفق تقارير محلية ودولية حيث تزايدت الوفيات جراء سوء التغذية والجفاف، وبلغ العدد الإجمالي 154 شهيدا بينهم 89 طفلا وفقا لوزارة الصحة في القطاع.
وكتب 93 نائبا ديمقراطيا رسالة إلى وزير الخارجية الأميركية ماركو روبيو، أكدوا فيها أن إيصال المساعدات للفلسطينيين بشكل آمن وفعال يمثل التزاما أخلاقيا وضرورة لأمن إسرائيل.
وخلال الأيام الماضية، أقر الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سلسلة من التصريحات بأن الوضع في غزة "فظيع"، مؤكدا أن "الأطفال يتضورون جوعا"، ومتعهدا بإيصال المساعدات إلى القطاع.
إعلانلكن ترامب أشار في الوقت نفسه إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب- يريد الإشراف على مراكز توزيع الغذاء.