رغم "الصورة النمطية" التي يروجها كثيرون عن المرأة الأفغانية، ورغم تعرضها للتهميش والإقصاء، سواء بسبب الأعراف القبلية أو أنظمة الحكم، فإن هناك نساء أفغانيات اشتهرن وكسرن هذه القاعدة، وكانت لهن أدوار مهمة أثرت في التاريخ الأفغاني.
أديبات وشاعرات وبطلات قوميات وأحيانا سياسيات، وفي ما يلي نبذة عن أشهر 5 نساء في تاريخ أفغانستان:
رابعة البلخيةأم الشعر الفارسي كما يطلق عليها، هي أول امرأة نظمت الشعر باللغة الفارسية الحديثة، وكانت معاصرة للشاعر الكبير (الرودكي) الذي يطلق عليه لقب "أبو الشعر الفارسي".
عاشت رابعة في القرن الرابع الهجري بمدينة بلخ في خراسان (أفغانستان)، وكان والدها كعب واليا للسامانيين على مدينة بلخ، وقد ورد ذكر شعرها وحياتها في مؤلفات كبار الشعراء والمتصوفة، على رأسهم أبو الشعر الفارسي (الرودكي)، وفريد الدين العطار في "تذكرة الأولياء"، وظهير الدين العوفي في "لباب الألباب"، ونور الدين الجامي في "نفحات الأنس".
ويعتبر كثيرون رابعة علما بارزا في تاريخ الشعر الصوفي الفارسي، وهي من الشاعرات النادرات آنذاك، إذ كان الشعر الفارسي في مرحلة النهوض بعد انتكاسة طويلة.
ساهمت عوامل عدة في تشكيل شاعريتها الفذة، فهي ابنة مدينة بلخ عاصمة العلم والثقافة ومسقط رأس المئات من كبار العلماء والأدباء والمتصوفين والعارفين آنذاك حتى إنه كان يطلق على بلخ لقب "أم البلاد".
إعلانإضافة إلى ذلك، نشأت رابعة في بيت نبيل، وهي سليلة الأمراء، وكان والدها محبا للعلم والأدب، وقد تلقت تعليمها على يديه وأجادت اللغتين الفارسية والعربية، وكانت معاصرة للشاعر الكبير "الرودكي"، ويقال إنها التقته وتأثرت به، وكتبت قصائد كثيرة تناقلها الرواة، لكن فقد معظم شعرها ولم يصل منه بعدها إلا القليل من قصائدها التي تشهد على شاعرية فذة.
مَلالَيْ مَيْوَندأشهر امرأة أفغانية في التاريخ الحديث، كانت من أسباب انتصار الأفغان على المحتلين الإنجليز، ولدت عام 1861 في قرية ميوند التابعة لمدينة قندهار، العاصمة القديمة لأفغانستان.
كانت أفغانستان تتعرض في ذلك التاريخ للحملات الاستعمارية البريطانية المتتالية، ومن أهم المعارك التي دارت بين البريطانيين والأفغان معركة ميوند بقيادة محمد أيوب خان، ووقعت أحداثها في قرية ملالي (ميوند).
كانت الحملة البريطانية شديدة على المقاتلين الأفغان وتكبدوا خسائر شديدة، ولكن تلك الشابة البشتونية ذات الثمانية عشر عاما لم تجلس مكتوفة اليدين، بل سارعت للمشاركة في محاربة الاحتلال.
كانت تسقي الفرسان في المعركة، إلى أن رأت حامل اللواء يستشهد ويسقط عن حصانه ويسقط اللواء معه، فهبت بكل شجاعة وحملت اللواء وامتطت الحصان وأخذت تنشد بيتين من اللَّندَيْ (وهو نوع من الشعر الفلكلوري البشتوني تنظمه وتتناقله النساء عادة)، ويقول معنى البيتين:
إذا لم تستشهد في معركة ميوند فأنت ستعيش دائما في العار
سأمر على دم حبيبي الطاهر المراق الذي يخجل منه حتى الورد الأحمر
حين سمع الفرسان صوت الشابة ملالي تنشد البيتين تحركت الحمية في نفوسهم وفار الدم في عروقهم، فخرجوا من الخنادق لا يبالون بالموت، وهجموا على الأعداء ونكلوا بهم حتى انتصروا عليهم في معركة فاصلة كانت انعطافة كبيرة في تاريخ المقاومة الأفغانية ضد الاحتلال.
إعلانوقد أدت تلك المعركة لاحقا إلى النصر على المحتلين الإنجليز، أما ملالي فقد استشهدت في المعركة، لكنها بقيت رمزا تاريخيا لدور المرأة الأفغانية في المقاومة، ولا يزال ضريحها معلما مهما في مدينة قندهار.
وقد أصبحت مَلالَيْ مَيْوَند ملهمة للمرأة الأفغانية ورمزا للشجاعة ورفض الذل، وأطلقت آلاف العائلات الأفغانية اسم ملالي على بناتها تخليدا لذكراها.
من أشهر شاعرات أفغانستان في العصر الحديث، ولدت بالعاصمة كابل في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي أثناء حكم سلالة الدراني لأفغانستان.
كان والدها ضابطا في الجيش في عهد الملك أحمد شاه الدراني، ثم في عهد تيمور شاه الدراني.
اهتم والدها بتعليمها وتأديبها، فاختار لها معلما درست على يديه القرآن والقراءة والكتابة، وبعد أن لمس فيها حب العلم والرغبة في الاستمرار اختار لها معلما يدرسها الأدب الفارسي.
درست ديوان شعر حافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي لا سيما كتابيْه "بستان" و"كلستان"، كما اطلعت على شعر الملا الجامي وغيرهم من أكابر الشعر الفارسي، إضافة لذلك، درست علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، كما تعلمت تجويد القرآن وغيرها من العلوم.
بدأت عائشة بنظم الشعر في وقت مبكر من حياتها، وكانت أولى قصائدها في وصف كابل، وألقتها بحضور الملك تيمور شاه، الذي كان هو نفسه شاعرا وأديبا، فأُعجب بشعرها وكافأها وشجعها على الاستمرار في نظم الشعر.
يرى النقاد أن شعر عائشة الدراني مر بثلاث مراحل: الأولى مرحلة شعر الغزل وكانت في فترة شبابها، والثانية مرحلة الشعر الصوفي، وهي مرحلة تعرضت فيها البلاد للحملات الإنجليزية وزوال حكم الدرانيين، والمرحلة الثالثة شعر المراثي، وهي نتيجة لفقدانها ابنها الوحيد الذي كان جنديا في الجيش في إحدى المعارك مع الإنجليز.
توفيت عائشة في العام 1853، وتركت إرثا مهما من الشعر الفارسي، وسطّرت اسمها بين أهم أدباء أفغانستان في العصر الحديث.
في عام 1882 وبأمر من الملك عبد الرحمن خان تمت طباعة ديوان عائشة الدراني لأول مرة، الذي حوى ثلاثة آلاف بيت، وأعيد نشره وتحقيقه في العام 2007.
مؤسِّسة أول مدرسة للبنات في كابل وصاحبة الفكر الليبرالي ثريا محمود طرزي، جدها سردار غلام محمد خان طرزي، الذي كان من المعارضين للملك عبد الرحمن خان، فتم إبعاده مع عائلته إلى الهند، ثم انتقل إلى سوريا التي كانت لا تزال تحت حكم الدولة العثمانية.
إعلانكان والد ثريا وجدّها شاعرين وأديبين، وأقامت العائلة في دمشق وتزوج ابنه محمود من سيدة حلبية ورزقا بابنتهما ثريا في العام 1899، تلقت ثريا تعليمها في العاصمة السورية، وتعلمت إضافة للغتها الفارسية اللغات العربية والتركية والفرنسية.
وبعد وفاة الملك عبد الرحمن خان وتولي ابنه حبيب الله خان، سُمح للعائلة بالعودة إلى أفغانستان، وكان الملك مع عائلته في استقبالهم.
وكان الأميران أمان الله وعناية الله، ابنا الملك، في سن الشباب وأعجبا بثريا وأختها خيرية، فتزوج أمان الله ثريا، وتزوج أخوه أختها، وبعد أن أصبح أمان الله ملكا لأفغانستان عام 1919، أصبحت ثريا هي سيدة القصر في البلاد.
كان الملك والملكة شغوفين بنشر العلم والمعرفة، وكان الملك حريصا على الارتقاء بالمرأة الأفغانية. وفي عام 1921 افتتحت الملكة أول مدرسة للبنات في كابل واستقدمت المعلمين من تركيا وألمانيا والهند للتدريس فيها.
وفي العام ذاته، وبأمر من الملكة تم إصدار العدد الأول من دورية خاصة للنساء، إذ كانت والدة الملكة أسماء طرزي المديرة المسؤولة فيها، وتم إرسال المئات من الفتيات في بعثات دراسية إلى تركيا وغيرها من الدول.
كانت للملكة توجهات ليبرالية فيما يخص المرأة الأفغانية، بعضها كان يخالف الأعراف والتقاليد، لذا لقيت معارضة شديدة هي وزوجها الملك، الذي أُجبر عام 1929 على التنازل عن الحكم، ونفته السلطات الأفغانية مع زوجته وأبنائه إلى إيطاليا.
وفي العام 1968 توفيت الملكة ثريا في روما وأعيد جثمانها إلى أفغانستان ودفنت إلى جانب زوجها في مدينة جلال آباد.
من أبرز السياسيات والناشطات في حقوق المرأة في بداية القرن الـ21، ولدت عام 1975 في ولاية بدخشان شمالي أفغانستان، وكان والدها نائبا في البرلمان الأفغاني 25 عاما.
إعلاندرست فوزية كوفي العلوم السياسية، وعملت في منظمات إنسانية لمساعدة الأطفال والنساء، ترشحت لانتخابات مجلس النواب عام 2005، وكانت أول امرأة تتولى منصب نائب رئيس البرلمان.
كانت تنوي الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2014، لكن صغر سنها لم يؤهلها آنذاك للمشاركة، إذ إن الحد الأدنى للسن كان 40 عاما.
كانت فوزية عضوا في الوفد الأفغاني للمفاوضات مع حركة طالبان في ثلاثة لقاءات، مرتان في موسكو ومرة في الدوحة.
ألفت فوزية كوفي كتبا عدة، أشهرها كتاب "رسائل إلى بناتي" الذي ترجم لعدة لغات وضم خلاصة أفكارها وتأملاتها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المرأة الأفغانیة عبد الرحمن خان کان والدها أمان الله فی تاریخ فی العام
إقرأ أيضاً:
المقصورات... إلياذات الشعر العماني
حسن المطروشي -
لعلنا لا نبالغ إذا ما نعتنا مقصورات الشعر العماني بأنها إلياذات، نسبة للإلياذة الشهيرة لهوميروس في التراث الشعري اليوناني. والمقصورات هي جمع مقصورة، وتُعَرَّفُ المقصورة بأنها القصيدة التي يأتي رويّ الأبيات فيها ألفًا مقصورة، ولئن كانت الإلياذة وقرينتها الأوديسة تنتميان إلى أدب الحرب، فإنهما لا تخلوان من تعدد المواضيع الأخرى كالمجد والشرف والتراجيديا والفخر والقيم الإنسانية العليا. كل ذلك نجده في قصائد المقصورات العمانية، التي تشترك مع الإلياذة أيضا في أحجامها. فإذا ما تصفحنا المقصورات العمانية التي تبدأ بمقصورة ابن دريد وصولا إلى مقصورات الشعر المعاصر نجدها تقع في مئات الأبيات. وتتداخل في بنيتها المواضيع لتشمل الخاص والعام، والإنساني بالذاتي، استيعابا لمختلف القضايا التي يود الشاعر سردها في قصيدته. وهنا نتوقف عند أبرز المقصورات التي عرفتها مدونة الشعر العماني؛ إذ من الصعب الإلمام بكل ما كتب على هذه القافية، وليس هذا غرضنا في الأساس، وإنما نهدف إلى رصد المقصورات الأبرز، وتلك التي تشكل إضافة في رصيد تجربة الشاعر.
المقصورة الدريدية
وهي مقصورة محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (223 ــ 321 هـ/ 837 ــ 933م). جاء في الموسوعة العمانية: «اشتهر ابن دريد شعريا بمقصورته التي حفظت في مخطوطات كثيرة مع شروحها. وهي قصيدة نظمها على بحر الرجز». وقد «اختلف في عدد أبياتها؛ إذ تتراوح بين 229 و280 بيتا بحسب مخطوطاتها، وطبعت المقصورة مرات مع شروح كثيرة».
ويرى ابن هشام اللخمي في شرحه للمقصورة أن «ابن دريد من المقدّمين في نظم القصائد المقصورة، من حيث بناؤها وإحكام نظمها وسلاسة أسلوبها وجمال سبكها ورفعة موضوعتها إنسانية كانت أو حكما أو أمثالا أو مشاعر وأحاسيس، لذا نالت مقصورته شهرة واهتماما واسعين بين أهل العلم». ويقول الخصيبي في (الشقائق): «والقصيدة رائقة فائقة جدا، جامعة للفصاحة والبلاغة، وفيها من الحكم والعبر وأمثال العرب والسير ما يفوق على ما في أمثالها ونظائرها، وهي في مدح الشاه عبدالله بن محمد بن ميكال وولده أبي العباس إسماعيل بن عبدالله».
وتشتمل مقصورة ابن دريد على عدة موضوعات تمكن ببراعته الشعرية اللغوية أن ينسجها بإحكام بالغ دون أن يشعر القارئ بأنه انتقل من موضوع إلى آخر. بدأ ابن دريد مصورته مخاطبا (ظبية أشبه شيء بالمها)، متحدثًا عن فخره بذاته وصبره ورباطة جأشه في مواجهة صروف الحياة القاسية. كما اشتملت المقصورة على وصف قوم ناموا على رواحلهم في البيداء، ثم انتقل إلى الحكمة والأمثال، لينتقل إلى الغزل والحديث عن النساء، ثم أبحر في فضاء التاريخ ليستحضر وقائع وأسماء خالدة في الذاكرة، متخذًا من تلك الأحداث والرموز أمثلة حية على تحولات الزمن. كما خصص ابن دريد جزءًا من المقصورة لمدح الأمير عبدالله بن ميكال وابنه العباس. ويختتم ابن دريد مقصورته البديعة قائلا:
من كل ما نال الفتى قد نلته
والمرء يبقى بعده حُسن الثنا
فإن أمت فقد تناهت لذّتي
وكل شيء بلغ الحد انتهى
وإن أعش صاحبت دهري عالما
بما انطوى من صرفه وما انتشى
المقصورة النبهانية
هي مقصورة الشاعر السلطان سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني (ق: 9 هـ/ 15م). وتعد هذه المقصورة من أقدم وأفخم المقصورات العمانية أيضا. تبدأ القصيدة بوصف موكب العير وهي تقطع الفلاة «بين فيد فاللوى» من مكة المكرمة. ثم ينتقل الشاعر للفخر بنسبه وأصوله وكرمه وسخائه ومروءته وأخلاقه، كما يصف رباطة جأشه وشجاعته وبسالته في الحروب وثباته في مواجهة الأعداء، ويرسم صورا لنزاله مع الشجعان، ثم ينعطف للحديث عن الخمرة والمرأة التي يبادلها الحب، ثم يذهب للحديث عن الحكمة والمواعظ والأمثال ويسرد جوانب من مما اكتسبه من تجارب جعلته خبيرا بالحياة وأحوالها وتقلباتها. يقول النبهاني في المقصورة واصفًا كرمه وشجاعته:
أنا أخو الفضل وينبوع الندى
ومعدن الصدق لعمري والوفا
ففي يميني للورى ويسرتي
بحران جاشا من مَنونٍ ومُنى
وتجسد مقصورة النبهاني صورة بانورامية لمجمل مشروعه الشعري ومواضيعه المختلفة التي اشتملت عليها قصائده، والتي ترتبط في مضامينها على نحو لافت، حتى قال عنه الدكتور نزار العاني في كتابه (النبهاني بين الاتباع والابتداع): «قصيدته غالبا تضم كل أغراض شعره مجتمعة. يتقدم هذا الغرض على ذاك أحيانا، ولكن لا بد أن تتجاور كل الأغراض في نهاية المطاف داخل سياق القصيدة الواحدة. قد يطعّم القصيدة ببيت من الحكمة أو الخمريات، أو يستبعد هذا الغرض أو ذاك».
ولئن كانت مقصورة ابن دريد قد حظيت باهتمام من العلماء والأدباء ونالت بشهرة واسعة، بل كانت هي السبب في شهرة صاحبها الكبيرة، فإن مقصورة النبهاني قل من التفت إليها من الباحثين والدارسين، رغم بلاغتها وقوة سبكها وعلوّ لغتها وتعدد مضامينها وموضوعاتها، ما يجعلها من الأهمية بمكان بحيث تضاهي أهم المقصورات العربية على الإطلاق.
مقصورة ابن سنان
تعد مقصورة خلف بن سنان الغافري (ق: 11 ـ 12 هـ/ 17 ـ 18 م) أطول المقصورات العمانية؛ إذ بلغت خمسمائة بيت بالتمام، وهي تتضمن عدة قضايا ومواضيع أسبغ عليها الشاعر ثقافته الدينية، كونه كان قاضيا وفقيها، إلى جانب كونه شاعرا. يقول محمد بن سليمان الحضرمي في كتابه (المشرب العذب): «ومقصورة خلف بن سنان الغافري مشبعة حكما ومواعظ وإرشادات واستدلالات، ومواضيع هذا النص الطويل متفرقة، فتراه يقحم من موضوع إلى آخر، بإيجاز وببراعة لغوية.
ويسكب في مقصورته لغته المعجمية، غير أن خيطا رفيعا يمسك ببنية القصيدة، فلا تضيع بنيتها أو تتفكك وحدتها».
وتمثل مقصورة ابن سنان صورة واقعية لتجربته الشعرية وثقافته ورؤيته للحياة والوجود والقيم التي كان يعتنقها ويدعو إليها عبر قصائده. يقول جمال النوفلي في كتابه: (خلف ابن سنان: حياته وشعره): «وفي الاتجاه التقليدي وجدنا أن الشاعر أكثر من المديح، بل قد شمل أكثر شعره، بالإضافة إلى الأغراض التقليدية الأخرى، كالغزل والرثاء وغيرها. وفي الاتجاه الديني مال إلى الزهد والوعظ والإرشاد والمسائل الفقهية. وفي الاجتماعي اختار الإخوانيات والنصائح والحكم». وهكذا جاءت المقصورة مشتملة على كل ما ذكر من الأغراض والاتجاهات. يبدأ خلف ابن سنان مقصورته باستهلال غزلي مخاطبا الفتاة الكاعب الحوراء الفاتنة، فيصيف محاسنها وجمالها فيقول عنها:
ليس بها شين يرى لكنها
بلا سلاح سفكت منا الدما
وأنها للعالمين فتنة
لذي هوى من الورى وذي تقى
ثم يبادرها بالقول إنه قد أدركه المشيب ولم يعد ذلك الفتى المولع بالحسان، فيصف الشيب وكيف صيره الدهر:
وصيرتني الحادثات أقزلا
مهما أرد أمشي مشيت بالعصا
وحين يتذكر أيام الشباب والصبا يعود لوصف الدهور وانقلابه، ثم يسرد رؤيا له تحمل في طياتها البشرى الطيبة وهي أنه رأى جبريل في منامه يبشره بالقبول والرضا من الله. ثم يتجه للموعظة والحكمة وضرب الأمثال وإسداء النصيحة ويذكّر بالآخرة ويدعو إلى منهج التوحيد الخالص، ويسهب في سرد بعض قناعاته الدينية والعقدية والفقهية. وفي السياق ذاته تنفتح القصيدة على مواقف حاسمة في التاريخ الإسلامي كان لها أثر كبير في توجيه مسار الأمة، يسجل الشاعر موقفه منها بوضوح مشيرا إلى أسماء وأحداث بعينها، ثم يتحدث عن قيم العدل في الحكم ووسائله وعلاقة الحاكم بالرعية. ثم يمدح الإمام سلطان بن سيف اليعربي ونجله مرشد، ويسهب في ذكر مناقبهما وفضلهما. وهنا ينتقل للنصح والموعظة والالتزام بنهج الهدى والتقوى والحث على الطاعة، ويبين عاقبة الغرور بالدنيا وبهرجها
وفي سياق المديح يذكر الصالحين الذين لم تغررهم الحياة الدنيا، ويذكر بالأقوام السابقة التي رحلت وبقيت آثارهم وأفعالهم شاهدة عليهم. ثم يعود للنصيحة ويأمر بالتمسك بالقيم الإنسانية العليا والخصال الحميدة مثل التحلي بالشجاعة والعفة وحفظ السر والكرم وحسن العشرة والحلم والتحذير من الإساءة في القول والعمل. كما لا يفوته أن يسدي النصح للولاة والقضاة والحكام والكاتبين بالعدل بين الناس والتجار وتعامل القادة مع الجند. ولابن سنان ثلاثة أبيات يذكر فيها فراغه من كتابه المقصورة ويشير إلى عدد أبياتها، ويطلب من الله تعالى نيل ثوابها:
مقصورة الأديان والآداب
تمت بعون الملك الوهاب
خمس مئين عدها لا ناقص
أو زائد في صادق الحساب
أرجو بها من خالقي وفاطري
نيل الثواب والعطا الحساب
مقصورة البهلاني
تأتي مقصورة الشاعر أبي مسلم البهلاني (1860 ـ 1930م) كإحدى العلامات الشعرية الفارقة في تجربته، عكست قدرته الفائقة في الإمساك بزمام اللغة وسعة قاموسه اللغوي ومهارته في توظيف هذه الرصيد اللغوي الهائل في بناء قصيدة ملحمية كبيرة، ضمنها مختلف رؤاه في الحياة ومواقفه السياسية والأخلاقية والوطنية، حشد كل ذلك في قصيدة متينة البناء صعبة المعاني حتى على النخبة المثقفة. يقول محمد الحارثي في تقديمه للآثار الشعرية للبهلاني: «والمقصورة واحدة من أهم قصائده، رغم ذيوع النونية التي حجبت ـ بانتشارها الواسع بين القاصي والداني ـ فرادة فريدته المقصورة التي تضاءل الالتفات لها بسبب لغتها المستعصية حتى على النخب المثقفة التي لم تفكك إلماحات بيانها».
ونظرا لصعوبة هذه القصيدة وغرابة ألفاظها فقد باتت بحاجة إلى شروحات لبيان معانيها، حتى أن الشيخ منصور بن ناصر الفارسي قد ألف كتابا في هذا الشأن أسماه (الدرر المنثورة في شرح المقصورة)، نهج فيه على تفكيك أبيات القصيدة كل بيت على حدة، فيعمد إلى تبيان معاني الألفاظ ثم إلى شرح معنى البيت على نحو إجمالي. يقول الفارسي: «فقد سألني بعض الإخوان من الطلبة أن أشرح مقصورة الشيخ أبي مسلم ناصر بن سالم بن عديّم الرواحي شرحا مختصرا يبيّن الغريب من ألفاظها، ويكشف ما انطوت عليه معانيها .. فترى أذكر أولا معاني الألفاظ ولغاتها وربما أعربت حينا وأتركه آخر طلب الإيجاز وتركا للتطويل المملول، ثم أذكر المعنى المقصود من مجموع البيت على ما ظهر لي من ذلك، وبالله التوفيق».
عاش أبو مسلم البهلاني جل حياته في زنجبار بعيدا عن وطنه الأم عمان. وقد جسد حنينه لعمان في جزء كبير من شعره حتى بات ذلك ملمحا واضحا في تجربته، وأدل مثالين على ذلك مطلع نونيته الشهيرة، ومطلع مقصورته التي نحن بصدد الحديث عنها، والتي جاء فيها:
عرِّج عليها والها لعلها
تريح شيئا من تباريح الجوى
يقول الشاعر سماء عيسى: «يبدأ الشاعر قصيدته بمطلع رثائي لبلاده، حيث وعلى مدى ٢٥ بيتا، ينعى الحياة بها بشكل يوحي باندثارها الكلي. وما يحدث إذن هو إنه في الوقت نفسه يسقط حالته النفسية المتعبة جراء شوقه إلى بلاده، على تصوراته المأساوية عليها. هناك إذن هذه الحالات الثلاث التي تتبادل الظهور معا ومنفردة أيضا: رثاء وطنه البعيد، شوقه إلى وطنه، الدعوة إلى إعادة المجد إلى الوطن، وذلك عبر الاستيحاء التاريخي للأحداث».
يستمر البهلاني في التعبير عن شوقه الجارف لمرابع الصبا ومنازله الأولى التي حملها في قلبه رغم بعد المكان، ويسهب في بث لواعجه وحنينه وما يقاسيه من آلام البعد وسطوة الاشتياق. وما يلبث أن ينتقل بكل سلاسة إلى الحديث عن تغير أحوال الزمان والمشيب وما يقترحه على حياة المرء، مبينا تعاطيه هو مع هذا الواقع الجديد بعد أن خاض الحياة وجرب تصاريف الزمان فيقول:
ما ساءني الفائت إذ أكسبني
كنزا من الصبر وفوزا بالرضا
وتمضي مقصورة البهلاني تمزج بين العام والخاص متخذة من مضمار الحكمة والموعظة ميدانا فسيحا يسكب فيه الشاعر قناعته وأفكاره ورؤاه للإنسان وقيم الحياة. ثم ينتقل البهلاني إلى فضاء آخر في القصيدة منتقلا إلى الاستنهاض والدعوة إلى الدفاع عن الحرية والعدالة والكرمة الإنسانية ونبذ الجبن والخنوع ويدعو إلى الثورة على الظلم والقهر من أجل نيل الحياة الكريمة التي تليق بالإنسان. وهنا يعود البهلاني إلى التاريخ مذكرا بالأمجاد والبطولات التي صنعها الأجداد وقدموا التضحيات من أجلها، مستصرخا الأجيال الجديدة للنهوض مواصلة دروب الكفاح:
إلى متى نعجز عن حقوقنا
إلى متى يسومنا الضيم العدا؟
وفي هذا السياق يقول سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي: «ولئن جئنا إلى قصائده الأخرى التي تتعلق بجانب الأمة نجد أنه الطبيب الخبير، فقد عرف حق المعرفة داء الأمة ودواءها، كما نجد ذلك واضحا في كل قصائده التي تناولت هذا الجانب لا سيما تلكم القصيدة العصماء المقصورة، والتي شخص فيها العلة وجسّد الألم، ووصف فيها الدواء.»
على هذه الوتيرة المتدفقة وبهذا النفس المتوتر يستطرد البهلاني مخاطبا الضمير الجمعي بأن يهب من سباته وينفض عن كاهله غبار الذل والمهانة والعجز، وألا يرضى العيش في ظل واقع لا يحظى فيه بحقوقه كإنسان حر وكريم. وفي ترنيمة ختامية يدعو البهلاني إلى التعاضد التآلف والوقوف صفا واحدا لنيل النصر، فذاك أدعى إلى تحقيق الغيات الكبيرة:
عسى الذي قدّر ما يهولكم
يزيل باللطف الخفي ما جلى
مقصورة الخليلي:
من أبرز المقصورات الحديثة التي عرفها الشعر العماني مقصورة أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي (1920 ـ 2000م) التي نشرها في ديوانه (وحي العبقرية) بعنوان (المقصورة) وتقع في 251 بيتا. ورغم طول هذه القصيدة إلا أنها تكاد تنحصر في مواضيع محددة تمثل جانبا رئيسيا في اشتغالات الخليلي الشعرية وهي الفخر والشكوى من تحولات الزمان إلى جانب الوعظ والنصيحة والحكمة والاستنهاض، يضع ذلك في إطار ديني متكئا على ثقافته التي تلقاها من محيطه الأسري وبيئته الاجتماعية. وللخليلي مقصورة طويلة أخرى بعنوان (وحي النهى) نشرها في ديوان مستقل، وهي مرتبة حسب الحروف الهجائية. هذه المقصورة لم تخرج في مجملها عن سياق الوعظ والإرشاد الديني. لذا فإننا سنتوقف هنا فقط عند مقصورته السابقة.
يستهل الخليلي مقصورته بالحنين إلى مرابع الطفولة مناجيا البرق بأن يصب نداه باردا كالثلج في أحشائه لعله يبرد لوعة حنينه وأشواقه المتأججة إلى تلك المغاني والديار. ويعاتب البرق لم لا يناله فيضه ولا تصله نعماؤه، فهو أشبه بفتية الكهف كما وصفهم القرآن إذ تزاور الشمس صبحا عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال:
أم ما لمنهلّك لا ينالني
كأنني من فتية الكهف فتى
تزاور الشمس إذا ما طلعت
عني يميناً وشمالا في المسا
ويستطرد في مناجاته الحارقة للبرق بألا يبخل على معاهده، ويناشده بما تختص به هذه المعاهد التي عاش فيها فتى يافعا ثم كبر بين ربوعها وتشرب فيها العلم والقيم والمروءة، فهي منبت الماجدين وفيها بناة الأمجاد وأصحاب الفضل. وفي سياق الفخر يكتب عن نسبه وأسرته، مشيرا إلى أنها أنجبت العلماء والقادة والمرشدين والمصلحين والصالحين، ثم يعود متفجعا على ذاته بعد رحيلهم:
يا ويح نفسي وأنا بعدهم
في موقف كأنه على هُوى
وفي المجمل تراوح القصيدة موقعها متنقلة بين الفخر والموعظة والنصيحة والدعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق، إلى نهايتها حيث يختتمها مبتهلا إلى الله طالبا الغوث والرحمة والصفح منه تعالى، مختتما بالحمد والثناء للخالق جلت قدرته على ما ناله في الحياة وما لم ينله:
والحمد لله على ما رمته
فنلته حمداً كأنفاس الصبا والحمد لله على ما لم أنل
من أربي حمداً كلألآء السنا
مقصورة السيابي: رايات الهدى
تضمن ديوان هلال بن سالم بن حود السيابي مقصورتين همان (رايات الهدى) و(بروق المجد). ونحن هنا سنتوقف عند المقصورة الأولى إذ هي الأقرب لموضوعنا، فهي قصيدة ذات بعد تاريخي درامي، وتشتمل على أكثر من محور، وهي قصيدة طويلة بلغت 200 بيتا. أما المقصورة الثانية فهي قصيدة قومية استنهاضية وعدد أبياتها أقل بكثير من المقصورة الأولى.
تبدأ القصيدة بمطلع طللي ينضح بالحنين إلى مرابع الطفولة ومدارج الصبا، حين يلوح البرق من ناحية هاتيك الأمكنة القصية الساكنة في القلب، فيهيج أشواق الشاعر بوميضه الأخاذ، فيرحل عبر سفر روحي متخيلا تلك البقاع النائية، مستحضرا ملامح المكان والوجوه والأصوات والتفاصيل الدقيقة التي تهطل من أدغال الذاكرة، يقتنصها الشاعر ليؤثث بها نصه الشاسع.
ناجِ الربوع أيها البرق وقف
بأدمعي منهلَّةً على الربى
وخلِّ نفسي تتلاشى شررا
بومضها ما بين هاتيك الذرى
يتخذ الشاعر من الحنين والشوق إلى الديار مدخلا ليلج إلى رحاب التاريخ الذي كانت له تلك الديار مسرحا وشهدت البطولات وقامت فوقها الحضارة العظيمة، فهي كما وصفها:
وقادت التاريخ ردحا وأبت
راياتها إلا شوامخ الذرى
وضجت البحار من أسطولها
ومن شنابك الخيول بالقرى
ويلتفت الشاعر مخاطبا البرق بأن يحمل السلام والتحية إلى مرابعه وأن يسكب عليها المطر المدرار. ثم يدخل السيابي إلى تفاصيل المكان العماني حين يأخذ قارئه إلى عدد من المدن العمانية العريقة ذاكرا مآثرها الخالدة، معرجا على بعض الأحداث التاريخية كقوله:
وفي (صحار) وقف التاريخ بي
مزدهيَ الغرة يمشي الخُيَلا
خطى (الجلندى) في حماها شهب
تضيء للتاريخ أعظم الخطى
وأمام خيلاء التاريخ وعظمة المجد العماني يقف الشاعر مفاخرا بوطنه الذي خط على جبين الدهر انتصاراته حين واجه الغزاة والأعداء وهزم الجبابرة ورفع راية العزة والحرية والكرامة عالية خفاقة. وهنا يوجه الشاعر قارئه ليسأل المحطيات التي تشهد بأمجاد الأسلاف وبطولاتهم:
سل المحيط كم مخرنا يمّه
وكم علوناه بآساد الشرى
حتى أتى الدهر لنا مخضوضعا
منكّس الهام ونحن بالذرى
ويغادر السيابي فجأة منطقة التاريخ ويتجه مباشرة للحديث عن الذات وسجاله مع الزمان، ليسجل ثباته على القيم والمبادئ الكريمة التي تربى عنها ولم يحد عنها طوال حياته، بل سار في هذه الحياة ببصيرة العارف مستفيدا من تجارب الدنيا مستشرفا لمستقبلها وفق منظوره القيمي والأخلاقي في التعاطي مع تقلبات الزمن:
أبصرت دربي والصبا في أوجه
فما ضللت الدرب معْ أوج الصبا
وإنما عرفت ما يأتي به
كأنما أشهد منه ما خا
وفي الختام يخصص السيابي جزءا كبيرا من مقصورته ليقدم خلاصة تجاربه مع الناس وأحوالهم فيسرد أنواعهم ويكشف طبائعهم، وبخبرة المجرب الحاذق يعري كثيرا من السلوك الإنساني الخادع ويميط القناع عن أشكال من الزيف والتصنع، ثم يسدي النصح لقارئه:
فهذه الأيام حبلى، فلتكن
بموقع العبرة لمّاح الذكا
وسِر على ضوء الهدى ونهجه
فإنه درب الجلال والنهى
مقصورتان سلطانيتان: في التشفع والاشتياق
ولسلاطين عمان أيضا حضور في ذاكرة المقصورات العمانية الخالدة. وتحضرنا في هذا المقام مقصورتان لشاعرين بارزين من عمان، أولا هما مقصورة لأبي مسلم البهلاني والأخرى لسعيد بن مسلم المجيزي (ت: 1952م). مقصورة البهلاني التي نحن بصدد الحديث عنها غير تلك التي أوردناها آنفا، وعنوانها (وقال عفى الله عنه في المعنى) وتقع في 118 بيتا، مرتبة على سور القرآن الكريم. وهي كما يتضح من مضمونها أنه قالها في سياق التشفع للسلطان حمد بن ثويني بن سعيد إثر جفوة وقعت بين الرجلين، على ما يبدو. يقول الأديب أحمد الفلاحي معلقا على لغة هذه القصيدة ومضمونها: «ويبدو أنه كتبها وهو في حالة حرجة وفي موقف صعب ولعل له عذره. وإن كنا نود لو أنه لم يصل في اعتذارياته إلى إلى مثل هذا». القصيدة في متنها الأساس اعتذار ومديح للسيد حمد بن ثويني، ويتسها الشاعر بذك الفاتحة:
فاتِحَةُ الحَمْدِ أيَادِي مَنْ عَفَى
والحِلْمُ أصْلٌ للمَقاماتِ العُلا
ويذكر اسم السلطان قائلا:
قد ضل كالأنعام من لا يهتدي
إن حلوم ابن ثويني كالهدى
حمد السلطان من أعرافه
والفيض من عرفانه غيث الورى
ويستطرد في مديح السلطان معددا مآثره، إلى أن يبدأ في الاعتذار مستشفعا بالقرآن، ملتمسا حلم السلطان وعفوه فيقول:
أقل عثاري والقرآن شافعي
إليك إن عز الشفيع المرتضى
فليس بعد كلمات الله من
وسيلة يقبلها ذوو الحجى
أما مقصورة المجيزي فتتكون من 85 بيتا يشكو فيها شوقه الكبير للسلطان تيمور بن فيصل في سفر له. القصيدة طافحة بحرارة الشوق وصدق المشاعر للسلطان الغائب الذي كان هذا الشاعر من جلاسه وخواصه المقربين. يبدأ المجيزي مقصورته متسائلا:
أشغفٌ يزعجني أم النوى
أم نار شوق أم تباريح الجوى؟
أم حرقة شبّ لظاها فرقة
لن تنطفي عني حتى الملتقى!
المقصورة التي يبدأها المجيزي بالتعبير عن لواعج الشوق والحنين تنفتح تدريجيا إلى الحكمة والموعظة والحديث عن تجارب الشاعر ومكابدته للحياة وسبر أغوارها وذم الدهر وتقلباته وأحواله، إلى أن يبدأ في مدح الأسرة البوسعيدية وسلاطينها الأماجد. ويسهب في ذكر أياديهم البيضاء وما حظي به من المكارم وطيب العيش في كنفهم لاسيما السلطان فيصل وابنه تيمور الذي يشكو لوعة فراقه في هذه المقصورة، وهي كما يبدو تؤرخ لحدث مهم في حياة هذا السلطان الذي غادر الديار والحمى، وهو الأمر الذي يعده الشاعر نائبة من نوائب الدهر:
فإن تنبني في النوى نوائب
فإن منها ترك تيمور الحمى
الذاكرة الخصبة
إذن تبرهن المقصورات في التراث الشعري العماني أنها ذاكرة خصبة لقصص المكان وأحاديث الزمان وحكايات الحنين والاشتياق. لقد كانت الفضاء الشعري الذي دونوا في ألواحه تواريخهم وانتصاراتهم وبطولاتهم. كما سجلوا مفاخرهم وأنسابهم وأبطالهم الذين باتت أسماءهم محل اعتزاز وتقدير في الذاكرة الجمعية. وفي المقصورات دون العمانيون قيمهم ومواعظهم ونصائحهم. وكانت المقصورات صوتا للرفض ونداءات مدوية للحرية والنهوض ومواجهة الواقع وشحذ الهمم نحو العدالة والكرامة ونيل الحقوق الإنسانية. كما كانت سجلا نابضا للفخر وسرد مآثر الأسلاف وتمجيد الأنساب وتجسيدا لضور الأجداد العظام في الضمير والوجدان.
حسن المطروشي شاعر عماني