حمد الناصري
ومنذ نزول الرجل الأول على أرض "يدم" لم يمسسه سُوء، ولا مكروه ولا عدو ولا أذى من عفريت بعيد كان أو قريب، ورمال "يدم " مُتّصلة بأرض الجان والعفاريت، رمال "قحيف" لكنّهم لا يسكنون رمالها، ربّما لكثرة نزول المطر بغزارة والجان والعفاريت لا يطيقون سقوط المُزن ولا سماع البروق والرعود، وحادثة خوف الجان من الرجل " أسلم " ربطت هذه الأسطورة ببعضها، قيلَ إنّ رجلاً بأرض الجان هبط فجأة، ففزع الجان منه وساروا إلى أرض مِعْوجة مفتوحة واسعة تتصل برمال "يدم" طولا واعوجاجاً، وهذه الأرض لا يسكنها أحد، إلا عفريت واحد وقومه، تُعرف برمال قحيف، والبعض يُسميها كثبان "قحيف" وهو اسم جني كبير من فصيلة العفاريت، أنذر الرجل " أسلم " الذي نزل بأرض قحيف، وخاطبه العفريت .
تعجّب العفاريت من قوله ومن معرفته بكل شيء.. فقال كبيرهم "قحيف" من أعلمك بهذا السرّ؟ لم يهتم "أسلم" بسؤاله بل استمر في إظهار ما خفي عنهم، منكم من يزيغ عن أمر ربّه الأعلى، ومن زاغ كارهاً فله عذاب أشدّ من عذاب قُعر النار التي تسكنون فيها. قال أسلم: هل تعلمون أسرار ربّكم؟ ردّ العفريت قحيف: لا. ولكن نعلم ما توسوس به أنفسكم، فنحن الذين صنعناها لكم، نحن من يفتعلها وأنتم تستجيبون لفعلها.. طيب قال أسلم: وما ذنب الفتاة الحسناء" نزوة " التي وُجِدَت ميّتة على صخرة في وادي جرفة؟ والذي قام أهل قرية وادي جرفة بتغيير اسم الوادي تيمّنا بها، وعرف من ذلك اليوم باسم وادي نزوة.
قرية "يدم" ليست بعيدة عن وادي جَرْفة، ذلك الوادي الذي عُرف بوادي نزوة، تيمّناً بالفتاة الحسناء التي وُجِدَت ميّتة بين صخرتين وكانت مُتشبّثة بهما، لكنّها سقطت حين خارت قواها.. والذين شاهدوا الحدث لم يجدوا على جسدها أذى ظاهراً.. ومن نِعَم ذلك المكان، أنّ المطر لا يُفارقها وخيرات الأرض تنبت نباتاً موسمياً، وكنوز في أعماقها لا يعلم سرّها أحد، فـ "يأدم" أخبر زوجه سرّاً، حين التقته، لا تُخبري أحداً، هذه الأرض منبعٌ جمعني بك، وأشهدك أن لا تُخبريهم إلا من تُسِرّين إليه، وتعلمين بأنّه كاتم للأسرار.. ولم يعرف أحد حتى هذه اللحظة، ماذا يقصد "يأدم" بعبارة " لا تخبريهم " فمن هم، الذين لا تخبرهم؟ عبارة سرّية تركت أسراراً لا يعلمها غيرهما؟ قرية "يدم" الفسيحة، قيل عنها منبع الرمال والكثبان العالي، وُصفت بالقرية الشاملة، او البلدة الكاملة، تحمل المحبة الدائمة للمُختلفين، ولا يزيدها قُربهم إليها إلا وُدّاً ومحبّة، فالوداد شامل والاعتزاز دافع.. أحدهم من الأولين كتب نصاً يصف أرض "يدم " بوصف جميل، وأدار توثيقه في أمكنة أخرى ، قرية "يدم" فاضلة في الأولين وقرية واعدة للاحقين ، يستحق الأولين الاعتزاز والمجد ، ويستحق اللاحقين الإرث والتراث ، إرثها كُتب قيّمة وتُراث عريق ليس كمثله تُراث ، ذهبت الكتب وبقيت الشواهد ، غادرنا الأولين وتركوا حُقبة زمنية تاريخية وسعت كل شيء؛ البحر والرمل والمدر والجبل، ونحن عليها من الشاهدين ، لحقنا على بيّنات ثابتة ، وثيّمات آمنة وحياة مليئة بالعزة والكرامة والنخوة والشهامة وتراث مجيد وكنوز وحصون شامخة ، حضارة تلتقي عندها الإنسانيات جميعاً ، حضارة صنعتها أيدي رجال العِزّ والإرث ، عُرف وادي نزوة بحكايات سيّد البشر، من ثيّمات خالدة كانت منبع حكاياتها وقوة أساطيرها ، التي لم تُفكّ أسرارها العميقة أبداً ، أساطير ظهرت عبر تاريخ طويل ، وأمجاد قامت عليها اقتصادات ترسّخت بالمبادي والأخلاق ، عكست المعاني السامية لأهلها ، تُربة طيبة لا تنبت إلا طيباً.. أهلها بذور خير ونفع للناس، خرجوا من نبات حُسنها وازدانوا بها وتزيّنت وبهجت بهم.. أخلاقهم قِيَم معانيها الرفيعة، فِطرة فُطروا بها، لا يحقدون، لا يحسدون، وإذا ألمّ بهم أمر شائن أو نزل بأرضهم عارض يتناسون خلافاتهم، مواقفهم ثابتة مُذ وطأتْ قدم سيّد الناس أرضهم، وسُميت باسمه تخليداً لذكرى اللقاء الأول.
خرج سعيد عن قريته، التي عُرفت لاحقاً بمدينة التراث العميق، مدينة فارهة بالقيم والسفر البعيد، قلّ إن تجد لها خواص تلتقي ببعضها.. جبالها، استوائها، وِدْيانها، عظمتها، شموخها، أمجادها، لا تكذّبان عين بشر صادقة، فالشواهد كبرزخ ثابت لا يَبغيان، تتفق المصادر على أنّها أمّ التراث، ومن تكن أمّاً، فهي أحرى بالفِداء، فكل سليم الفكر لا يختلف مع عطائها وثرائها ومجدها.. إنّها نزوة الأمم وقصعتها.
قرية التراث، حضارة شاملة، ساهمت في خلق أسوار من العلاقات المتينة، علاقة توثّقت بعرى السلام بين الناس، ولا يزال التاريخ باقٍ، كشواهد للقوة التاريخية المتينة، امتدت إلى الجوار الجُغرافي، استمدت جذورها من عروق راسية، عميقة الصلابة كامتداد سلسلة الجبلين العظيمين الذين عُرفا بها.. تُراثها شواهد غير مكذوبة، وقيم أهلها ناصع نقيّ لا سواد فيه، آثارها حميدة وقصصها عميقة، أعمق من قصص وحكايات ألف شمس ونهار ونصف ليلة وقمر التي سردها كثير منهم بتأليفات مُدهشة ودوافع مُختلفة.. فالشمس تُشرق من مخرجها، والنهار يبين من أطرافها والبحر قُبالتها ينعم عليها بخيراته بلا نهاية، والجبال سُورة حكايتها، أرساها الحكيم العليم في أمكنتها بملامح ساحرة وجذابة ذلك تأكيداً لـ عُلو شأنها وعظمة مقامها، وعُمق امتدادها وحقيقة أمجادها.
اتّخذ "سعيد " طريقهُ إلى المدينة، عاصمة التحوّلات والتمدّن والتجارة طلباً للعمل، فكان سَفره إليها قاصداً لا مشقّة فيه.. استأجر غرفة في فندق صغير، فالمال الذي في جيبه يكفيه لأسبوع، تُشْرف غرفته على شارع يعجّ بالمارّة.. أناس كُثر يتسوّقون مِن محل كبير يقع قريباً من الفندق الذي يسكنه.. جذبت أنظارهُ مجموعة مِن الفتيات بأجْساد رشيقة يتمايلنَ في مَشيتهنّ، ويُرَغّبن غيرهن لأفعالهن، إناث جميلات رشيقات، يدعُوّن بغموض ما يُثير الشباب وما يُسكنهم من رغبات، يكتشفنّ من يُشبههنّ.
خرجنَ مِن باحة فندق كبير مُقابل الفندق الصغير الذي استأجَر سَعيد غُرفة فيه، كانت إحْدى تلك الفتيات تتَمتّع بجمال فائق وبِشْرة يانعة مُزهرة.. وأُنوثة مُهْمَلة، ترتدي إحداهنّ ، الاكثر رشاقة وجمالاً، بَلُّوزة وردية على غير ما ارتدينه رفيقاتها، بَلُوزة تُظْهِر أجْزاء مِن جسَدها وتُسْتُر بعضه الآخر، تكاد تتمزّق مِن ضَيْقها، كانَ الإغْواء هو الهدف الوحيد لِلمَظهر الذي ظهَرنَ به إلى حيث تلك الأفئدة الذائبة، تتلَقّفهن أعْيُن المُتسَكّعين الزائغة.. وتُحرّك مشاعر الأنفس العَطْشى إلى الجمال.. بثلاثتهن حاذقات كل واحدة مِنهنّ أحْذق مِن الأخرى، يفهمنَ ما يُلقى إليهنّ مِن إشارة وكلام.. اسْتوقفت إحداهنّ رجلاً، تكاد تراوده على مِرْأى العَين بلا خجل ولا حَياء ويَبْدو أنّ ذلك الرجُل كانَ مِن طِيْنتهن أو هو قريب مِن ذلك.. وبدت إشارات الجسد بينهما تدلّ على توافق تام ووئام.. رُبما لمْ يَبْقَ إلّا الثّمن...!! يتساوَمَون عل المُقابل، وبدت الفتاة تتمايل بجسمها الرشيق، تتسلّل عيناها إلى ملامح المارّة، سيرة وجيّة، تختلس النظر في السائرين والغاديين لعلّها تجد من تعرفه منهم، أو تبرز ما يشدّهم فيعرفونها، رجال بأعمار مُتفاوتة وشباب لا يزيد أعمارهم عن الثلاثين عاماً ومُراهقين ما دون ذلك، وجوههم تتشابه إلى حدّ ما، وملامحهم مُتقاربة، قد تعوّدوا ارتياد المكان.
خوف ينتاب الرجل من طينتها، الشعور بالخوف لازمه بعض الوقت، سألته: مالك.. ما الذي أصابك؟ ماذا ألمّ بك، أخبرني. فعقّب.. أخشى من البلوى.. حركات السائرين لا تُطَمْئِن ولا حتى الغاديين منهم، خلسَ ببصره إلى سُحب بدتْ تتكوّن، خوف سلبي، قلق يُساوره.. همس إليها، هل تعرفين أحدهم؟ ردتّ: لا.. ربما هم يعرفونني أكثر ممّا أعرفهم.. تضاحكا معاً؛ قال الرجل من طينتها.. جيوبهم مُمتلئة؟ بابتسامة قالت سَحر وشَفتها العُلوية ضاغطة على السفلى، انتفخت أوداجها، برزت أسنانها قليلاً، ألا تعرف أنّ ذلك كله من أجلنا؟ وصوّبتْ نظرها سريعًا إلى صديقتيها، ثم أشارت إلى أجزاء من جسدها المُثير.. قال ميلاد إبراهيم: الرجل الذي كانت تُحادثه سَحر سريعاً.. الجيوب تمتلئ إذا صارت العقول.. هُنا.. وأشار إلى موضع في جسدها.؛ قال الرجل من طينتها: أنتِ شابّة رائعة.. تمتلكين الجمال والسحر الجاذب، تضاحكا بدعابة، وتلاطفا بكلمات زادت من ارتباطهما ببعض، وأردف: آه.. لو تعلمين.. سكت.. ماذا؟ قالت سَحر.. قُل، لا تخجل، لا سرّ ولا نجوى في حالنا، قُلها ولا تتردّد.. إنّا نعلم أسرارهم ونعلم ما تُخفي سرائرهم.. أنا مارونية لا إثم ولا عُدوان عليّ.. ضحكت.. ههههه فعقّب الرجل من طينتها: أنتِ عالم من الجمال الطبيعي، خاصّتك فطرية، وفخامة لا تُنسى.. ابتسم.. تخيّلي لو لم يكن لديك هذا العطاء الجسدي، لما وُجد بالشارع أحد، ابتسم بلطف واستطرد: ولا روحة ولا غدوة ولا..، ولا فلوس. سكت.. وأخذ يُعاين بضاعتها وعينيه تدور في خصائصها.. قالت سحر وقد رفعت رأسها إلى أعلى، إذ كان يفوقها طولاً، وقالت في غنج ودلع: ما دام الموت واحد، فلنفعل شيئاً لأنفسنا، ونترك بصمة في حياتنا.. ويُقال كل تفاهم ينمّ عن تقارب، والتعارف بداية الصفقة.. ردّ الرجل الطويل من طينتها، إذن دَعِينا نقتسم ونوزّع الأدوار بيننا، كأنه يُساومها، تتمتّعين بجسد أنيق ورشيق وأنا أقوم بدور الأمان.! تملكين قوة ثراء المال في قوة مُغرية، جمال ونقاوة ينتظران من يدفع أكثر، وأنا أمتلك علاقات واسعة وأشخاص كبار يدفعون، وشباب سُذّج لا يُبالون ومُراهقين مكسب مُستمر، ولا بأس إنْ اتخذناها مِهْنة ومكسب. هزّت رأسها.. وابتسم لها، أنا اسمي ميلاد إبراهيم، أعمل هنا، وأشار إلى الفندق الفخم.. فتحتْ عينيها بدهشة.. أنتَ..؛ وسكتت.. فردّ نعم هو.؛ قالت الفتاة الأكثر نُعومة ورقّة، سَحر: إذنْ المنفعة بيننا ...؟ لديّ ما تُريد وأنت لديك ما تُريد.. فما قولك؟ ردّ ميلاد إبراهيم، اتفقنا، ولكن هيّا معي، لديّ صديق من بلدة بعيدة، يسكن هناك، وأشار إلى الفندق الصغير، هذا ليس فندقاً بالمفهوم الفندقي، وإنّما يقدّم خدماته كما لو أنّه فندق.. لكن الرقابة عليه أقلّ.. تُعرف هذه الخدمة هنا ، بالشقق الفندقية.. هذه الشقق لا تجعلك تحت طائلة المسؤولية الكبيرة، لا يلتزم الساكن بحدّ معيّن من الأصدقاء، فمن حقّك أن تأتي بمن تشاء، وبمن ترغب.. لا أحد يسألك عن شيء، ولا يسمح بأي صديق بدون مؤجّر الشقة أو الغرفة، هذا هو النظام، وبالطبع تسدّد نظير الخدمة.. وما عليك إلا تقديم لمسات الصداقة من أجل استدامة الخدمة، فماذا تقولين؟ نسير إليه معاً ونتعرّف عليه عن قُرب، شاب وسيم وخدوم ولديه الرغبة لتقبّل أي شيء لأنّه جاء باحثاً عن عمل من بلدته الريفية إلى هذه المدينة الطاحنة لكل شيء.. قالت سَحر: وما هو عليّ فِعله تجاه صديقك هذا؟ فقال ميلاد ابراهيم بعد تنهيدة أخرجها بزفرة واحدة: ما عليك شيء.. غايتنا هي أن نجد له مكسباً، وهدفنا تقديم خدماتنا في البدايات، ونُوهمه بطرائق شتّى.. ولا أظن بأنّك لم تفهمي قصدي.
واجهة الفندق، أو الشقق الفندقية، غرفها صغيرة الحجم وضيّقة المساحة، جُعلت للخدمات اليومية أو الأعمال السريعة، يرتاد الشقق الفندقية الشباب والمُراهقين الذين يخشون المُسائلات والذين لا يلتزمون بالإجراءات المعقّدة كالفنادق، خصوصاً في ما يتعلّق بالغدوة والروحة، يرتادونها لكونها ذات طابع خاص على عكس نظام الخدمة الفندقية.
يتبع 5
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: قالت س
إقرأ أيضاً:
ما الذي اختفى فجأة في إسطنبول؟
غطّى ضباب كثيف مناطق متفرقة من مدينة إسطنبول صباح اليوم، مما تسبب في انخفاض مدى الرؤية، لا سيما في محيط مضيق البوسفور والأحياء المطلة عليه.
ومع بزوغ الفجر، بدأت كتل الضباب بالانتشار تدريجيًا، خاصة في الأجزاء الساحلية والمرتفعة من المدينة، حيث بدت الأجزاء العلوية من عدد من المباني الشاهقة في منطقة بشيكتاش غير مرئية تمامًا.
كما حجب الضباب الكثيف جزءًا من جسر السلطان محمد الفاتح، في مشهد ضبابي نادر لواحد من أبرز معالم المدينة.
اقرأ أيضا
اعتراف صادم.. جوجل أضاعت 35 ثانية كانت كفيلة بإنقاذ ملايين…
الإثنين 28 يوليو 2025وأظهرت لقطات محلية أن حركة المرور تواصلت بوتيرة بطيئة، إذ حرص السائقون على القيادة بحذر شديد تفاديًا للحوادث في ظل ظروف الرؤية المحدودة.