فتنة «الأمين والمقر»وبالونات الاختبار الإعلامية
تاريخ النشر: 10th, June 2025 GMT
رغم كل ما تمر به من أزمة وجودية تكاد تعصف بها -خاصة في السنوات العشرين الأخيرة- والتراجع الحاد في مستوى الثقة الشعبية في دورها وأهميتها وقدرتها على الفعل، عادت جامعة الدول العربية لتكون في دائرة الضوء خلال هذا الأسبوع، وأثارت جدلا إعلاميا واسعا لم يقتصر على وسائل الإعلام التقليدية، وامتد إلى شبكات التواصل الاجتماعي، وشاركت فيه قطاعات واسعة من النشطاء من مختلف الدول العربية.
الجدل الحالي الذي يحيط بالجامعة العربية لا يتعلق بمواقفها الحالية - خاصة من حرب الإبادة الجماعية في غزة -، والحروب والصراعات والأزمات العربية الأخرى، وإنما يتعلق بإعادة النظر فيها، وفي أدوارها، وفاعليتها؛ كونها مؤسسة العمل العربي المشترك الأكبر التي كان يعول عليها كثيرا في نصرة القضايا العربية.
مع قرب انتهاء الفترة الثانية للأمين العام الحالي للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في سبتمبر القادم؛ سارع البعض إلى استباق الأحداث كالعادة، وأعاد طرح السؤال القديم الجديد، وهو: هل سيكون الأمين العام الجديد مصريا أيضا كمن سبقوه منذ تأسيس الجامعة في القاهرة في عام 1945، باستثناء فترة نقل مقر الجامعة إلى تونس في أعقاب المقاطعة العربية لمصر على خلفية توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل؟ ومن هذا السؤال تفرعت أسئلة جديدة حول مقر الجامعة ولماذا يبقى في القاهرة، ولا يُدور بين الدول، أو ينقل إلى دولة أخرى محددة تظن أنها أكثر جدارة من مصر لاحتضان الجامعة؟
الطرح الذي كان قصيرا، وقدمه دون مبرر ودون سابق إنذار كاتب مصري تحول إلى نقاش وصراخ، وتكهنات، وحرب إعلامية تضمنت تقارير صحفية، وتلفزيونية، وملصقات، وتغريدات، واستطلاعات رأي على شبكات التواصل الاجتماعي، شارك فيها أعداد غفيرة من مستخدمي هذه الشبكات. وتبلور هذا النقاش في طرح اسم وزير خارجية خليجي سابق ليكون الأمين العام الجديد للجامعة، وطرح اسم مدينة عربية في نفس الدولة الخليجية ليكون مقرا للجامعة، والمبرر هو تراجع الدور المصري في المنطقة، وصعود قوى عربية جديدة تستحق أن تتولى بنفسها مسؤولية إدارة العمل العربي المشترك، وإدارة الجامعة العربية. يبدو هذا الطرح استكمالا لجهود سابقة استمرت لسنوات عبر جيوش إلكترونية تروج لما أسمته بـ«عاصمة القرار العربي». وهي الفكرة التي تتردد في الفضاء الرقمي منذ سنوات، ورسخت لدى البعض بوعي أو بدون وعي، وبحكم التأثير التراكمي طويل المدى قناعة خادعة بصحتها.
الكاتب المصري الذي أشعل فتيل فتنة «الأمين والمقر» كتب على صفحته بفيسبوك ملصقا يقترح فيه نقل مقر الجامعة العربية إلى عاصمة خليجية. ومن ذلك الملصق تولدت مئات الملصقات التي تعزف نفس النغمة بتعبيرات مختلفة، وشارك فيها كتاب ومثقفون، ومستشارون لحكام دول، مطالبين بتدوير منصب الأمين العام للجامعة الذي «حان وقت انتقاله إلى الخليج العربي؛ حيث مركز الثقل العربي الجديد»؛ حسب وصف أحدهم.
في تقديري أننا أمام بالونة أو بالونات اختبار إعلامية تستهدف التمهيد لقرار عربي قد يحقق رغبة البعض في شق الصف العربي الذي لم يعد يحتمل مزيدا من الشقوق، وإنهاء فكرة الجامعة العربية، والقضاء عليها؛ إرضاء لبعض القوى الإقليمية والدولية التي قد تزعجها بعض بيانات التنديد والشجب والاستنكار التي يصدرها الأمين العام، أو أمانة الجامعة بين الحين والآخر، والتي لا تتعدى مرحلة «الكلام»، وأصبحت محفوظة من كثرة تكرارها.
يعلم من أطلقوا هذه البالونات الحارقة أن المطلب الثاني الذي يتعلق بنقل مقر الجامعة من القاهرة غير واقعي، ويتعارض مع نص المادة العاشرة من الميثاق الصادر في مارس 1945، والتي تنص على أن «تكون القاهرة المقر الدائم لجامعة الدول العربية»، ويتطلب تحقيقه موافقة ثلثي الدول الأعضاء في مجلس الجامعة لتعديل ميثاق الجامعة وفق المادة التاسعة عشرة. أما المطلب الأول الخاص باختيار أمين عام غير مصري للجامعة؛ فإنه يواجه عقبات كثيرة خاصة أنه يتعارض مع العرف السائد في أن يكون الأمين العام من مواطني دولة المقر.
الخطورة في الأمر أن الرد المصري الشعبي وليس الرسمي بالطبع جاء حادا، وهو ما جعل الأمر برمته مقدمة لفتنة إعلامية ورقمية جارفة طالب فيها بعض النشطاء المصريين بانسحاب بلادهم من الجامعة العربية، بل بحذف كلمة «العربية» من اسم الدولة؛ ليصبح «جمهورية مصر». كما طالب البعض بأن يرافق عملية نقل المقر نقل نحو 16 مليون لاجئ عربي تحتضنهم مصر دون تمييز من أبناء سوريا، والسودان، وفلسطين، والعراق، واليمن إلى دولة المقر الجديدة !
هل تستحق الجامعة وأمينها ومقرها كل هذا الجدل؟ يكاد يجمع العرب على فشل منظومة الجامعة العربية بشكل عام. فقد فشلت في كل الاختبارات التي تعرضت لها، ولم تحقق إنجازا واحدا يمكن الفخر به. وحسب تعبير أحد المشاركين في استطلاع للرأي نشرته إحدى المنصات الإعلامية على فيسبوك «فإن الجامعة العربية فشلت في إقامة تحالف عسكري موحد، أو بناء جيش عربي موحد قادر على الدفاع عن الدول العربية. وفشلت في تشكيل حتى قوات حفظ سلام عربية قادرة على فرض السلم في مناطق النزاع العربية في السودان، والصومال، واليمن، وسوريا، وليبيا، وغزة. وفشلت في إقامة سوق عربي مشترك، وفي فتح الحدود بين الدول العربية، وفى إنشاء عملة عربية موحدة، وفي مد خطوط سكك حديدية لتسهيل التجارة.
والفشل الأكبر كان في قضية فلسطين بوجه عام والحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة. ولعل من أطرف وربما أصدق الردود المنشورة، وأكثرها تكرارا في التعليقات الخاصة بهذا الاستطلاع هو اقتراح نقل المقر إلى تل أبيب، واختيار رئيس الوزراء دولة الكيان الصهيوني نتنياهو أو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أمينا عاما جديد لها !
أمام هذا الفشل وتراث عدم الثقة الشعبية العربية فيها؛ فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما الذي يدفع البعض إلى هذه الحرب الكلامية غير الضرورية حول الجامعة وأمينها ومقرها؟ وهل سيؤدى نقل المقر، أو تغيير جنسية الأمين العام إلى إحداث أي تغيير في قوة وفاعلية الجامعة التي تعاني منذ سنوات حالة موت سريري؟
أعتقد أن الجامعة العربية لا تحتاج في الوقت الراهن إلى كل ذلك الجدل الإعلامي الذي لا يقدم ولا يؤخر، بقدر ما تحتاج إلى بعض الهدوء، حتى تنتهي بسلام.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الجامعة العربیة الدول العربیة الأمین العام مقر الجامعة
إقرأ أيضاً:
في ذكرى ميلاده.. أحمد خالد توفيق العرّاب الذي غيّر وجه الأدب العربي
"نحن نكتب لأن هناك من يُصغي، حتى وإن لم نرَه... نكتب لأن الكلمات تخلق العالم، وتنقذنا من قسوته"، بهذه الروح، عاش الدكتور أحمد خالد توفيق، وبهذه الروح كتب، فصار للعربية جسرٌ جديد إلى قلوب الشباب، وصار هو العرّاب الذي قاد أجيالًا كاملة في رحلات بين السطور، بين الرعب والفانتازيا، بين الطب والحياة، بين الموت ومعناه الحقيقي.
وُلد أحمد خالد توفيق في 10 يونيو 1962 بمدينة طنطا، محافظة الغربية، نشأ في أسرة مصرية عادية، ودرس الطب في جامعة طنطا حتى حصل على الدكتوراه في طب المناطق الحارة، لم يكن الطب نهاية الطريق، بل كان بداية موازية لمسارٍ آخر، سلكه بشغف أكبر: الكتابة.
دخل عالم الأدب من أوسع أبوابه في التسعينيات، حين كتب أولى سلاسله الشهيرة "ما وراء الطبيعة" عام 1992، بعد أن رفضت المؤسسة العربية الحديثة روايته الأولى، لتعود وتطبعها بعد إصراره ومثابرته، كانت تلك البداية فقط، سرعان ما تبعتها سلاسل مثل "فانتازيا" و"سفاري"، التي أسرت القلوب وأطلقت الخيال من قيوده.
في زمنٍ كانت فيه المكتبات تمتلئ بالكتب المترجمة ويفتقر الشباب العربي لأدب يعبر عنهم، جاء أحمد خالد توفيق ليمنحهم بطلاً يشبههم، بأسلوب سهل عذب، يحمل عمقًا خلف بساطته، وروحًا ساخرة خلف وقاره، لم يتعالَ على القارئ، ولم يتكلف الفلسفة، بل خاطب القلوب قبل العقول، فتعلّق به القرّاء كأنهم وجدوا صوتهم في كلماته.
كتب أكثر من 500 كتاب بين سلاسل، وروايات، ومقالات، وترجمات، لكن روايته "يوتوبيا" التي صدرت عام 2008 كانت علامة فارقة، إذ خرج بها من إطار أدب الشباب إلى ساحة الرواية العربية الجادة، وتُرجمت إلى أكثر من لغة، لتُعرف كواحدة من أجرأ الروايات في نقد الواقع المصري.
ومع الوقت، تحوّل "العرّاب"- كما أطلق عليه قراؤه- إلى ظاهرة ثقافية، لم يكن فقط كاتبًا يروي قصصًا، بل كان أبًا روحيًا لجيلٍ بأكمله، منحهم الأمل حين ضاق الواقع، وفتح لهم أبواب الخيال حين أُغلقت النوافذـ، كان صوتًا حنونًا في زمنٍ صاخب، وخفيف الظل في عتمةٍ ثقيلة.
ولم تكن حياته تخلو من مواقف إنسانية، فقد عُرف بتواضعه الشديد، وحرصه على التواصل الدائم مع قرائه، لا سيما على الإنترنت، حيث كان يجيب على أسئلتهم، ويشاركهم مخاوفهم وطموحاتهم، حتى باتوا يشعرون بأنه صديق حقيقي لا مجرد مؤلف.
روى أحدهم مرة أنه التقاه مصادفةً في معرض الكتاب، وكان يرتدي ملابس بسيطة ويحمل حقيبة ظهر، كأي زائر عادي، لم يكن يحيط نفسه بهالة نجومية، بل بتواضع العلماء ودفء المعلمين، حكى له الشاب عن تأثره بسلسلة "ما وراء الطبيعة"، فابتسم العرّاب وقال: "الحمد لله إن الكلام ده نفعك.. أنا كنت بكتبه لنفسي في الأول."
رحل أحمد خالد توفيق في 2 أبريل 2018، عن عمر ناهز 55 عامًا، لكن وفاته لم تكن نهاية، بل بداية فصل جديد من الحب والوفاء، شيّعه الآلاف، وذرف القرّاء الدموع، وكأنهم فقدوا قريبًا لا كاتبًا، ومنذ ذلك اليوم، تحوّلت صفحاته ومؤلفاته إلى مزارات أدبية، يعود إليها الناس بحثًا عن الدفء، والفهم، والحنين.