الإشعاعات النووية: وميض أمل أم ظلال خطر؟! (1)
تاريخ النشر: 23rd, June 2025 GMT
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
تأخذُنا هذه السلسلة في رحلة لعالَم الإشعاعات النووية، من أسرار الذرة إلى لعبة التخصيب، وصولًا إلى الصدام الحاسم بين إيران والغرب، فهل ستكون هذه الإشعاعات النووية وميضَ أمل، أم ظلال خطر تقلب العالم رأسًا على عقب؟
في عام 1895، لاحظ العالِم الألماني رونتجن شيئًا غريبًا وهو يعمل في مختبره، أشعة غير مرئية تصدر عند تعريض سطح معدني لإلكترونات مُتدفِّقة، وكانت هذه الأشعة تخترق جلده لكنها توقفت عند عظامه، فظهرت صورة يده على لوح فوتوغرافي، أطلق عليها "أشعة إكس" تعبيرًا عن غموضها، ولم يكن يدرك حينها أن هذا الاكتشاف سيُغيِّر وجه الطب والعلوم إلى الأبد.
وسعى العلماء للكشف عن غموض هذه الأشعة، ومنهم العالم الفرنسي هنري بيكريل الذي ركّز أبحاثه على أملاح عنصر اليورانيوم، ظنًا منه وحدسًا بأنَّ هذه الأملاح قد تُصدر أشعة إكس بعد أن يتم تعريضها لمصدر طاقة قوي. لكن الأمر الذي أثار دهشته وتعجبه، أنه لاحظ أنَّ هناك إشعاعًا آخر صادر من هذه الأملاح، هذا الإشعاع يصدُر من الذرة نفسها! ولكن ما الذي جعله يظُن أن الإشعاع يصدر من داخل الذرة؟ ولماذا اعتقد جازمًا أن الإشعاع الصادر من أملاح اليورانيوم يختلف عن أشعة إكس؟
الجواب أنه لاحظ أن أملاح اليورانيوم تُصدِر الإشعاع دون تعرُّضها للشمس أو مصدر للطاقة أو سيل مُتدفق من الإلكترونات، فحتى لو تم وضعها في ظلام دامس فإنها تقوم بإصدار هذا الإشعاع، وهذا ما جعله على يقين بأن الإشعاع صادر من الذرة ذاتها!
كان هذا الأمر من الغرابة بمكان، وقد لعبت الصُدف دورها في الكشف عنه، لأن بيكريل كان يعتزم تعريض أملاح اليورانيوم لأشعة الشمس، ولكن في اليوم الذي كان يُخطط للقيام بذلك، تلبدت السماء بالغيوم واشتد الظلام، ولذا قام بيكريل بوضع أملاح اليورانيوم في درج طاولته في مكان مُظلِم؛ مما مهَّد الطريق له لاكتشاف هذا الإشعاع النووي العجيب، والذي لم يعهده الإنسان من قبل؛ فهو لا يُرى بالعين المجردة، ولكن بيكريل لاحظ أثره الخارجي، وهذه الملاحظة قادته إلى اكتشافه.
وكانت هذه الصدفة بداية لغور عالم الإشعاع النووي؛ إذ اتضح فيما بعد أن هذا الإشعاع عبارة عن طاقة تنبعث من داخل نواة بعض الذرات.
وبعد اكتشاف بيركيل، قام الزوجان الشغوفان ماري وبيير كوري بأبحاثهما حول هذه الظاهرة العجيبة، وكرَّسا حياتهما لفك شفرة "النشاط الإشعاعي"، وبعد تجارب مُضنية، اكتشفا أنَّ هناك عناصر أخرى تمتلك الخواص ذاتها؛ بل وتفوق اليورانيوم في قوة نشاطها الإشعاعي، وقاما بتسمية العنصر الأول باسم البولونيوم، تيمنًا بوطن ماري، والآخر الراديوم، نسبة إلى كلمة "شعاع"، تعبيرًا عن نشاطه الإشعاعي الفائق.
كانت لهذه الاكتشافات أهمية عميقة؛ إذ غيَّرت مفاهيمنا عن المادة، فقد اعتُقِد سابقًا أن الذرة وحدة صلبة ومتماسكة؛ إذ تبيَّن أنها تحمل في داخلها طاقات هائلة، تُطلقها عبر أنواع مختلفة من الإشعاعات: ألفا، وبيتا، وجاما. والنوعان الأولان: ألفا وبيتا، لا يملكان القدرة على اختراق الأجسام، لكنهما قد يدخلان الجسم عبر الاستنشاق أو الابتلاع، مُسببيْن أضرارًا خلوية بالغة، مع تفوُّق أشعة بيتا في الضرر بسبب طاقتها الأعلى. أما أشعة جاما فهي الأخطر؛ إذ تخترق الجسم بالكامل وتُدمِّر الخلايا بشكل كامل.
ولم تكن هذه الاكتشافات الكبيرة بلا ثمن؛ إذ تعرَّض عدد من العلماء الذين تعاملوا مع هذه الإشعاعات لمخاطر صحية جسيمة، منهم من أصيب بالسرطان ومنهم من فارق الحياة، لذا، تُبنى المفاعلات الحديثة بحواجز حماية مُتعدِّدة، من دروع خرسانية إلى ألواح من الرصاص، لضمان سلامة العاملين والبيئة.
لقد لعبت الصدفة دورًا بارزًا في اكتشافنا للإشعاعات النووية؛ فلولا الغيوم التي حجبت الشمس في ذلك اليوم الذي كان بيكريل يعتزم فيه تعريض أملاح اليورانيوم لأشعة الشمس، لما توصلنا إلى هذه الإشعاعات النووية، أو لتأخرنا أعوامًا في التعرف عليها.
فهل كانت هذه الصدفة نعمة أم نقمة على الإنسان؟! وهل النور الخفي الذي يصدر من تلك الذرات أضاء الطريق لمستقبل مُزهِر، أم أنَّ ذلك النور وتلك الصدفة كانت وابلًا من الويلات على الإنسان وخطت طريقه للهاوية!
وللحديث بقية..
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
قطر تأسف للتدهور الذي بلغته الأمور بقصف المنشآت النووية الإيرانية
أعربت دولة قطر عن أسفها للتدهور الذي بلغته الأمور بقصف المنشآت النووية الإيرانية، مشيرة إلى أنها تتابع بقلق بالغ تطورات الأحداث إثر الهجمات الأخيرة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال استهداف منشآتها النووية، كما شددت في هذا السياق على ضرورة وقف كافة العمليات العسكرية، والعودة فورًا إلى الحوار والمسارات الدبلوماسية لحل القضايا العالقة.
وحذّرت وزارة الخارجية القطرية في بيان اليوم، من أن التوتر الخطير الذي تشهده المنطقة حاليًا سيقود إلى تداعيات كارثية على المستويين الإقليمي والدولي، آملة في هذا الوقت من كافة الأطراف التحلّي بالحكمة وضبط النفس وتجنّب التصعيد الذي لا تتحمله شعوب المنطقة المثقلة بالصراعات وتأثيراتها الإنسانية المأساوية.
كما أكّدت دولة قطر دعمها للجهود الإقليمية والدولية الهادفة إلى تسوية الخلافات، ونزع فتيل الأزمات بالوسائل السلميّة لتوطيد السلام والاستقرار في المنطقة.