في مشهدٍ أثار صدمةً واسعة وغضبًا حقوقيًا، ظهر منسق الأمم المتحدة المقيم في اليمن جوليان هارنيس وهو يمسك بيد القيادي الحوثي علي الهاملي – المسؤول عن إجبار موظفي الأمم المتحدة في صنعاء على ترديد الشعار الحوثي الطائفي – فيما يقف بجواره محافظ صعدة المعين من الميليشيا محمد جابر عوض، المتهم باقتحام مكاتب أممية واختطاف عدد من موظفيها.

الصورة التي التقطت خلال فعاليةٍ نظّمها الحوثيون، لخصت حجم التواطؤ والصمت الأممي أمام انتهاكاتٍ غير مسبوقة تتعرض لها المنظمات الدولية وموظفوها في مناطق سيطرة الميليشيا، حيث تجاوز عدد المختطفين من موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية نحو 60 موظفًا، وسط حملة ممنهجة من التحريض والاتهامات الكيدية والسطو على المقرات والوثائق الرسمية.

ويرى مراقبون أن صورة هارنيس وهو يصافح منتهكي موظفيه "لم تكن مجرد لقطة بروتوكولية، بل تجسيد رمزي لحالة الانكسار الأخلاقي للأمم المتحدة في اليمن"، مؤكدين أن استمرار هذا النهج "يكرّس واقع الإفلات من العقاب ويمنح الميليشيا شرعية زائفة على حساب كرامة الضحايا".

وعلق الناشط الحقوقي رياض الدبعي على المشهد قائلاً إن "جوليان هارنيس نسي أن وظيفته حماية موظفي الأمم المتحدة لا حماية من ينتهكونهم". وأضاف في حديثه: "في كل مرة يعتقل الحوثيون موظفًا أمميًا أو يقتحمون مقرًا تابعًا للأمم المتحدة، يخرج هارنيس بوجهٍ باردٍ ليقلل من حجم الكارثة، متحدثًا عن نسبٍ وأرقامٍ وكأنها إحصائية عابرة، لا مصير بشرٍ يُنتهك خلف القضبان. وبدلاً من أن يرفع صوته دفاعًا عن الحصانة الأممية التي سقطت في صنعاء، اختار الصمت المريب، بل وتقديم التبريرات لجماعةٍ جعلت من مقرات الأمم المتحدة غنيمة حرب".

ويرى الدبعي أن المنسق الأممي "تحوّل من شاهدٍ على الانتهاكات إلى غطاءٍ ناعمٍ لها، ومن صوتٍ للشرعية الدولية إلى صدى يتردد في أروقة سلطة الأمر الواقع"، محذرًا من أن هذا الصمت "أفقد الأمم المتحدة هيبتها الأخلاقية وجعلها طرفًا في تبرير الانتهاكات بدل التصدي لها".

فيما الناشطة الحقوقية نورا الجروي وصفت موقف الأمم المتحدة بأنه "عذر أقبح من ذنب"، مضيفة أن المنظمة التي رفعت شعار صون الكرامة الإنسانية أصبحت اليوم عاجزة عن حماية موظفيها في صنعاء.

وقالت الجروي: "ما يحدث هناك لا يقتصر على انتهاكٍ صارخٍ للحصانة الأممية، بل يكشف انهيار هيبة الأمم المتحدة أمام جماعةٍ مسلّحة تتعامل مع مكاتبها كما لو كانت مؤسسات محلية خاضعة لأوامرها. الموظفون يعيشون تحت رقابةٍ دائمة، وتُفحَص مكالماتهم وتُقيَّد تحركاتهم، وبعضهم يُستدعى للتحقيق بتهمٍ واهية قد تنتهي بالاعتقال أو الإخفاء".

وأوضحت أن الاقتحامات المتكررة لمقار الوكالات الأممية، ومصادرة الأجهزة والوثائق الرسمية، وإجبار الموظفين على التوقيع على تعهدات أمنية، "لم تعد استثناءً بل أصبحت سياسة ممنهجة"، مؤكدة أن الحوثيين "باتوا يتحكمون في مسار معظم المشاريع الإنسانية ويقررون من يتلقى المساعدات، بينما تصمت الأمم المتحدة خوفًا من فقدان قدرتها على العمل الميداني".

بدوره اتهم الصحفي فارس الحميري المنسق الأممي المقيم في اليمن بمحاولة "التقليل من حجم الانتهاكات التي تمارسها ميليشيا الحوثي ضد موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية". وقال الحميري إن "ما يُعرف بالحصانة الأممية في صنعاء بات مهددًا بشكل غير مسبوق، بعدما تحولت وعود الحوثيين باحترام العاملين الأمميين إلى غطاءٍ لمزيد من الانتهاكات".

وكشف أن هارنيس، خلال اجتماع ضم سفراء غربيين، زعم أن المعتقلين لا يتجاوزون 5% من إجمالي نحو 1200 موظف أممي، في محاولة لتخفيف وقع الانتهاكات. لكنه عاد ليعلن توصله إلى اتفاقٍ مبدئي مع الحوثيين للإفراج عن المحتجزين، "انهار خلال ساعات بعدما شنت المليشيا حملة جديدة طالت أكثر من خمسين موظفًا".

ووفقًا للحميري، فقد اقتحم مسلحون حوثيون خلال سبتمبر الماضي عدة مكاتب أممية بينها اليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، واستولوا على وثائق ومعدات من داخلها، فيما التزم المكتب الأممي في صنعاء الصمت الكامل حيال هذه الحوادث.

وتشير تقارير حقوقية إلى أن المنظمات الدولية العاملة في مناطق الحوثيين أصبحت تعمل "تحت رحمة الميليشيا"، في ظل غياب أي موقف واضح من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.

المصدر: نيوزيمن

كلمات دلالية: موظفی الأمم المتحدة فی صنعاء

إقرأ أيضاً:

«بيتهوفن».. موسيقار الصمت الجارح

علي عبد الرحمن

فيينا، مدينة القصور التي يعج هواؤها بالألحان، كانت تخفي في أحد أركانها صمتاً أشد وطأة من أي سيمفونية، في غرفة ضيقة تغمرها ظلال الشموع المتساقطة، جلس رجل مطأطئ الرأس بين كفيه، يطارده طنين لئيم يلتف حوله كأفعى لا تهدأ. لم يكن ذلك مجرد عارض جسدي، بل نذير هاوية تتسع في داخله، وحين انسابت أصابعه فوق مفاتيح البيانو، انفتح أمامه كون آخر، كأن النغمات تُولد من العدم لتعيد إليه حريته لحظة بلحظة، ذلك الرجل هو لودفيغ فان بيتهوفن، المولود في بون عام 1770، الذي خط أعظم موسيقاه لا بما تسمعه الأذن، بل بما تصرخ به الروح في وحدتها.

نشأ بيتهوفن في بيتٍ تتناوب فيه القسوة والصمت كمعزوفة نشاز لا تنتهي، أب غارق في إدمان يلهب مزاجه بالغضب، يطارده بعصا الصرامة، وأم أنهكها المرض فرحلت مبكراً، تاركة الطفل وحيداً أمام فراغ لا يلتئم، ووسط هذه العتمة، لم يجد ملاذاً سوى الموسيقى، لم تكن بالنسبة له تسلية عابرة ولا مجرد مهارة يتدرب عليها، بل كانت شريان بقاء يربطه بالحياة.
حين حط بيتهوفن رحاله في فيينا، كان شاباً مثقلاً بجراح الطفولة، لكنه يقف في قلب مدينة تضج بالموسيقى حتى لتكاد أنفاسها تُقاس بالألحان، وجلس إلى الموسيقار النمساوي جوزيف هايدن يتعلم القواعد، وأصغى إلى ميراث موزارت المتدفق، لكنه سرعان ما أدرك أن البقاء في ظل هؤلاء العظام يعني أن يخنق صوته قبل أن يولد، فرفض أن يكون تابعاً، وبدأ بحثه عن لغة لا تشبه إلا نفسه. فيينا كانت عاصمة العظمة، لكن بيتهوفن أراد أن يكون عاصمتها الداخلية، وقلب يصرخ بلغة جديدة، لغة تقول ما يعجز الكلام عن حمله، ومن هنا بدأ ميلاد بيتهوفن الحقيقي، الموسيقار الذي جعل من الفن مرآة للنفس ونافذة للعالم في آن واحد.
في مطلع العشرينيات من عمره، بدأ بيتهوفن يفقد أثمن حواسّه، ولم يعد يسمع العالم كما هو، بل أخذ الفراغ يتسلل مكان الأصوات، والطنين يطغى على النغم، بالنسبة لموسيقار، كان ذلك حكماً بالإعدام، فالموسيقى وُلدت لتُسمع، ولحنها لا يكتمل إلا بالإنصات، وفي لحظة انكسار، كتب وصيته في هايلغنشتات، معترفاً بأنه فكّر في الانتحار، وكأن الحياة لم تعد تحتمل بلا موسيقى مسموعة.
لكن المأساة التي كادت أن تطفئه، أعادت إشعاله من جديد. قرر أن يجعل من الصمت أداة للإبداع، ومن الفراغ مسرحاً واسعاً ينساب فيه الخيال، ولم يعد يسمع بأذنيه، بل بروحه التي باتت أكثر حدة من أي سمع، وكأن السيمفونيات التي تلت صممه لم تكن موجهة للأذن أصلاً، بل للقلب مباشرة.
هكذا وُلد بيتهوفن الثاني، موسيقار يكتب من الداخل لا من الخارج، يجعل من صمته قوة لا ضعفاً، وفي كل لحن صاغه بعد ذلك، نسمع ليس فقدان الصوت، بل ولادة صوت آخر، أكثر صفاء وجرأة، ولقد حوّل الصمت من قبر للنغمة إلى رحم يلد موسيقى جديدة، وجعل من الحرمان بدايةً لخلود.
 رغم عظمته، لم يعرف بيتهوفن دفء الاستقرار العاطفي، ولم يتزوج، وظلّت حياته الخاصة عالماً مليئاً بالفجوات العاطفية، ورسائله إلى «الحبيبة الخالدة»، لا تزال لغزاً يحيّر الباحثين حتى اليوم؟ أياً تكن، فإن حضورها الغائب ظل يلوّن موسيقاه، وأصبحت مؤلفاته تشبه رسائل حب لم تصل أبداً، ألحانها مشبعة بشوق لا يخمد، وبحثٍ عن حب ظل بعيداً عن متناول يديه، وكان عزفه في هذه الأعمال أشبه ببوح رجل يكتب إلى قلب لا يقرأ، يناجي غياباً لا يجيبه، ومع ذلك استطاع أن يحوّل هذا الغياب ذاته إلى موسيقى خالدة لا تفنى.

حضور

أخبار ذات صلة عائشة الغيص: الأدب الشعبي مرآة للذاكرة الجماعية جميري: أعمالي فصول سردية تستكشف الذات

لم تبقَ موسيقى بيتهوفن حبيسة المسارح، بل وجدت طريقها إلى الشاشة الكبيرة، حيث تحولت سيمفونياته إلى لغة سينمائية قائمة بذاتها، صرخات الأوتار وضربات القدر في السيمفونية الخامسة صارت مرادفاً للدراما الكونية والصراع مع المصير، بينما انسابت أنغام ضوء القمر في عشرات الأفلام كرمز للوحدة والحنين، أما السيمفونية التاسعة، فقد غدت أيقونة للانتصار الإنساني في لحظات المصالحة أو الاحتفال.

موسيقى لا تغيب 

حين أسدل الموت ستاره عام 1827، خرجت فيينا كلها خلف بيتهوفن، كأنها تودّع إنساناً صار رمزاً لكرامة الروح في مواجهة المعاناة، ولم يكن رحيله صمتاً، بل بداية لصوت آخر يتردّد عبر الأجيال، لقد ترك لنا درساً فلسفياً نادراً، وهو أن الجمال ليس زخرفاً للهروب من الألم، بل ثمرة مواجهة عارمة معه، وأن العبقرية قد تولد من أعماق الفراغ حين يتحوّل إلى لغة إنسانية مشتركة.
هكذا علّمنا أن الصمت قد يكون أكثر امتلاءً من الضجيج، ولم يقهر بيتهوفن صممه فقط، بل حوّله إلى موسيقى، وفي ذلك الانتصار صار صوته أبديّاً.

مقالات مشابهة

  • محافظ تعز يبحث مع ممثلي الأمم المتحدة الأوضاع الأمنية والإنسانية
  • الإصلاح يطلق مبادرة غير مسبوقة نحو “الحوثيين” في مؤشر لتقارب استثنائي
  • الأمم المتحدة تحذّر من تفاقم نزوح موزمبيق وتطالب بدعم عاجل
  • «بيتهوفن».. موسيقار الصمت الجارح
  • مقال دولي يدعو البعثة الأممية في ليبيا إلى مراجعة نهجها وتجاوز نموذج تقاسم السلطة
  • صنعاء.. جماعة الحوثي تبدأ محاكمة موظفي المنظمات الأممية بمزاعم "التجسس"
  • مجلة أمريكية: حرب الحوثيين على الأمم المتحدة.. يعضون اليد التي تطعم الشعب اليمني (ترجمة خاصة)
  • وزير الخارجية يلتقي سكرتير عام الأمم المتحدة السابق
  • الأمم المتحدة: 95 ألف فلسطيني تضرروا من تصاعد عمليات العدو الإسرائيلي في شمال الضفة الغربية
  • هجوم ناعم على أوروبا وتراجع أولوية الشرق الأوسط.. ترامب يكشف عما يريده للعالم