أدب إيطالي يكشف فظائع غزة: من شرف القتال إلى صمت الإبادة
تاريخ النشر: 3rd, August 2025 GMT
في تعليقه على نهج الاغتيالات السياسية للقيادات الفلسطينية، الذي اعتمده الاحتلال الإسرائيلي خلال الأشهر الأولى من عدوانه على غزة، قال المفكر الفلسطيني منير شفيق حينها إن الاغتيالات "تخلّ بالشرف العسكري"، مؤكدا أن "القتال لا بد أن يكون شريفا".
وبعد مضي عام على مقابلته مع الجزيرة، عاد المفكر الفلسطيني للحديث عن سياسة التجويع في غزة، فوصفها بما يتجاوز "السفالة"، وكأن مصطلح "إبادة" لم يعد وحده كافيا لوصف الحضيض الذي بلغه تعامل الاحتلال مع الإنسان في غزة.
وفي حلقة مظلمة من التاريخ، يبدو فيها القانون الدولي نفسه والفكر السياسي قاصرا عن إيجاد كلمات مناسبة لتوصيف العار الذي تشهده الإنسانية في غزة، تجد لغة الصحافة هي الأخرى نفسها عاجزة أمام الإبادة الجارية، لتستنجد بلغة الأدب، وليس أي أدب.
فقد اختارت صحيفة "إل فاتو كوتيديانو" الإيطالية، في صفحتها الأولى يوم 23 يوليو/تموز الماضي، نشر صورة لطفل مجوّع من غزة، مرفقة بتعليق يستحضر عنوانا شهيرا للكاتب الإيطالي اليهودي الناجي من الهولوكوست، بريمو ليفي: "إن كان هذا إنسانا"، ليصدر العدد -الذي تحول إلى "ترند" على شبكات التواصل الاجتماعي في إيطاليا- بعنوان: "إن كان هذا طفلا".
نبلٌ في الهدنةوإذ يقف الإيطاليون اليوم مذهولين من كم الإجرام الذي يُواجَه به الأبرياء والآمنون في غزة، يشاركهم أدباؤهم الصدمة حيال صور تبدو مستخرجة من الجحيم، لا من حروب يُفترض أن يكون القتال فيها "شريفا".
والواقع أن "الشرف العسكري" الذي أشار إليه المفكر الفلسطيني منير شفيق تعرفه جميع الشعوب التي تُقدّر قيم الفروسية عبر تاريخها. وهي قيم سجلها الأدب الإيطالي من خلال روايات عديدة، لعل أكثرها تعبيرا عن سجالات الشرق والغرب رواية "الذئب والقمر" (2011) للروائي الإيطالي بيترانجيلو بوتافوكو.
وفي هذه الرواية نقف على مشهد يصوّر نُبل الفرسان في القتال، حيث نجد قبطان باشا البحرية العثمانية، جيكاله زاده سنان باشا، وهو يستعد لفتح مسقط رأسه في صقلية، فيصف لنا الكاتب هدنة دامت 3 أيام بين الجيش العثماني والجيش المحلي، في انتظار قدوم التعزيزات من نابولي والتاج الإسباني. ذلك أن القائد العثماني عزّ عليه أن يستفرد بقتال مدينة معزولة تفتقر إلى السلاح الثقيل، فطلب هدنة لا تُشبه الهدن التي عرفتها غزة، والتي قُتل فيها البشر حتى بحجة إلقاء "مساعدات" شحيحة على رؤوسهم من الطائرات.
إعلانبينما في زمن النبلاء، فكانت هذه أيام الهدنة:
"رفرفت الرايات والأعلام على القوادس التركية، وتنافست مع الأشجار بطولها. رُفعت بنود طُبعت عليها آيات قرآنية، وكذلك الأعلام المزركشة لكل فرقة عسكرية تابعة للسلطان، أراد العثمانيون من خلال كل تلك الألوان المبالغة في الأُبّهة. اصطف جنود البوسفور تحت إمرة قائدهم، وهم يحملون حِرابا مزيّنة بالأعراف النبيلة للخيول على حواف السفن ودرابزينها، فخرا بالجاه العثماني. وصنعوا منها رفّا على قاعدة كل سفينة، يزين كل مساحة بتشكيلة من الألوان، وقاموا بوضع مزهريات بها بصيلات مزهرة من ورود التوليب الأناضولية الأنيقة، وكأنها تتباهى بالبريق المتناثر بين النور والسماء، وكأنها تلتقط روائح النسيم وتحيي هبة كل ريح.
تزود الأتراك بالفواكه الفوّاحة، وأطعمة أخرى، وأحضروا حيوانات حيّة على متنها للذبح بحسب طقوسهم، وثلوج طازجة جُمعت من الجبال، وجرار مملوءة بالزيت، ومن الماء الذي جُمع من العيون المذكورة في كتب الإدريسي العظيم. هبط على الساحل الضباط الانكشاريون المتميزون كعادتهم، بكونهم دوما أسخياء بالعملات المعدنية والذهبية والفضية، واحتشدوا عبر المحلات التجارية والمستودعات والمزارع، ووصلوا إلى غاية البلدات الموجودة على سفح جبال نبرودي".
وكانت تلك التحضيرات لمأدبة يستعد لإقامتها القائد العثماني على متن سفينته على شرف والدته:
"أعطى شِبيوني الأمر بعيون مشرقة وقلب متأثر للانطلاق في المأدبة. وأثناء تقديم الأطباق الأولى، انزلق قاربان من القوادس واتجها إلى المرفأ لتوزيع الطعام على الفقراء والمحتاجين، كما هو معروف في عادات المسلمين. وكان الدرويش هو من تولى عملية التوزيع. القوارب، التي كانت تشقّ مرج المصابيح وزهور التوليب بهدوء، سرعان ما لامست الأرض، وعلى الرصيف، وكما لو كان ينتظره، التقى الدرويش بنائب الملك. رحّب دون غارسيا دي توليدو به، وهو الموغل في مراسم الفروسية وواجباتها، بجملة واحدة: (الكريم وليٌّ لله رغم ذنوبه، والشّحيح عدوّه ولو كان قدّيسا)".
حين أهدى المسلمون طعامهم لأعدائهمويتواصل المشهد وكأنه ملتقط من فردوسٍ سماوي، إذ أُضيئت مدينة ميسينا بلحظات بهجة خالصة، كأنها وميض من نعيمٍ خالد. امتدّت سجادة من الطبول والضحكات فوق الأرض، كأنها خيوط نور من عالم علوي، واختلط صخب الصحون والصواني بنغمات الفرح.
كان الجو يعبق برائحة الزنجبيل والزهور، وكأن العطور قد انطلقت من أكمام الملائكة، وانتشرت من القوادس إلى الحصون مثل نسيم الجنة. وصلت هتافات الفرح من الحفل البحري إلى البيوت والضفاف، كأن النعيم قد تدفّق من قلب البحر لينعش الأرواح.
ثم طفت الفوانيس على صفحة الماء، مثل عيون القطط السحرية، تخترق الظلمة بنظرةٍ رقيقة. وذابت انعكاسات أنوارها على سطح الماء كقبلات سماوية على بتلات الزهور. وكان الهلال يطلّ على المشهد، شامخا كوصيٍّ على النعيم، ثم أمطر القمر ومضات خافتة، كأنها زخّات من حنانٍ إلهيّ تسكب النور على الأرض برفق.
في تلك اللحظة المسحورة، استحوذ سرّ الحلاوة على المكان. وتأمّل نائب الملك، دون غارسيا دي توليدو، المشهد من شرفة مسكنه، وشعر أن نسيجا من البهجة السماوية يُنسج أمامه في الهواء، بخيوط من طربٍ ونور.
إعلانسمع حفيفا ناعما، لم يكن إلا رقصة التوليب العائم يصطدم بالفوانيس بخفة، كأن الملائكة تلعب على سطح البحر. وتردّد همس بين الجدران والصخور، كأنه نشيد التيارات الخفية في حضن الميناء وقاع البحر الغامض، وكأن الجنة تمرّ هناك مرورا هادئا، تاركة وراءها أثرا من الحلم.
هكذا كانت الصورة عند بييترانجيلو بوتافوكّو، وهو يصف هدنة قبيل معركة من العصور الوسطى، تخللتها جملة شكر أيقونية بين فارس مسلم وفارس كاثوليكي، وحيث حرص جيش المسلمين على مشاركة سكان المدينة التي ينوون قتالها طعامهم خلال أيام الهدنة.
أما في غزة القرن الـ21، فالمشهد مختلف تماما: طحينٌ منتهٍ الصلاحية يُستخدم كمصايد للموت، وقنابل تخرق أيام الهدنة، وشاحنات معلّبات شحيحة تُمنع من الدخول لإطعام المجوّعين.
صورٌ مرعبة سجل الأدب الإيطالي شيئا منها في آخر إصدار للشاعرة والمسرحية الإيطالية روسيلا أور، في مجموعة شعرية بعنوان "كحب طبلة الأذن وبؤبؤ العين"، الصادرة في يونيو/حزيران من هذا العام، وتحديدا في قصيدة بعنوان "في قطاع غزة".
وإذ تُصوّر القصيدة مشاهد موحشة من الدمار والقصف الذي ينهال على المدينة، تنهار الجدران وتتشقّق الأسوار، كأنها فوهات من جهنم تنفث لهبها وغضبها على كل من يعيش داخلها. تتساقط الظلال الثقيلة على الحيطان المحترقة، وكأن الظلمة نفسها تهرب من نور الحياة.
تتجلّى في القصيدة صورٌ لأطفال يصرخون عطشا في أحياء بلا ماء، ونساء بثياب مغبرة يمشين حافيات، تتبعهن خطوات يأسٍ نحو مستقبل مجهول. تتكرر كلمات مثل: "الظل"، و"الدم"، و"الغبار"، و"الصمت"، لتغزل نسيجا من العذاب والاحتراق الداخلي، كما لو أن الحرب حوّلت المدينة الساحلية إلى محبس تحرسه جدران من نار.
تبدو براءة الطفولة في صورة "ابتسامة ميتة"، بينما تتحوّل الفراشات إلى كائنات "بلا ضوء"، كأن الحياة تُنتزع رويدا رويدا من بين الشقوق.
وفي ذروة هذا الجحيم، يتلوّن ماء البحر بلون الدم، ويختلط الغبار بلون الرماد، في مشهد يُشبه القيامة. تسكن القصيدة في فجوة ما بين الصرخة والصمت، وتُدين بلا كلام صمت العالم أمام إبادة مستمرة.
View this post on InstagramA post shared by Franco Arminio (@francoarminio)
غزة في الشعر الإيطاليتفاعُل الشعر الإيطالي مع مشاهد الجحيم القادمة من غزة لم يقتصر على صور شعرية ذاهلة أمام المجازر المرتكبة في القطاع، وإنما وجد له مكانا مهما في الشعر الملتزم، أو ما يُطلق عليه في إيطاليا "الشعر المدني".
ونجد هذا التوجه جليّا لدى فرانكو أرمينيو، أحد أشد شعراء إيطاليا جماهيرية، ومن بين أكثرهم مبيعا. فرانكو أرمينيو لا يجوب فقط مهرجانات إيطاليا الشعرية لإلقاء قصائده عن غزة، بل حوّل أيضا منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي إلى منابر للتنديد بالإبادة.
وهنا نجده، في نصٍّ لقي انتشارا واسعا، نشره يوم 29 يونيو/حزيران الماضي، يصف فيه التآمر العالمي على غزة:
هذه القصيدة عن رئيس حلف الناتو،
والزاحفين الآخرين
أنا من يقرر أنها قصيدة،
ومن شاء،
فليهلّل لكونها ليست قصيدة
هذا الشعر
ليس بحاجة إلى شعر،
ولا أريد منه سوى أن أحتفل
بحريتي
التي سأقذف بها
في وجوه الخدم،
وديدان لحضارتنا الغربية
يقول هذا الشعر
إن رئيس حلف الناتو
أنجز مهمته:
دفع الدول
نحو مزيدٍ من الأسلحة الأميركية
والباقي؟
تسترده الرسوم الجمركية
ويواصل أرمينيو نقده اللاذع للأنظمة المتواطئة مع الإبادة في نص يتجاوز 70 بيتا، يختمها بحسرته على ضياع أخبار غزة بين أخبار لقيطة:
هذه القصيدة تعرف أن عليها أن تشق طريقا وعرة،
بين أخبار أعياد الميلاد،
وقصائد الحب،
وموجات الحر،
وتعليقاتٍ عن رجل ثري
تزوج في البندقية
هذه القصيدة
عمرها عمر طفل،
وقد لا تعيش
أكثر من فراشة
وما يُعتقد أنه نصوص قد لا تعيش أكثر من عمر فراشة، لشعراء يُتَّهَمون بكونهم "جماهيريين" أكثر مما تقتضيه نخبوية الشعر، على غرار فرانكو أرمينيو، أو نصوص موغلة في نخبويتها حدّ الانغلاق على دوائر أدبية خاصة، كشعر روسيلا أور، وهي إحدى أبرز ممثلات الحركة المسرحية الطليعية في روما خلال سبعينيات القرن الماضي، ليس هو ما نراه حصرا في المشهد الشعري الإيطالي الذي يشهد زخما حقيقيا مرتبطا بالنصوص الشاهدة على الإبادة.
إعلانإذ لم تعد مجموعة شعرية تخلو من قصيدة مُهداة لغزة، لدى أيٍّ من الشعراء الإيطاليين المكرَّسين أو الصاعدين، سواء في دور نشر كبيرة أو صغيرة أو متوسطة، فضلا عن نصوص تُنشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وكذا المجلات المحكَّمة.
وقد يكون الحوار الذي أجرته الجزيرة نت، وتُعيد نشره مجلة Italian Poetry Review العريقة في عددها الـ20 (2025)، مع الشاعر الإيطالي باولو فاليزيو، رفقة الأشعار التي أهداها لغزة، دليلا دامغا على خروج شعر غزة من الإطار الضيق للدوائر "النضالية"، وتسجيله في الدوائر الأدبية الرصينة والمجلات النقدية الجادة.
والأكيد أن غزة حفرت اسمها عميقا في الوجدان الإيطالي، وأن الأدب الإيطالي سيبقى يذكّر أجيالا قادمة من الإيطاليين بمقتلة شنيعة ارتُكبت -ولا تزال- تحت أنظار العالم بأسره، وبأطفال يموتون جوعا نسيهم الساسة ولم ينسهم الأدب.
لتبقى أشعار إيطاليا المتدفقة شاهدة على الإبادة، وإذ لم يبخل أدباء إيطاليا بكلماتهم على غزة، التي استفرد بها احتلالٌ تجرّد من كل شرف.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات دراسات اجتماعي فی غزة
إقرأ أيضاً:
رسميًا.. ريال مدريد يعلن رحيل جاكوبو رامون إلى الدوري الإيطالي عبر بوابة كومو
أعلن نادي ريال مدريد الإسباني، اليوم الخميس، عن رحيل مدافعه الشاب جاكوبو رامون إلى صفوف نادي كومو الإيطالي، في صفقة انتقال نهائي، ليفتح اللاعب صاحب الـ20 عامًا صفحة جديدة في مشواره الكروي، تحت قيادة النجم السابق سيسك فابريجاس، المدير الفني للفريق الإيطالي.
ونشر النادي الملكي بيانًا رسميًا عبر موقعه الإلكتروني، أكد فيه توصله إلى اتفاق مع نادي كومو بشأن انتقال اللاعب، الذي يُعد من خريجي أكاديمية "لا فابريكا" الشهيرة، التي أفرزت العديد من المواهب للميرنجي خلال السنوات الماضية.
وبحسب ما أوردته وسائل إعلام إسبانية، فإن الصفقة بلغت قيمتها نحو 2.5 مليون يورو، مع احتفاظ ريال مدريد ببند إعادة شراء اللاعب حتى صيف 2028، ما يمنحه فرصة استرجاع أحد أبرز مدافعي الجيل الصاعد في حال تطور مستواه بالشكل المطلوب في الملاعب الإيطالية.
جاكوبو رامون، الذي التحق بريال مدريد عام 2013 في عمر الثامنة، تدرج عبر الفئات السنية المختلفة داخل النادي، وكان أحد العناصر الأساسية في فريق تحت 19 عامًا الذي حقق ثلاثية الدوري والكأس ودوري أبطال أوروبا للشباب في موسم 2022-2023.
وفي الموسم الماضي، شارك رامون بانتظام مع الفريق الرديف "كاستيا"، ونجح في لفت الأنظار إليه بفضل قدراته الدفاعية الكبيرة وهدوئه في بناء اللعب من الخلف. كما نال فرصة الظهور لأول مرة مع الفريق الأول في عام 2025، ضمن سياسة النادي في تصعيد المواهب الشابة.
دوليًا، تألق رامون مع منتخب إسبانيا للشباب، حيث تُوج ببطولة أوروبا تحت 19 عامًا في العام الماضي، وهو ما عزز من قيمته الفنية وسلط الضوء عليه من أندية أوروبية عدة، قبل أن يحسم كومو الصفقة بدعم من مشروع فابريجاس الطموح في الكالتشيو.
وتأتي هذه الخطوة في إطار سعي رامون للحصول على دقائق لعب منتظمة واكتساب خبرات جديدة، قد تمهد لعودته إلى ريال مدريد مستقبلًا، خاصة في ظل وجود بند إعادة الشراء الذي يعكس تمسك النادي بمستقبل لاعبه الشاب رغم رحيله المؤقت.