عربي21:
2025-08-03@15:42:34 GMT

مؤامرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية

تاريخ النشر: 3rd, August 2025 GMT

في الأسابيع الأخيرة، بدأت أصوات القادة الأوروبيين في بريطانيا وفرنسا وألمانيا تتحدث فجأة عن "الاعتراف بالدولة الفلسطينية". للوهلة الأولى، قد يبدو هذا التحول موقفا إنسانيا طال انتظاره، وكأن تلك الدول قررت أخيرا أن تصطف إلى جانب الحق الفلسطيني، لكن حين نتأمل المشهد بعمق، سرعان ما يتضح أن الأمر أبعد ما يكون عن نصرة المظلومين، بل هو أقرب إلى مناورة سياسية محكمة الأركان، تُحاك خيوطها بين العواصم الغربية وتل أبيب وواشنطن.



على مدى ما يقارب العامين، كانت المجازر في غزة تُبث على الهواء مباشرة، ومشاهد الإبادة الجماعية تملأ الشاشات، والأرقام المرعبة عن الشهداء والمصابين والمشردين تتضاعف يوما بعد يوم. ومع كل ذلك، لم نسمع من تلك الحكومات الأوروبية كلمة حقيقية واحدة تُدين إسرائيل أو تدعو لمحاسبتها على جرائم الحرب، بل على العكس، كانت التقارير تكشف أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا لم تتوقف يوما عن تزويد إسرائيل بالأسلحة الفتاكة، من الصواريخ الموجهة إلى الذخائر الثقيلة، التي استُخدمت بلا رحمة ضد المدنيين في غزة.

هنا يتبادر سؤال منطقي: إذا كانت هذه الدول متورطة حتى النخاع في تمويل آلة الحرب الإسرائيلية، فكيف يمكن أن يكون حديثها عن "الاعتراف بالدولة الفلسطينية" خطوة صادقة؟ الجواب يكمن في فهم اللعبة الكبرى التي تدور خلف الكواليس. هذه التصريحات ليست سوى جزء من خطة أوسع، يتقاسم فيها الغرب وإسرائيل والولايات المتحدة الأدوار بدقة. الهدف المعلن قد يبدو برّاقا، لكن الهدف الحقيقي هو نزع سلاح المقاومة الفلسطينية بالكامل، وإفراغ الصراع من أي قدرة فعلية على مواجهة الاحتلال.

القادة الأوروبيون لا يخفون هذا الشرط في جلساتهم وتصريحاتهم العلنية، كما فعل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، لكن الإعلام الغربي والعربي المتماهي مع الرواية الغربية يتعمد تجاهله أو تمريره بصيغ مبهمة. المطلوب واضح، لا دولة فلسطينية مع سلاح، ولا اعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني ما دامت هناك قوة مقاومة قادرة على الدفاع عن تلك الحقوق. والنتيجة الحتمية لذلك هي فرض استسلام كامل، يُسلم فيه الفلسطينيون أمنهم وكرامتهم إلى الاحتلال، مقابل كيان هش يُسمى "دولة" لكنه بلا سيادة ولا قدرة على حماية نفسه.

الأخطر من ذلك أن "الدولة" التي يتحدثون عنها ليست إلا دولة على الورق؛ لا حدود واضحة، ولا سيطرة على المعابر أو الأجواء أو السواحل، ولا جيش ولا جهاز أمنيا مستقلا، ولا حتى اقتصاد حقيقيا. ستكون مجرد كيان إداري محدود الصلاحيات، يعيش تحت رحمة الاحتلال ووفق إملاءاته، مع رفع علم فلسطيني على مبنى صغير يمكن أن يتباهى به الإعلام الأوروبي على أنه "إنجاز تاريخي". وهكذا تتحول الفكرة من تحقيق الحلم الفلسطيني إلى دفنه رسميا، عبر اعتراف مشروط ومفرغ من المعنى.

بهذا الشكل، يتحول الخطاب الأوروبي الجديد إلى أداة سياسية خطيرة، تلبس ثوب التعاطف الإنساني لكنها في حقيقتها تهيئ المسرح لإنهاء القضية الفلسطينية بشكل نهائي. إنه أسلوب معروف في السياسة الدولية، التظاهر بالانحياز إلى الضعيف، بينما يُعمل في الخفاء على كسر إرادته وتجريده من كل عناصر القوة. وفي حالتنا هذه، لا يمكن فهم التحرك الأوروبي إلا باعتباره استمرارا لدعم المشروع الصهيوني، لكن بطريقة ناعمة تُسوّق على أنها "حل سياسي".

حين نتأمل الخطاب الأوروبي الجديد، ندرك أن المشكلة ليست فقط في الشروط المجحفة التي يربطون بها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل في الفلسفة السياسية التي تحكم هذا الطرح. فالغرب يريد إعادة صياغة القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني، إلى قضية نزاع إداري على حدود ومؤسسات شكلية، ثم يدفع الفلسطينيين إلى القبول بالفتات مقابل وعود زائفة بالأمن والاستقرار.

إنهم يريدون أن يُمحى من الذاكرة العالمية أن فلسطين تعرضت لاحتلال استيطاني إحلالي، وأن شعبها طُرد من أرضه وارتُكبت بحقه مجازر على مدار قرن. يريدون أن تصبح كل المآسي التي وقعت مجرد ماضٍ غامض، وأن يُختزل المستقبل في "اتفاق سلام" لا يضمن شيئا سوى بقاء إسرائيل قوية ومسيطرة. والاعتراف الأوروبي المشروط هو أداة مركزية في هذه العملية؛ يعتمد على إعطاء الفلسطينيين علما ونشيدا وكرسيا في الأمم المتحدة، لكن مع حرمانهم من أي وسيلة حقيقية للدفاع عن أرضهم وحقوقهم.

ومن المهم أن نفهم أن نزع سلاح المقاومة لا يعني فقط تفكيك الفصائل المسلحة، بل يعني أيضا إلغاء أي فكرة عن الردع الفلسطيني. في اليوم التالي لهذا النزع، ستصبح أي مواجهة مع الاحتلال جريمة يعاقب عليها القانون الدولي الجديد الذي سيصاغ وفق شروط القوى الكبرى، وسيُصبح الاحتلال قادرا على التوسع والاستيطان بلا تكلفة سياسية أو عسكرية، لأن الطرف الآخر سيكون منزوع الأنياب، عاجزا عن الرد.

هذا الطرح يحمل في طياته خطرا استراتيجيا مضاعفا: فمن جهة، يضمن لإسرائيل أمنا طويل المدى بلا حرب، ومن جهة أخرى، يخلق جيلا فلسطينيا محبطا فاقدا للثقة في جدوى المقاومة. وعندها يمكن للقوى الغربية أن تقول للعالم إن "القضية الفلسطينية" قد تم حلها، بينما الحقيقة أن فلسطين تكون قد دخلت مرحلة استعمار جديد، لكن بغطاء شرعي هذه المرة.

الأمر الأكثر إثارة للريبة هو توقيت هذه التصريحات الأوروبية. فبعد نحو عامين من الإبادة الجماعية في غزة، وبعد أن فشلت آلة الحرب الإسرائيلية في كسر المقاومة رغم كل الدعم الغربي، بدأت هذه الأصوات تتعالى. وهذا يعكس حقيقة أن الغرب بات يدرك أن القوة العسكرية وحدها لم تحقق الهدف، وأن الطريق إلى إنهاء المقاومة يمر عبر إغراءات سياسية وتنازلات مخادعة. هم يريدون أن يقدموا للفلسطينيين "حلم الدولة" ليحصلوا في المقابل على تنازلهم عن السلاح.

لكن ما يغيب عن هؤلاء أن الفلسطينيين جرّبوا هذا النوع من "السلام" من قبل، وأن اتفاقيات مثل أوسلو لم تجلب إلا المزيد من الاستيطان والمصادرة والانتهاكات. يعرف الفلسطينيون جيدا أن أي دولة لا تملك السيطرة على حدودها وأمنها واقتصادها ليست سوى سجن كبير، وأن نزع السلاح تحت الاحتلال هو وصفة للعبودية السياسية.

إن ما يسوّقه القادة الأوروبيون اليوم ليس تضامنا ولا إنصافا، بل هو إعادة إنتاج لمشاريع تصفية القضية الفلسطينية التي جُربت سابقا وفشلت، لكن هذه المرة تحت لافتة "الاعتراف بالدولة". إنه شكل حديث من أشكال الضغط، مغلف بالدبلوماسية الناعمة، لكنه في جوهره استمرار لسياسات السيطرة والاستعمار.

ولهذا فإن التعامل مع هذه العروض يتطلب وعيا سياسيا حادا، ورفضا قاطعا لأي اعتراف مشروط ينزع عن الشعب الفلسطيني حقه في الدفاع عن نفسه. فالدولة الحقيقية ليست هدية من المحتل أو من داعميه، بل ثمرة نضال طويل يفرضها الواقع على الجميع. أما الدول التي تُمنح كهبة معزولة عن إرادة أصحابها، فهي لا تعدو أن تكون قيدا جديدا بألوان مختلفة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الاعتراف الفلسطينية الاحتلال دولة احتلال فلسطين اعتراف دولة اوروبي قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاعتراف بالدولة الفلسطینیة القضیة الفلسطینیة

إقرأ أيضاً:

ضغوط دولية متزايدة على إسرائيل.. هل اقترب الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟

أكدت الدكتورة رتيبة النتشة، عضو هيئة العمل الأهلي الوطني الفلسطيني، أن هناك توجهًا دوليًا متزايدًا للضغط على إسرائيل من أجل إنهاء الاحتلال والاعتراف بالدولة الفلسطينية، مشيرة إلى أن المواقف الأوروبية الأخيرة تمثل تحوّلًا ملحوظًا، خصوصًا مع مراجعة اتفاقيات الشراكة ووقف التعاون الأكاديمي وتصدير الأسلحة.

ويتكوف: غالبية سكان غزة يريدون إعادة الأسرى الإسرائيليينخبير سياسي يكشف أهمية زيارة المبعوث الأمريكي لقطاع غزة.. تفاصيل هامةعربية النواب للمشككين فى دور مصر: اسألوا أهل وعشائر غزة

وأوضحت النتشة، خلال مداخلة هاتفية على شاشة "القاهرة الإخبارية"، أن هذه الضغوط، رغم أنها جاءت متأخرة، إلا أنها تحمل رسائل قوية وتعكس تغيّرًا في المزاج السياسي الدولي تجاه السياسات الإسرائيلية.

إسرائيل في عزلة متنامية ومجتمعها يواجه تصدعات داخلية

وأضافت أن هذا التحرك الأوروبي يضع إسرائيل في عزلة دولية متزايدة، ويُحدث ارتدادات داخلية في المجتمع والسياسة الإسرائيلية، قد تقود إلى تغييرات مستقبلية في موقفها الرسمي من القضية الفلسطينية، مؤكدة أن الرواية الإسرائيلية حول "الأمن" بدأت تتآكل على المستوى العالمي.

وأشارت إلى أن تصاعد الضغط الشعبي في عدد من الدول يدفع الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر حزمًا، من خلال سياسات المقاطعة وفرض العقوبات.

الاعتراف بالدولة الفلسطينية يكتسب زخمًا دوليًا

وأكدت النتشة أن هذه التحولات تساهم في حماية مسار حل الدولتين، وتُعزز من شرعية القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، مشيرة إلى أن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين من قبل عدد من القوى الكبرى بات قريبًا، مما سيزيد من عزلة الاحتلال ويضاعف الضغوط عليه.

وشددت النتشة على أن استمرار إسرائيل في تجاهل قرارات الشرعية الدولية وحقوق الفلسطينيين يُهدد بانهيار منظومة التعاون الدولي معها، مطالبة المجتمع الدولي بإعادة تقييم جاد لعلاقاته مع تل أبيب بما يضمن حفظ الأمن والسلام في المنطقة.

طباعة شارك العمل الأهلي الوطني الفلسطيني الدولة الفلسطينية إسرائيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية

مقالات مشابهة

  • ضغوط دولية متزايدة على إسرائيل.. هل اقترب الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟
  • وزارة الخارجية ترحب بإعلان دولي يدعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية
  • لماذا قللت أمريكا من أهمية اعتزام بريطانيا وفرنسا وكندا الاعتراف بالدولة الفلسطينية؟
  • الفصائل الفلسطينية تطالب باعترافٍ دولي غير مشروط بالدولة المستقلة
  • الدكتور محمد عبد اللاه: الهجمات الإعلامية التي تتعرض لها مصر بسبب موقفها من القضية الفلسطينية مؤامرة
  • مصر ترحب بإعلان كندا ومالطا عزمهما الاعتراف بالدولة الفلسطينية
  • المملكة ترحب بإعلان البرتغال بدء إجراءات الاعتراف بالدولة الفلسطينية
  • تركيا ترحب بالخطوات المتخذة للاعتراف بالدولة الفلسطينية
  • المملكة ترحب باعتزام البرتغال الاعتراف بالدولة الفلسطينية