كثيرا ما كان فصل الصيف في تونس فترة استراحة لحكامها المتعاقبين، فيه ينشغل الناس بالبحر والأعراس وحفلات المهرجانات المختلفة واستقبال أهاليهم المهاجرين العائدين لقضاء إجازاتهم.
هو فصل المرح بامتياز، وعادة ما تتمتع فيه السلطة بفرصة لالتقاط الأنفاس تسمح لها بترتيب بعض الأوراق، مع تمرير ماكر لارتفاع أسعار بعض المواد، قبل انفضاض السمر واستعداد الجميع لعودة الدراسة في المعاهد والجامعات، وكذلك بداية «الموسم السياسي» الجديد.
هكذا كان دائما فصل الصيف في تونس غير أنه هذا العام اختلف عن سابقيه بأمرين اثنين: كثرة انقطاعات الماء والكهرباء اليومية الأمر الذي لم يعهده الناس في السابق، ومرور ذكرى ثلاث سنوات على انقلاب قيس سعيّد تخلّلها تدهور في كل شيء. وهما أمران أحيا السياسة في فصل كانت تخمد فيه عادة سجالاتها، لاسيما مع اختفاء البرامج السياسية الحوارية الإذاعية والتلفزيونية التي كانت تعود مع بداية سبتمبر/ أيلول، لكنها هذه المرة اختفت إلى الأبد.
لقد عمدت السلطة طوال الأشهر الماضية، ليس فقط إلى استكمال قتل السياسة بزج قيادات بارزة في السجون، وإنما أيضا إلى التخلّص تدريجيا من كل ما هو مزعج لها في الإعلام فعمدت إلى إطفاء شمعات كل المنابر، الواحدة تلو الأخرى، حتى وصلنا إلى إعلام خال تماما من السياسة، خاصة تلك الناقدة للسلطة.
خطورة ما حصل مع اختفاء آخر برنامج سياسي حواري في إذاعة «جوهرة» الخاصة، بعد أن ظل في الفترة الأخيرة يحاول الصمود بأنفاس متقطّعة، اعتبره الصحافي التونسي حسان العيادي «جرس إنذار جديدا يذكّرنا بأن الأزمة لا تتعلق ببرنامج إذاعي وحيد بل في تآكل شامل لمساحات النقاش المدني في الفضاء السمعي البصري وتقلص مساحات النقاش وتطوير المشترك بين التونسيين»، مضيفا أن «هذه البرامج ومثيلاتها ممن توفر فضاء للحوار المجتمعي ليست مجرد عروض إعلامية، بل أدوات لصناعة الوعي وتفكيك التعقيدات ومناقشة السياسات العمومية التي تؤثر على حياة الناس، وبهذا المعنى يصبح الحوار أحد شروط الشرعية السياسية والتطور الجماعي».
مع ذلك، لا تبدو السلطة مكترثة بخطورة سد كل منافذ حرية التعبير والتعددية الإعلامية. هي بذلك لا تحرم الناس فقط من متعة النقاش الحر وجرأة طرح الأفكار والبرامج دون خوف، كما جرّبوها طوال سنوات ما بعد الثورة، أي من يناير/ كانون الثاني 2011 إلى حين بداية الانتكاسة بانقلاب سعيّد في يوليو/ تموز 2021، بل تحرم نفسها هي أيضا من رصد ومعرفة ما يتفاعل داخل المجتمع من أفكار واتجاهات وأمزجة، تاركة الساحة لمجالين لا يمكن أن يفيا بالغرض، إلا منقوصا أو مشوّها أو حتى مضلّلا، وهما مواقع التواصل الاجتماعي وأساسا «فيسبوك» والتقارير الأمنية التي لا أحد يدري حاليا من يمتلك ناصيتها حاليا وفي أي اتجاه تٌوظّف.
استكمال شد الحبل على عنق السياسة في تونس حتى تختنق بالكامل فتسقط جثة هامدة توجّه خطير للغاية
إن استكمال شد الحبل على عنق السياسة في تونس حتى تختنق بالكامل فتسقط جثة هامدة توجّه خطير للغاية يقامر بمستقبل البلاد كلها، لأنه لا يكرّس فقط القطيعة الكاملة بين الناس وسلطة الأمر الواقع الحالية، بل ويغتال أي بصيص أمل في تلمّس بديل ما ينهي هذه السنوات العجاف من تاريخ البلاد، خاصة مع عودة مناخ الخوف واستقالة جزء كبير من النخبة وانتهازية بعضها ولجوء عدد متزايد من الكوادر إلى الهجرة.
وضع كهذا لا يمكن له في نهاية المطاف سوى أن يؤدي إلى تعميق الاختناق الحالي بعد اتضاح أمرين أساسيين: الأول نفض اليد بالكامل من قيس سعيّد بعد ما اتضح تماما الإفلاس الكامل الذي يعانيه، والثاني غياب البديل الذي يمكن للناس أن تثق فيه بعد أن تمّت شيطنة أغلب الفاعلين أو ترهيبهم أو ابتزازهم أو الزج بهم في السجن.
الأمر الأول عبّر عنه أفضل تعبير الصحافي التونسي نزار بهلول حين كتب عن سعيّد بأنه «لم يعد لديه ما يقول ولم يعد أحد يستمع إليه»، أما الثاني فيمكن أن تلمسه بكل سهولة في أمزجة التونسيين الحائرة وهي تتساءل بحزن عن البلاد إلى أين تراها ذاهبة.
مخيف جدا أن يصبح راهن البلاد لا يطاق، وسؤال المستقبل بلا جواب، فذاك يفتح المجال أمام إمكانية تغيير غير معروفة، ولا مضمونة، وقد تكون فوضوية بشكل يهدّد البلاد ومستقبلها. الأكيد أن العهد الحالي أفلس بالكامل وبدا عجزه وفشله مفضوحين للجميع رغم أنه ما زال يكابر ويزايد، لكن آفاق التجاوز ما تزال مجهولة أو ضبابية في أحسن الأحوال.
حالة الحيرة والترقب القلق لا يمكن أن تستمر أكثر لأنها تعني الشلل ومزيدا من التعفّن، خاصة حين يصبح المستقبل مجهولا مع الأمل في أن يكون في كل الأحوال أفضل من الحالي… ولكن من يضمن ذلك؟ من يضمن ألا يهب في النهاية هذا الشعب ضد هذه السلطة العاجزة عن حل أي مشكل وهو الذي يبدو حاليا مستكينا ومستسلما؟ ومن يضمن ألا تكون هذه الهبّة عنيفة أو فوضوية بلا قيادة توجّهها؟! لا أحد للأسف.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه تونس الإنقلاب تونس حريات قيس سعيد مقالات صحافة سياسة من هنا وهناك صحافة صحافة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی تونس
إقرأ أيضاً: