عربي21:
2025-12-11@11:59:48 GMT

قصة الثعلب والديك في السياسة!

تاريخ النشر: 11th, December 2025 GMT

أرجو ألا تطبقوا قصة «الثعلب والديك» على أميركا في عهدها الجمهوري الراهن تحت حكم الرئيس، دونالد ترامب، على الرغم من أن القصة تشبه ما تفعله أميركا اليوم في ملف، أوكرانيا، وغزة، وإيران، وآخرها ملف فنزويلا الجديد!

سأظل أتذكر قصة «الثعلب والديك» وهي قصة منسوبة إلى أيسوب، ويقال: إن اسم أيسوب محرف من الاسم الحقيقي (الإثيوبي) المنسوب إلى دولة إثيوبيا، أيسوب يُشبه عنترة بن شداد، البطل العربي المُستعبَد، والذي نال حريتَه بالبطولة والتضحية دفاعاً عن قبيلة بني عبس، أما أيسوب فهو كذلك عبدٌ في التراث اليوناني عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وتنسب له قصص خرافية عديدة، نال حريته بوساطة إبداعاته القصصية الشبيهة بقصص ابن المقفع في كتابه «كليلة ودمنة»، من هذه القصص قصة «الديك والثعلب»!

قصة «الديك والثعلب» تُروى بطرقٍ عديدة، تحكي القصةُ أن ثعلباً جائعاً أراد قنص ديكٍ فصيحٍ حسن الصوت يحمى حظيرة من الدجاجات دون أن يستثير مالكي الديك، فأجرى الثعلبُ مع الديك حواراً محاولاً تبرير التهامه، فطرح عليه مجموعة من الأسئلة قبل التهامه فسأله: «برِّر لي إنك أيها الديك لستَ مُزعجاً توقظ النائمين مبكراً؟ رد الديك الفصيح: لكنني أوقظ العمالَ النائمين ليفلحوا حقولهم في الصباح الباكر لتثمر أشجارهم ويعم الخيرُ على الجميع!

سأل الثعلبُ الديك: إن صوتك رديءٌ لا يصلح للإيقاظ، إنه يسبب الألم، فما ردك؟ رد الديك الفصيح: إن صوتي جميل بشهادة زوجاتي الدجاجات الجميلات اللاتي يُصفِّقن بأجنحتهن لي كل صباح، ردَّ الذئبُ: ولكنك توزع المرضَ على الحظيرة بقدميك المتسختين، رد الديكُ: اعتادت أجمل دجاجاتي أن تغسل لي كل مساءٍ قدميَ بماء يقضي على المرض، قال الذئب: لكنك بخيل لا تمنح الدجاج من علف الحبوب إلا الفاسد الجارح؟ ردَّ الديكُ، أنا ألتقط علف الحبوب الطازجة بمنقاري وأضعه في مناقير الدجاج بلا تمييز، احتار الثعلب ولم يجد عيباً في الديك، فقال: «ولكن لا مبرر لك أيها الديك أن أظل جائعاً يومين كاملَين»، فالتهمه!

سأظل أتذكر أن هناك قصة ديك وثعلب أخرى جرت في أوائل ستينيات القرن الماضي، عندما جرى اغتيال الرئيس الكنغولي، باتريس لومومبا المنتخب بعد فوزه بنسبة 90% من الأصوات، وكانت تهمة، لومومبا أنه شيوعي موالٍ للرئيس جمال عبد الناصر والاتحاد السوفياتي، وأنه سيفسد قارة إفريقيا كلها، وما زلت أتذكر أن الكونغو كانت مستعمرة بلجيكية وأصر الملك البلجيكي بودوان أن يشارك في الاحتفال باستقلالها وأن يلقي كلمة في الاحتفال عام 1960، رغم أن برنامج الحفل لم يتضمن كلمة الملك فهو مدعوٌّ فقط، فصعد الملك وتحدث عن بطولات الجيش البلجيكي في الكونغو وعن التضحيات المالية المدفوعة للكونغو، حينئذٍ اختطف لومومبا الميكروفون منه وقال: «تذكروا أنكم كنتم تمارسون سياسة العبودية ضدنا، تذكروا أنكم نهبتم ثرواتنا، وملأتم سجونكم بأهلنا، تذكروا إهانتكم لنا لأننا زنوج»!

عندئذٍ قررت بلجيكا بالتضامن مع أميركا القضاء على باتريس لومومبا بادعاء أنه شيوعي مناصر لروسيا والصين، فجرى افتعال انفصال إقليم كاتنغا عن الكونغو واختطافه واغتياله بوساطة القوات البلجيكية بالتعاون مع المخابرات الأميركية، واقتياده إلى غابة مهجورة وإذابة عظامه ولحمه بالأسيد في منطقة مهجورة يوم السابع عشر من كانون الثاني 1961م، وتمكن الرئيس جمال عبد الناصر من إنقاذ أسرته وحمل الأسرة بطائرة مصرية إلى القاهرة، وكان منسق عملية الإنقاذ الفريق سعد الدين الشاذلي!

هذه القصة لها شبيه بالواقع اليوم في ظل الحكومة الأميركية والدول الأوروبية، خاصة حكومة ترامب، هو أيضاً شبيهٌ بالتهمة التي وجهها ترامب لزهران ممداني عمدة نيويورك الجديد بأنه شيوعي! وكذلك اتهام رئيس فنزويلا بأنه تاجر مخدرات وشيوعي!

والحقيقة هي أن فنزويلا انتخبتْ عام 2024 الرئيس نيكولاس مادورو بنسبة 90% بالضبط مثل نتيجة انتخابات باتريس لومومبا في الكونغو عام 1960م، ولكن الرئيس مادورو قرر أن يعيد حقوق فنزويلا المسلوبة في إقليم (إيسيكويبو) التابع لدولة غويانا، فحسب زعمه أن الإقليم السابق هو مساحة من الأرض المغتصبة من فنزويلا، مع العلم أن دولة غويانا كانت في السابق مستعمرة بريطانية وهي دولة غنية بالمعادن الثمينة والبترول والغاز، مع العلم أن فنزويلا نفسها تملك خُمس احتياط العالم من البترول!

ادعى دونالد ترامب أن فنزويلا ورئيسها مادورو يصدران مخدرات الكوكايين إلى أميركا، وهو يناصر العدوَّيْنِ اللدودَين (الصين وروسيا) وكذلك الهند، وإيران، وكوريا! لم يذكر الرئيس ترامب أن سبب هذه الهجمة والتهديد بالتخلص من الرئيس الفنزويلي مادورو عسكرياً يعود إلى مئات آلاف المهاجرين الفنزويليين إلى أميركا، وهم من الفئات التي يسميها ترامب (القمامة)!

كذلك عندما نعود إلى التاريخ القديم ونتذكر أبشع جرائم بريطانيا المتمثلة في شركة «الهند الشرقية» التي كانت تمثل صورة الثعلب في قصة أيسوب هذه الشركة (الثعلبية) شنَّت حربين كبرتَيْنِ على الصين عامَي 1840 و1856، وجرى اقتطاع هونغ كونغ من الصين، لأن الصين كانت المهدد التجاري الأكبر لبريطانيا، فقد كانت تصدر لبريطانيا الحرير والشاي والبورسيلان، ولا تستورد شيئاً من بريطانيا.



بريطانيا أرادت إذلال الصين وغزوها، فادعت أن الصين دولة دكتاتورية لا تسمح بالتجارة الحرة، لذلك قررت بريطانيا أن تُغرق الأسواق الصينية بالأفيون المزروع في الهند لكي تنشر الإدمان الذي بلغ ذروته في الصين، فقد أصبح عشرات الملايين من الصينيين مدمنين على تعاطي المخدرات، لذلك غزت السفن البريطانية والفرنسية بمعونة أميركية سواحل الصين، في حرب الأفيون الأولى عام 1840، أجبرت القواتُ الغازية الصينَ على التوقيع على اتفاقية مذلة، واقتطعت من الصين جزيرة هونغ كونغ، ثم في حرب الأفيون الثانية في عام 1856 غزت القوات البريطانية والفرنسية مدينة بكين، وسرقت هذه القوات الغازية الآثار والجواهر التابعة لأباطرة الصين القدماء!

أجبرتُ دولُ الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وأميركا) الصين على أن تفتح موانئها كلها للتجارة الخارجية، وأن تلتزم بإعفاء البضائع المستوردة من تلك الدول من جميع الضرائب!
مع العلم أن بريطانيا التي كانت تزرع الأفيون في الهند وتشحنه في السفن إلى الصين لتبيعه للصينيين، كانت تحظر نشر الأفيون في بريطانيا نفسها!

إن قصة «الثعلب والديك» لا تزال تُطبق حتى اليوم، وما زال ملف الرئيس جمال عبد الناصر ماثلاً أمامنا، فهو عند الدول الغربية وأميركا شيوعي معادٍ للغرب، ويسعى لتكوين إمبراطورية عربية كبرى، خاصة عندما أعلن الوحدة بين مصر وسورية في 22 شباط 1958، وجرى توقيع ميثاق الجمهورية المتحدة بين سورية، ومصر، يمثل سورية شكري القوتلي ويمثل مصر جمال عبد الناصر. اختير جمال عبد الناصر رئيساً، وصارت القاهرة عاصمة للجمهورية المتحدة الجديدة!

لم ينس (الثعالب) ما فعله عبد الناصر حين أمَّم شركة قناة السويس لتصبح شركة مصرية بحتة في 26 تموز 1956، جاء القرار رداً على انسحاب الولايات المتحدة وبريطانيا من ملف تمويل بناء السد العالي، كان العدوانُ الثلاثي المكون من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل نتيجة التأميم!

كذلك الحال، فإن قانون الثعالب والديكة كان واضحاً في إنهاء حكم الرئيس العراقي صدام حسين عام 2003، بدأت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش في وضع خطط لغزو العراق.. ادعى الرئيس بوش (الثعلب) أن صدام كان يواصل تخزين وتصنيع أسلحة الدمار الشامل، وأن العراق يقع ضمن «محور الشر» العالمي إلى جانب إيران وكوريا الشمالية، وفي تشرين الأول عام 2002، أجاز الكونغرس الأميركي استخدام القوة العسكرية ضد العراق.

ولا أنسى أن المؤامرة التي جرت على الرئيس ياسر عرفات واغتياله بالسم تقع ضمن سيناريو الثعلب والديك، فهو راع للإرهاب رغم أنه حاصلٌ على جائزة نوبل للسلام وليس الحرب، فهو المحرّض على استيراد السلاح في سفينة «كارين إي»، وهو الذي سبّب الانتفاضة، وهو الذي أعطى الضوء الأخضر للعمليات «الإرهابية» ضد الإسرائيليين!

الأيام الفلسطينية

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه ترامب الولايات المتحدة إيران إيران الولايات المتحدة الاحتلال ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة جمال عبد الناصر

إقرأ أيضاً:

«فلسطين 36»... بريطانيا وجذور المجزرة

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

كل من يحاول فهم سبب استمرار الدولة البريطانية ووسائل إعلامها ـ رغم ادعائها القيام بدور الرقابة على السلطة ـ في تبرير الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين في غزة، سيجد الإجابة في فيلم جديد.

الفيلم لا يروى أحداث اليوم، بل يعود إلى حكاية تعود إلى ما يقرب من تسعين عامًا.

فيلم «فلسطين 36»، من إخراج المخرجة الفلسطينية المبدعة آن ماري جاسر، يكشف من التفاصيل المرتبطة بالأحداث الجارية في غزة خلال العامين الأخيرين ما هو أعمق بكثير مما يمكن للقارئ أن يجده في أي صحيفة بريطانية، أو أن يشاهده على شاشة قناة «بي بي سي»، هذا إن وجد أصلًا أي تناول يُذكر لغزة منذ أن أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توصيف عمليات القتل والتهجير المستمرة بأنها «وقف إطلاق نار».

يمتاز الفيلم ـ على غير العادة في الأفلام الفلسطينية ـ بميزانية تُضاهي أعمال هوليوود الكبرى، وبمشاركة ممثلين معروفين لدى الجمهور الغربي، مثل جيريمي آيرونز وليام كننغهام.

إن الفيلم محطة مفصلية من التاريخ الاستعماري البريطاني لا تُروى هذه المرة من زاوية المستعمر، بل من زاوية ضحاياه. الرقم «36» في العنوان يعود إلى عام 1936، عندما انتفض الفلسطينيون ضد بطش الاستعمار البريطاني، الذي يُشار إليه عادة ـ وبشكل مضلل ـ باسم «الانتداب البريطاني» الصادر عن «عصبة الأمم».

لم تكن المشكلة بالنسبة للفلسطينيين مقتصرة على عنف الاحتلال البريطاني المنهجي على مدى ثلاثة عقود، بل إن الدور الذي أدّته بريطانيا كمفوَّضة بحفظ السلام بين الفلسطينيين والسكان اليهود القادمين حديثًا، كان غطاءً لمشروع أشد خطورة.

فالبريطانيون هم من فتحوا الطريق أمام اليهود للخروج من أوروبا ـ حيث لم تكن ترغب فيهم حكومات تحمل نزعات عنصرية، ومنها بريطانيا نفسها ـ ليُزرعوا في فلسطين. وهناك جرى إعدادهم ليكونوا القوة المسلحة للدولة اليهودية المقبلة، دولة أرادتها بريطانيا تابعة لها، تدفع بمشروعها الإمبراطوري في المنطقة.

باختصار، كانت الإمبراطورية البريطانية المثقلة بأعبائها تأمل أن تُوكل مهامها الاستعمارية تدريجيًا إلى «دولة يهودية» حصينة. كان أحد أهم أولويات بريطانيا هو سحق موجة القومية العربية التي اجتاحت بلاد الشام ردًّا على الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي. والقومية العربية حركة سياسية علمانية وحدوية، تسعى إلى تجاوز الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية، وترسيخ الهوية العربية في مواجهة الهيمنة الأجنبية. ولهذا السبب كانت بريطانيا وفرنسا على عداء شديد معها. كما أن موقع فلسطين كان بالغ الأهمية؛ لكونها صلة الوصل بين مركزَي الحركة القومية في لبنان وسوريا شمالًا، ومصر جنوبًا. ولهذا كان لا بد ـ في نظر بريطانيا ـ من إخماد روح التحرر في فلسطين بأي ثمن، إلا أن القمع المفرط لم يُسكت الفلسطينيين، بل غذّى ثورة أخذت شكل انتفاضة كبرى عام 1936، عُرفت في الغرب باسم «الثورة العربية» واستعادها الفلسطينيون كأول «انتفاضة» لهم.

لاحقًا، ستشهد فلسطين انتفاضتين كبيرتين ضد استعمار استيطاني أكثر قسوة وفظاعة، هما انتفاضة 1987 وانتفاضة عام 2000. وقد كبرت ثورة 1936-1939 إلى حد أنّ عدد الجنود البريطانيين في فلسطين الصغيرة فاق، في ذروتها، عدد الجنود البريطانيين في الهند كلّها، وفق ما يذكره المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي.

وهذه القصة التي يرويها فيلم «فلسطين 36» ليست جزءًا من مناهج المدارس البريطانية، ولا تُطرح في وسائل إعلامها بوصفها خلفية ضرورية لفهم ما يجرى اليوم في فلسطين التاريخية. ولهذا سيصدم كثير من البريطانيين عند مشاهدة الفيلم من حجم العنف الاستعماري الذي مارسته بلادهم، كما سيكتشفون التشابه الصارخ بين ذلك السلوك وبين ما يحدث اليوم في غزة.

الفيلم يقدّم تذكيرًا قويًا بأن فئة من الناشطين لا تزال تصف وحشية إسرائيل تجاه الفلسطينيين بأنها استثناء، أو ظاهرة خاصة بالنظرية الصهيونية وحدها.

لكن فيلم المخرجة جاسر يثبت خطأ هذا التصور؛ فالعنف الاستعماري الإسرائيلي اليوم ليس سوى نسخة مطوّرة أكثر تقدمًا وتكنولوجيا من الأساليب التي استخدمها الاحتلال البريطاني قبل قرن تقريبًا. والجيش الإسرائيلي ـ وهنا المفارقة ـ تعلّم هذه الأساليب من البريطانيين، بشكل حرفي.

أحد أبرز الشخصيات في الفيلم هو الضابط البريطاني أورد وينغيت، الذي كان يقود غارات ليلية على القرى الفلسطينية لبث الرعب بين سكانها. وكان وينغيت يشرف على تشكيل فرق عقابية من الجنود البريطانيين وعناصر الميليشيات اليهودية الوافدة حديثًا، لتطبيق «استراتيجيات الحرب الهجينة» التي أصبحت لاحقًا أساس العقيدة العسكرية الإسرائيلية.

وعندما توفي وينغيت في حادث طائرة ببورما عام 1944، نعاه ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل، قائلاً إن «وينغيت لو عاش، لأصبح أول رئيس لأركان الجيش الإسرائيلي».

ويُظهر الفيلم وينغيت وهو يرتكب جرائم حرب بشكل روتيني مثل استخدام طفل فلسطيني كدرع بشري، وجمع النساء والأطفال في ساحة مكشوفة محاطة بالأسلاك الشائكة وحرمانهم من الماء تحت حرّ الشمس، وإحراق المحاصيل، وتفجير حافلة تقلّ رجالًا فلسطينيين اعتقلهم عشوائيًا.

كما يبرز الفيلم دور الضابط البريطاني تغارت، الذي استورد إلى فلسطين تصميم الحصون العسكرية التي كان قد بناها في الهند لقمع الانتفاضات هناك. هذه الحصون أصبحت النموذج الأولي للجدران والأسوار ونقاط التفتيش التي شطّرت فلسطين اليوم، وحوّلتها إلى شبكة من السجون المفتوحة، وفي مقدمتها سجن غزة الكبير.

ومع متابعة مشاهد الفيلم التي تظهر الإذلال والقتل على أيدي القوات البريطانية، تتضح الأسباب التي دفعت كل جيل فلسطيني إلى حالة أعمق من الغضب واليأس.

فقمع بريطانيا الوحشي لثورة 1936 مهّد مباشرة لمسار طويل انتهى بانفجار السابع من أكتوبر 2023 على يد حركة حماس، وما أعقب ذلك من حملة إبادة استعمارية تشنّها إسرائيل اليوم. ومن المؤكد أنّ هذه الإبادة لن تُخضع هذا الجيل من الفلسطينيين، تمامًا كما لم تُخضع أجيالًا سبقتهم في الثلاثينيات. إنها فقط تعمّق الجراح، وتزيد الإصرار على المقاومة.

ويتناول الفيلم أيضًا ـ وإن بطريقة غير مباشرة ـ الدور الذي قامت به بريطانيا في ترسيخ نزعة أيديولوجية متطرفة يُنسب ظهورها اليوم غالبًا إلى إسرائيل وحدها.

فقد كان إخضاع الضابط البريطاني أورد وينغيت للفلسطينيين بوحشية، ونظرته إليهم بوصفهم كائنات أدنى من البشر، مقابل تعلقه الشديد باليهود، نابعًا من إيمانه بأيديولوجيا الصهيونية.

وغالبًا ما يُغفل أن الصهيونية، قبل أن تتحول إلى قومية يهودية حديثة، كانت راسخة منذ قرون في وجدان تيارات مسيحية أوروبية اعتقدت أن «إعادة» اليهود إلى موطنهم القديم خطوة ضرورية لتحقيق نبوءات «نهاية الزمان» التي ستمهّد، وفق معتقداتهم، لعودة المسيح وإقامة ملكوته على الأرض. ومن بين هؤلاء المسيحيين الصهاينة كان اللورد بلفور، صاحب «وعد بلفور» عام 1917 الذي تعهّد بإقامة «وطن قومي» لليهود في فلسطين.

أما الشعب الفلسطيني ـ الذي تشير دراسات جينية إلى أن كثيرًا من أفراده ينحدرون من الكنعانيين القدماء الذين عاشوا في المنطقة منذ آلاف السنين ثم اعتنقوا المسيحية والإسلام لاحقًا ـ فقد كان يُنظر إليه لدى أمثال وينغيت بوصفه عقبة أمام تحقيق النبوءة الإلهية. وإذا لم يُخلوا وطنهم «طوعًا» لإفساح المجال لليهود، فعليهم أن يُجبروا على ذلك.

وقد دفعت الصهيونية الحديثة الإسرائيليين إلى الاتجاه نفسه؛ إذ تُظهر استطلاعات الرأي تزايد التأييد لأفكار تقوم على التطهير العرقي وإبادة الفلسطينيين. وتزخر منصات التواصل الاجتماعي بمنشورات لجنود إسرائيليين يتباهون فيها بممارساتهم الوحشية تجاه سكان غزة.

ويعيد الفيلم ربط هذه الأصول الفكرية بما يجري اليوم. فالمراجعات النقدية للفيلم في الصحافة البريطانية جاءت باهتة؛ حتى صحيفة «الغارديان» الليبرالية اكتفت بوصفه بأنه «مؤثّر»، في لهجة تشبه مواساة طفل كتب موضوعًا مدرسيًا متواضعًا.

وليس ذلك مستغربًا؛ فالمؤسسة البريطانية، تمامًا كالمؤسسة الأمريكية التي ورثت دور «شرطي العالم» بعد الحرب العالمية الثانية، ما زالت تنظر إلى القومية العربية بوصفها تهديدًا، وإلى إسرائيل بوصفها مركزًا استعماريًا مهمًا، وإلى فلسطين بوصفها مختبرًا لأساليب الرقابة والتصدي للانتفاضات، وما زالت ترى الفلسطينيين أقل شأنًا من البشر.

ولهذا لم يتردد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في الدفاع عن قرار إسرائيل منع الغذاء والماء والكهرباء عن سكان غزة بمن فيهم مليون طفل، أي تجويعهم في مخالفة صريحة للقانون الدولي.

ولهذا السبب يواصل ستارمر ومؤسسات الدولة البريطانية إرسال السلاح لإسرائيل وتزويدها بالمعلومات الاستخبارية التي تستخدمها في استهداف المدنيين، كما رحّب بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في مقر رئاسة الحكومة بعدما أعلن الأخير أنه لا وجود لـ«مدنيين غير متورطين» في غزة.

ولهذا لا تزال القوات البريطانية تدرّب الضباط الإسرائيليين داخل المملكة المتحدة، كما يفعل الضباط البريطانيون الذين يسافرون إلى إسرائيل للتدرّب على أساليب جيشها. ولهذا أيضًا تواصل بريطانيا توفير الحماية الدبلوماسية لإسرائيل وتهديد المحكمة الجنائية الدولية بسبب سعيها إلى محاسبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على جرائم ضد الإنسانية في غزة. ومن هنا أيضًا جاء تعديل حكومة ستارمر لتعريف الإرهاب داخل بريطانيا بغرض تجريم من يعبر عن رفضه للإبادة المرتكبة في غزة.

والحقيقة أن الحكومة والمدارس ووسائل الإعلام في بريطانيا لم تعد مصادر يمكن الاتكال عليها لفهم التاريخ الاستعماري البريطاني، سواء في فلسطين أو في أي من البلدان التي مارست بريطانيا ضدها القهر عبر العالم. وإذا أردنا فهم الماضي والحاضر معًا، فلا بد من الإصغاء أولًا إلى ضحايا ذلك العنف.

مقالات مشابهة

  • رئيس الوزراء: «تحالف وتنمية» إحدي مبادرات السياسة الوطنية للابتكار المستدام 2030
  • بعد عقد من التأجيل..فيتو السياسة والطائفة يهدد ملف تفرغ الجامعة اللبنانية!
  • العدو الإسرائيلي يحاصر منزلا في البلدة القديمة بنابلس.. ومستوطنون يخربون غرفة زراعية في كفر الديك غرب سلفيت
  • بريطانيا تعلن تغييرات جذرية في نظام اللجوء
  • السيسي يستقبل حفتر.. حين تُعيد الجغرافيا تشكيل السياسة وتختبر القاهرة بوصلتها في الغرب
  • بريطانيا تستنكر اقتحام الاحتلال الإسرائيلي لمجمع الأونروا في القدس
  • بريطانيا تستنكر اقتحام الاحتلال لمقر "أونروا" في القدس
  • الرئيس الأمريكي يعطي الضوء الأخضر لتصدير رقائق ذكاء اصطناعي متطورة إلى الصين
  • «فلسطين 36»... بريطانيا وجذور المجزرة