أطلق جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة مشكورًا الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النَّزاهة 2022- 2030 والتي تُعدُّ بمثابة أداة مرجعيَّة متكاملة للعمل الوطني المؤسَّسي في تعزيز النَّزاهة ومكافحة الفساد، امتثالًا للأوامر والتوجيهات السَّامية لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم وعاطر نطقه السَّامي، وتجسيدًا للمادَّة (65) من النظام الأساسي للدَّولة الصادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021)؛ والتي جاءت نتاج جهود نوعيَّة بذلها جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة بالتعاون مع الشركاء في الداخل والخارج، وتقييم مستمر للمعطيات والمستجدَّات ذات الصِّلة بمسار الرقابة والنَّزاهة، وتعبيرًا أصيلًا عن حرص سلطنة عُمان على تبنِّي أفضل الممارسات الدوليَّة في تحقيق النَّزاهة وحماية المال العامِّ ومكافحة الفساد الإداري والمالي، وقَدِ استهدفت الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النَّزاهة منظومة الجهاز الإداري للدَّولة والشركات الحكوميَّة ومؤسَّسات المُجتمع المَدَني والقِطاع الخاصِّ والمواطنين والمقيمين، من خلال تحديد خمسة محاور رئيسة، تترجمها جملة من الأهداف المعياريَّة، وعدد من مؤشِّرات العمل لتحقيقها، وفق أدوات وآليَّات مقنَّنة، ومسار زمني واضح، ومسؤوليَّة كُلِّ قِطاع من القِطاعات المشار إليها في تحقيق أهداف الخطَّة، ثمَّ النتائج المتوقَّع تحقيقها إثر تطبيق هذه الخطَّة المستهدفة، في تحقيق أهداف رؤية «عُمان 2040» «نظام رقابي فاعل ومستقل يوظف الشفافيَّة والإفصاح ويكافح الفساد»، و»نظام رقابي شامل يحمي المقَدَّرات الوطنيَّة ويُحقِّق مبادئ المساءلة والمحاسبة».


لقَدْ منحت الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النَّزاهة، الوعي الرقابي المُجتمعي حضورًا مُهمًّا في أبجديَّات عملها وإطارها العامِّ، حيث جاء المحور الرابع فيها «شفافيَّة ومشاركة مُجتمعيَّة فاعلة» تجسيدًا عمليًّا لمفهوم الشراكة المُجتمعيَّة الواسعة في تحقيق النَّزاهة والوعي الرقابي المُجتمعي المعزِّز لغايات النَّزاهة وأهدافها وبرامجها، ذلك أنَّ بناء ثقافة الوعي الرقابي المعزِّز للنَّزاهة، ممَّا ينبغي أن تؤسِّسَ له الدوَل مسارات دقيقة وأنظمة عمل مقنَّنة، تقِيهِ مزالق التسرُّع والشطط الناتجة عن الاجتهادات الفرديَّة، إذ يُشكِّل الوعي الرقابي المُجتمعي أهمَّ مرتكزات نجاح التنمية والحفاظ على استدامة الموارد، وتحقيق العدالة والشفافيَّة والمساءلة والمحاسبة، وصولًا إلى ترسيخ مبادئ الحوكمة، ورفع سقف الضوابط ومعايير الأداء، فهو مرحلة الرُّقي الفكري والممارسة الأفضل الناجمة عن الشعور بقيمة النَّزاهة في ظلِّ موجِّهات الحقوق والواجبات والمسؤوليَّات، فإنَّ نُموَّ الوعي الرقابي المُجتمعي يعني قدرة المُجتمع على مقارعة الفساد، ومكافحة أسبابه، وسدِّ أبوابه، وتعظيم إخلاص الضمير وصدق المسؤوليَّة ونزاهة السلوك، حيث تنزيه النَّفْس من أدران الشبهات، ووقايتها من العبث بالمال العامِّ أو بحقوق الآخرين الوظيفيَّة والمهنيَّة، لذلك كانت الدعوة إلى الثقافة المهنيَّة الواعية والتحلِّي بروح المسؤوليَّة وبناء الذَّات الوطنيَّة والثِّقة في الكفاءة الوطنيَّة وتعزيز روح الإخلاص في الإنجاز وأداء الواجب، مرتكزات تقوم عليْها روح النَّزاهة وجوهرها، وعِنْدها يصبح الوعي الرقابي المُجتمعي المحرِّك الرئيس لهذه الخطَّة، والموَجِّه لبوصلة عملها، وطريق نفاذها للتطبيق، وجاهزيَّتها لبلوغ الهدف، ومسارها لتحقيق الإنتاجيَّة، والإطار العامَّ الذي يضْمَن لمبادئ النَّزاهة الاحتواء والتأثير، فكما أنَّه فرصة لبناء أفضل وإنجاز أدوم، فهو تحدٍّ يجِبُ أن تكرَّسَ الجهود من أجْل ترسيخه في ممارسات المُجتمع عامَّة ومُجتمع الشَّباب بشكلٍ خاصٍّ.
ولمَّا كانت النَّزاهة لغة راقية، وفضيلة حاكمة، ومنهجًا أخلاقيًّا رفيعًا، فإنَّهم الأقدر على تحقيقها وتعظيم حضورها وترقية ممارساتها، فهي تستهدفهم بدرجة كبيرة، وتستوجب مِنْهم مستويات عالية من الاستيعاب والجاهزيَّة، وتستدعي من مؤسَّسات الدَّولة نُهُجًا عمليَّة واضحة في التعليم والتثقيف والتوجيه، وترسيخ ثقافة نوعيَّة لتكوين الإنسان الحضاري الذي يضع الرقابة في أولويَّات حياته العامَّة، ويستشعر قِيمة الرقابة الذَّاتيَّة للوقوف عِنْد الحدود والواجبات والمسؤوليَّات، لذلك يرتبط الوعي الرقابي المُجتمعي في إطار مسار الشراكة المُجتمعيَّة ومساهمة كُلِّ فرد في المُجتمع بِدَوْره في تحقيق أهداف النَّزاهة بمنظور التقَدُّم والتطوير، فكُلَّما زاد مستوى الوعي الرقابي زادت فرص نجاح التنمية، وتقلَّصت في المقابل التحدِّيات الناتجة عن الفساد والاختلاس واستغلال النفوذ الوظيفي والرشوة، والإساءة إلى الأمانة والمحسوبيَّة وغسل الأموال والتزوير وغيرها، لِمَا تولّده النَّزاهة من بدائل للمعالجة وأنماط مختلفة من الحلول المتكاملة، وصولًا إلى التغيير الذَّاتي والإصلاح الفردي والمُجتمعي، واستشعار عظمة الأمانة الوطنيَّة. وعِنْدما تتَّخذ الأوطان من وعي أبنائها الرقابي فرصة في تهيئة ذاتها للمستقبل، فإنَّها ستصل إليه بكُلِّ واقعيَّة وستُحقِّق من الإنجازات ما يحافظ على مكتسبات التنمية الوطنيَّة، ويصبح المُجتمع ضِمْن هذا الإطار مستعدًّا لقَبول التحدِّي الناتج عن استدامة التزامه بمبادئ النَّزاهة.
لذلك جاءت الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النَّزاهة وفق سياسة تشاركيَّة تتَّسم بالتكامليَّة والحوار وتقاسم المسؤوليَّات وتعاظم الهدف الرقابي الذي يجِبُ أن يسريَ في كُلِّ جوانب حياة المؤسَّسة والمواطن، وفي مختلف مواقفه، حيث بنيت هذه الخطَّة على تعدُّديَّة الأفكار وتفاعليَّة الأُطر وتشاركيَّة الفكر، واتِّساع رؤية العمل الرقابي المعزِّزة للنَّزاهة في استقراء الأحداث، وتشخيص منظومة الرقابة والمتابعة في الأداء الحكومي، منطلِقةً في ذلك من قراءة معمَّقة للحالة العُمانيَّة بكُلِّ تجلِّياتها وتطوُّراتها وعوامل التحَوُّل التي حصلت في منظومة الرقابة، واضعة قِيَم المُجتمع وأخلاق الأُمَّة العُمانيَّة كمدخل للتغيير الذَّاتي والإصلاح وإعادة هندسة الذَّات، وفق توجُّهات استراتيجيَّة تتشارك المؤسَّسات والقِطاعات والكيانات المُجتمعيَّة خلالها إدارة نمط الخطاب الرقابي وصياغة نموذج وطني للنَّزاهة تضْمَن لها الاستدامة والاحتواء والتأثير، لِتنطلقَ مَسيرة العمل الرقابي نَحْوَ تعزيز النَّزاهة بكُلِّ ثقة، تَقُودُها الإرادة السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم ـ «النَّزاهة التي لا بُدَّ أن تَسُودَ كافَّة قِطاعات العمل، وأن تكُونَ أساسًا ثابتًا راسخًا لكُلِّ ما نقوم به»، ويقوم على صونها والمحافظة على قدسيَّتها وتبنِّي الإجراءات الثابتة لها، ورصد تجلِّياتها جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة واضعًا أولويَّته في تعزيز النَّزاهة وترسيخ معالمها وبناء برامجها ورسم ملامحها من خلال مبادراته النَّوعيَّة وتوجُّهاته المبتكرة، بالتركيز على تكامل الجهود وتفاعل الأُطر ووحدة التوجيه، ورُقي أسلوب التوعية والتصحيح، وتنمية اتِّجاهات إيجابيَّة للأفراد والمؤسَّسات بِدُونِ استثناء عَبْرَ ما تقرُّه هذه الخطَّة من أهداف منتِجة، وإجراءات ثابتة، ومسؤوليَّات ملزمة.
ويبقى نجاح هذه الخطَّة مرهونًا بما يتجسَّد على أرض الواقع من ممارسات عمليَّة ونماذج تطبيقيَّة وطنيَّة تعكس روح الوعي الرقابي المُجتمعي، والحسَّ الوطني النابع من تقدير الموارد الوطنيَّة، وحسَّ المحافظة على المال العامِّ، والأمانة الوظيفيَّة والإداريَّة، والالتزام بما تقرُّه لوائح العمل وأنظمة الأداء، مستشعرًا حجم المسؤوليَّة وعِظم الأمانة في أدائه لمهام عمله، وعَبْرَ قواعد أخلاقيَّة ثابتة مجسِّدة لصناعة القدوات وإنتاج النماذج الإيجابيَّة الفاعلة في الجهاز الإداري للدَّولة، ورفع سقف الإخلاص والمهنيَّة والاحترافيَّة في سلوك العاملين بالمؤسَّسات؛ وأن يعتمدَ قياس الالتزام الأخلاقي والقِيَمي للمسؤول الحكومي والموظف المُحقِّقة للنَّزاهة، على وجود أدوات قياس مجرَّبة وفق مبادئ أصيلة محكومة الضوابط، معلومة المحدَّدات؛ وتعظيم فاعليَّة مسار المتابعة والرقابة وكفاءته من خلال تأطير عملي لمنظومة المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي المؤسَّسي والمشاريع المنفَّذة على مستوى المحافظات، ورفع سقف الحسِّ الرقابي الوطني في وضع الأداء المؤسَّسي تحت المجهر، وتعريضه لمحطَّات اختبار مدروسة واستراتيجيَّات تبرز مستوى كفاءته وجاهزيَّة واستعداده في التعامل مع الظروف والمواقف والتحدِّيات، وتتجلَّى فيه روح الرقابة والأمانة والإخلاص، بالإضافة إلى تغيير الفكر الإداري الممارس للمسؤول الحكومي في مختلف مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة والشركات الحكوميَّة والقِطاع الخاصِّ، والخروج من نمطيَّة المظاهر والشكليَّات في العمل، وبالتَّالي قَبول المواطن خلالها لِدَوْر الدَّولة في مكافحة الفساد ومحاسبة مرتكبيه والتزامه بما تقرُّه من سياسات رقابيَّة وضبطيَّة نافذة، فكونه يعيش دَولة المؤسَّسات والقانون والرقابة، علَيْه أن يعيَ الجهود المبذولة لبناء مؤسَّسات الدَّولة الرقابيَّة والعدليَّة، وكيفيَّة عمل الأجهزة التنفيذيَّة المُحقِّقة للنَّزاهة، وكيف يؤدِّي دَوْره في تقديم تصوُّراته ورؤاه في مجال العمل الرقابي، متَّبعًا الأُسُس السليمة والوسائل المناسبة لإيصالها بكُلِّ صدق وأمانة وتجرُّد إلى جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة.
وعلَيْه، فإنَّ الخطَّة الوطنيَّة لتعزيز النَّزاهة خيار المرحلة الاستراتيجي، لأداء رقابي كفء، يتضامن معها وعي المُجتمع بكُلِّ أطيافه ومؤسَّساته وثقته في الإرادة السِّياسيَّة، والقيادة الواعدة المُلهِمة ممثَّلة في معالي الشيخ رئيس جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة الذي يقود هذا الجهاز بكُلِّ إخلاص ومسؤوليَّة، وصولا إلى تحقيق التحَوُّل الشامل في العمل الرقابي، وتنطلق في كُلِّ خطوات عملها ومراحلها ومبادراتها من صوت الوطن الذي يخاطب الأخلاق، ويستحضر الضمير، ويستشعر الواجب، والحسَّ الوطني والأمانة والشفافيَّة والموضوعيَّة والإخلاص، مبادئ أخلاقيَّة حاكمة تحفظ حقوق الوطن وموارده وممتلكاته لأبنائه وللأجيال القادمة، ويقف بحزم وقوَّة في وجْه المتقاعسين عن أداء المهام، والمتسلِّقين على أكتاف المخلصين، والمتجاوزين لحدود الصلاحيَّات، والسَّاعين إلى استغلال نفوذهم الوظيفي لتحقيق مآرب شخصيَّة وأجندة ذاتيَّة، بل كُلُّ مَن تُسوِّل له نَفْسُه اختلاس المال العامِّ أو استغلال النفوذ والسُّلطة، لِيقفَ علَيْها جهاز الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة بكُلِّ حزم، مستشعرًا الثِّقة السَّامية فيه، مستحضرًا في عمله جملة الصلاحيَّات والممكنات والبرامج والخطط النَّافذة، وأدوات التشخيص والضَّبط والرَّصد والتعقُّب والمعالجة المباشرة في تصحيح أيِّ سلوك إداري أو مالي من مؤسَّسات الجهاز الإداري للدوَلة والشخصيَّات الاعتباريَّة، الأمْرُ الذي سيضْمَن تحَوُّلَات قادمة على المسار الرقابي، تُعزِّزها إدارة كفؤة وناجحة قائمة على مبادئ الحقِّ والعدل والمساواة، والإنتاجيَّة، ومعايير الإخلاص والمسؤوليَّة، والمساءلة والمحاسبة، تأخذ بأسباب التطوُّر والتقَدُّم العالَمي وأفضل الممارسات في مجال النَّزاهة ومكافحة الفساد، وسوء الاستغلال للمناصب والتجاوزات الماليَّة والإداريَّة، والهدر في الثروات والموارد الوطنيَّة.
أخيرًا، يبقى استحضار دَوْر المُجتمع في تحقيق النَّزاهة وفتح المجال له للمشاركة في الإسهام برأيه وتقديم مقترحاته ورفع تظلُّماته وتعميق دَوْره في الإبلاغ والإصلاح، مساحة أمان تتيح للمواطن فرصًا أوسع في إعادة إنتاج سلوكه الرقابي، وتصحيح قناعات السلبيَّة والتراكمات المتولِّدة لدَيْه حَوْلَ بعض التجاوزات الماليَّة والإداريَّة وآليَّات التعامل معها، هذا الأمْرُ يأخذ في الحسبان أهمِّية إعادة النظر في التشريعات الرقابيَّة وتطويرها وتفعيل القائم مِنْها، ومتابعة ذلك وفق أساليب علميَّة مقنَّنة، بالإضافة إلى تعظيم دَوْر الإعلام والتعليم والتدريب والتثقيف في إعادة إطلاق المسار الرقابي في المشهد الاجتماعي القادم، وتعزيز حضوره في كُلِّ قنوات الاتِّصال والتواصل والخِطاب الرَّسمي والمؤسَّسي، ومن خلال فنون الإعلام المختلفة التقليديَّة والبديلة، مُعزَّزًا بالنماذج المضيئة وإنتاج القدوات التي وضعت النَّزاهة طريقها؛ أو الإجراءات الثابتة في التعامل مع غيرها من الممارسات والتجاوزات تحقيقًا لهدف رؤية عُمان 2040 «ودَوْر رقابي بصير وفاعل للإعلام».

د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: العمل الرقابی ة والإداری ة الوطنی هذه الخط فی تحقیق من خلال تحقیق ا

إقرأ أيضاً:

ما تحت الحرب.. أو الوعي المأساوي المستحكم

ما تحت الحرب.. أو الوعي المأساوي المستحكم

د. وجدي كامل

كل الشواهد والمؤشرات المرسلة من مراكز حركتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية السودانية وأطرافها ومنذ وقت طويل تدل وتدلل على أن وعياً مأساوياً ما نحمله ويتغذى منا يعيق معرفة التاريخ وما تحت سطوره وعلاقاته المشتبكة ورواياته الخفية.

ولكن ما يزيد على ذلك كون أن ذلك الوعي بات يزداد تشكلا ومع مرور الأيام كوعي عائق لذات عجلات الحياة بتجميدها وتعطيلها وجعلها حياة رتيبة ومتقهقرة تمضي إلى موات ومن ثم إلى حرب بدلا عن المضي أماما والتقدم.

فحياتنا ومنذ قرون تكاد لا تبعث فتوحات حضارية وتطورات جمعية رأسية ونوعية بقدر ما تسجل حزمة من التبعيات المتسلسلة ما قبل الاستقلال وما بعده. بل يمكن وصف أن ما جرى ويجري قد تم على أداءات وتصميمات عقلية واحدة حكمت عملها منظومة من المفاهيم المشتركة غير المؤيدة لتنمية التفكير والعمل المنتج المحسن لجودة الحياة.

وطبقا للمائة عام الأخيرة فإن قيادة أمر المجتمعات وتشكيل ثقافاتها المدنية قد اطلعت به طبقة وسطى من كبار وصغار الأفندية والحرفيين والعسكريين، فكانت ذات سهم في التبعية لتنتج تجارب شتى فشلت في صياغة مشروع وطني مستقر ومتجاوز. فقد اتجهت وطارت طلائع وعي المتعلمين أو الخريجين شمالا إلى مصر ورأوا في تجربتها السياسية والأدبية مثالا يجدر الاقتداء به فأعادوا إنتاجه سودانياً.

ولا ضير أن تتأثر تجارب البلدان بعضها ببعض ولا مندوحة من التأثر الإيجابي ولكن فالطبقة الهشة وباعتبارها الابنة المدللة للدولة المصنوعة كولونياليا كانت قد الفت ورعت التناقضات والثنائيات وربت في عقول ناشطيها نرجسية وغلوا في تزكية الذات والفردانية التي شجعتها نظم المنافسة المدرسية على التفوق الفردي والفوز بالوظيفة الحكومية (الميري) مما أدى إلى فصلهم عن مهام المساهمة أحيانا في بناء الوعي بالواقع الاجتماعي وتعدد نماذجه وتنوعها واعتبار أن كل ما هو خارج المركز الجغرافي هامشا لا قيمة لدراسته وتوقعات تطوره مما حدا ببعض المثقفين ككامل محجوب للدعوة للهجرة الريفية واعتماد صيغة انطلاق الثورة من الأرياف كصيغة من صيغ التمرد وسياقاته على العقلية الثورية الاشتراكية المركزية.

ويمكن وصف أن في عدم تبني المشاريع الوطنية الواقعية وقصور نفاذ التفكير السياسي لمتطلبات التنمية الإدارية والتعليمية (من حيث النوع واتساق المحتوى التعليمي التطبيقي حسب الإقليم والمنطقة) قد أعاق التجربة وضربها في مقتل. فثمة أسئلة تنهض هنا على شاكلة لماذا لم تقم كلية الزراعة بجامعة الخرطوم في الجزيرة مثلا حيث أكبر مشروع اقتصادي بالبلاد آنذاك؟ ولماذا لم تؤسس كلية الجيولوجيا بالنيل الأزرق أو ولاية نهر النيل أو دارفور حيث الثروات المعدنية والموارد الطبيعية المعدنية.

أكثر من ذلك فإن ما سمي بالتعليم الفني كان ما يستحق التوسعة والتوسيع وبناء القدرات في كافة مدن السودان بدلا عن كلية يتيمة تقبع بالعاصمة الخرطوم؟ فالتعليم الذي خطط له وصنعت مخرجاته السياسات التعليمية ثبت انه وفي جملة محتوياته قد دفع بالمتعلم للانفصال عن بيئته بدلا عن الاتصال بها وبأسئلة التطور التطبيقية وخدمة واقع الحياة الاجتماعية على نظم ونماذج دقيقة من التنمية.

فمئات الآلاف من الخريجين ومنذ نشأة التعليم لم تتمكن وحتى الآن من تحويل معارفهم العلمية إلى أسلوب تنموي علمي يمكن بدوره من النهوض بأبنية الوعي للمجتمعات ويؤثر تنمويا عليها. بل إن حقيقة ما حدث هو أن المجتمعات في أريفتها وقعودها ونبذ مؤسساتها الاجتماعية الأهلية التقليدية ولكي تحافظ على نمط العيش وما ترتبط به من مصالح هي من أثرت على سلاسل المتعلمين عبر السنين فجعلت من تعليمهم تعليما مظهريا يشغل الوظائف ويطلب ود التفاخر بالشهادات أكثر من خدمته لقضايا ومشكلات الواقع المعقد. والمتعلم وإن تجلت خدماته وبذلت في حقول مثل التعليم والصحة والهندسة ومجالات أخرى إلا أن كل ذلك جاء بما يشبه المهام الوظيفية الواجبة المقررة بتوفر متواضع لمخرجات التفكير الابتكاري والتفكير التحويلي التطبيقي الداعم لتنمية الواقع المحيط.

غير أن مأساوية الوعي لا تقف هنا بل تذهب إلى عادة الهدم المنظم والمتواتر لإنجازات متواضعة كانوا قد حققوها في الخدمة المدنية وضروب العمل الحكومي والخاص فباتوا يقتاتون مما صنعوه قبلا واعتبروه مجدا وفتوحات خارقة.

وإذا ما كان هناك استثناء من بين كل ذلك فالحياة الشعرية والفنية الموسيقية والغنائية والأدبية وكل متعلقات الإنتاج الأدبي والفني تكاد تصبح هي من أفضل ما قدمه السودانيون خلال المائة عام المنصرمة من داخل منظومة الطبقة الوسطى المركزية مع تطبيقات سياسية متنوعة عبر أحزاب سياسية وعسكرية فشلت إلى الآن في إقامة الحكم الوطني التنموي الديمقراطي المشتغل بفكرة تأسيس ورعاية سياسات النهضة التنموية.

غير أن الأقرب والمباشر الذي يساعد في قراءة الوعي المأساوي يتمثل في ارتباط وعي المتعلم بالفضاء التقليدي الديني والأدبي والمدرسي الذي يخشى في جوهر تراكيبه نقد ما كان والعمل على إعادة تخليقه وبحيث ساهم في الفرجة على الواقع واكتفى بالعمل على هوامش مادته بدلا عن عمله بأفكار التنمية ومهامها العاجلة. وعلى تراكم تأجيل المهام لبناء سياسات وطنية ذكية وضالعة في التنمية وأهدافها تفاقمت المأساة الوجودية للسودان والسودانيين.

ويظل سؤال لماذا حدث ويحدث كل ذلك سؤالا مقلقا لمضاجع العديدين ممن يشتغلون بموضوعات التفكير النقدي ولهم في تفسيره أطروحات وآراء وإن كانت لا تزال تواجه المقاومة الشرسة من حراس فكرة ليس بالإمكان أبدع مما كان.

أقرب التفسيرات الغالبة لما يجري تتصل برعاية وتبني وتأييد وعي مأساوي بالحياة نفسها التي يحسبها العقل الجمعي المتواطئ مع تراثه الصوفي وباعتبار عدائه للتنمية إنها دار خراب وليس عمار وتنمية وأن من يجنح إلى عمار الدنيا يخرب آخرته.

والمفهوم الصوفي هذا للدنيا يجردها من خصائص المكان والزمان والوطن والمواطنة وهو ما أفلحت بنشره قوافل وجحافل المهاجرين من مؤسسي الطرق الصوفية وأودعوا مفاهيمها في العقول فأصبحت التغذية المعلوماتية ومهما بلغت شأواً عظيما من الفائدة التطبيقية والنظرية ليست ذات ترحيب وتزكية من العقل التقليدي الداعي للزهد والتطهر من (أدران) وشروط وعلاقات التطور.

هذا العقل الزاهد المضرب بطبيعة الحال عن الدنيا في جوهرها لا ينفي إعجابه بالتقليد للحداثة ومنتجاتها ولكن على نموذج الحصول على الفائدة دون أدنى مسؤولية من متاعب وشروط صناعتها.

الأجيال الجديدة ليست استثناء من ذلك ولكنها ومن شدة فاقة المهم التاريخ خرجت تبحث عن نفسها بنحو مصادم مع المؤسسة السياسية ولا تزال تزاول تلك المهمة النقدية المقدسة بكلفة الدماء وبذل الأرواح. لم لا؟ فالثقافة والثقافة السياسية هي قاتلة أحلام السودانيين بمؤسسات شتى وبنظم تفكير متشابهة ترى في إدارة الدولة مطلبا للتملك دونه خرط القتاد.

والسياسة بوصفها الراعي الرسمي والحصري في إنتاج الوعي المأساوي تصبح أولى المستهدفات بتغيير ثقافتها وإعادة بناء استراتيجيات سياساتها على نحو يلهم بصناعة واقع حضاري وثقافي مختلف بدلا عن مشاغبة حياة السودانيين وتجريحها بدون حساسية ثقافية ووطنية جعلت من السودان مضربا للمثل في وصف الدولة المريضة والبلد التعيس بإدارة حكامه ومجتمعه السياسي.

الخروج لن يكتب إلا بتغيير العقل العام ومنه السياسي والثقافي والاقتصادي بدمقرطة الوعي أولا وإلغاء خاصية تجاذباته وخصوماته حول حقائق التطور باتباع طريق التفكير العلمي وترك القرار للعقل العلمي السياسي بدلا عن العقل المضاد للعلم ونتائجه التي يعمل وفقها العالم وتؤيدها مجريات التطور.

الأحزاب في ذلك مطالبة بخلق الثورة بداخلها أولا وكذلك المنظمات المدنية وترفيع التفكير والثقافة السياسية المؤيدة للعلم والمؤيدة بدعمه غير المحدود لها.

حتى ذلك ستظل مقارعة الفراغ ودوران طواحين الهواء والتكلس ظواهر غالبة ومانعة لانطلاق عجلة التطور العلمي وترك القرار للعقل العلمي السياسي بدلا عن العقل المضاد للعلم ونتائجه التي يعمل وفقها العالم وتؤيدها مجريات التطور.

12 أكتوبر 2023

الوسومالأفندية الاستقلال الاشتراكية الحرب الحرفيين السودان الطبقة الوسطى العسكريين الوعي المأساوي المستحكم د. وجدي كامل مصر

مقالات مشابهة

  • «الشباب والرياضة» بقنا تطلق فعاليات رياضية وتوعوية لتعزيز الوعي وتمكين الفتيات
  • انطلاق ملتقى «قادة الغد» لتعزيز وعي الشباب وبناء الشخصية الوطنية
  • التأمين ودوره في حماية المرأة
  • ما تحت الحرب.. أو الوعي المأساوي المستحكم
  • النصر في زمن الهزائم .. مأساة الوعي العربي في غزة
  • “البصمة البيئية والتحول الأخضر”..ندوة بجامعة قناة السويس لتعزيز الوعي بالطاقة النظيفة
  • المشاط: الشراكات الدولية محور رئيسي بـ «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية» لتعزيز الاستثمارات
  • خطط استراتيجية لحماية البيئة ومواجهة الأنواء المناخية في سلطنة عمان
  • السفير حمدان من الأرجنتين.. لتعزيز الوحدة الوطنية والسلام
  • هيئة الإمارات لسباق الخيل تستحدث وحدة جديدة للنزاهة